وتعود أسباب هذا التصعيد في مظاهر إحياء ذكرى النكبة، بشكل رئيسي، إلى الحرب المستمرة على غزة، وإلى ما رافقها من حراك جماهيريّ واسع، ودعوات إلى مقاطعة الكيان الصهيوني والشركات الداعمة له، ذلك أن ما يحدث من انتهاكات وجرائم ضد الإنسانية في غزة يمثّل نكبة متكرّرة، ما انعكس في مقارنات نصّية وبصرية بين النكبة والحرب على غزة تناقلها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي على مدى الأشهر الماضية.
وتلعب مواقع التواصل الاجتماعي اليوم دورًا مؤثرًا في تعزيز التأييد والانتماء للقضية الفلسطينية؛ فمنذ بدء العدوان على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، راكم مستخدمو هذه المواقع محتوىً مرئيًا ونصيًا هائلًا يصبح أقرب إلى أرشيف ضخم يسرد المأساة الغزّية، إذ هو يضم مواد بصرية ونصّية كثيرة توثّق الأحداث والانتهاكات، من قصف وقنص وتهجير واعتقال، وتروي حياة اللاجئين في الخيام، وقصص الضحايا والناجين. نتيجة لذلك، وعبر استمرار النشر وتراكمه وتطور أدوات وجودة المحتوى، أصبح لدى الشعوب المختلفة وعي أعمق بالقضية الفلسطينية، فنتج عن هذا الحراك على مواقع التواصل الاجتماعي حشد دعم وتأييد للقضية الفلسطينية على نطاق واسع لم يُشهد له مثيل في تاريخها، وذلك رغم الحظر والمنع والتقييد الذي يواجهه المستخدمون على هذه المواقع، وهذا التقييد بدوره ما هو إلا مؤشّر إلى قوة هذه المواقع في التأثير في مسار القضية وصراعها مع الاحتلال.
بين غزّة والنكبة
لم يقتصر المحتوى الذي يقدمه النشطاء على غزة وأحداثها المأساوية الحالية، بل وجد كثير منهم أن هنالك ضرورة لسرد الحكاية الفلسطينية منذ بدايتها؛ فقام كثير منهم، وعبر ما يقدمه من محتوى، بوضع العدوان على غزة في سياقه المكاني الأوسع ــ فلسطين التاريخية، التي تشهد ضفّتها الغربية أيضًا انتهاكات يومية صارخة، كما وضعوه في سياقه التاريخيّ الممتد منذ النكبة. على سبيل المثال، وفي حلقته الشهيرة "فلسطين... حكاية الأرض" التي بثّها بعد أسابيع قليلة من بدء العدوان على غزة، يبدأ أحمد الغندور، المعروف بالدحيح، بسرد فظائع المقابر الجماعية التي تعود إلى مجزرة وحشية نُفّذت في الطنطورة إبان النكبة، حققت الحلقة لغاية الآن أكثر من عشرين مليون مشاهدة، كما تمت ترجمتها إلى الإنكليزية.
لذا يمكن القول إنه تمّ بالأصل، وعبر أشهر العدوان، مراكمة وعيٍ واسع حول النكبة، إذ سبق ذكرى إحيائها هذا العام محتوى تضمن نصوصًا ومرئيات كثيرة جدًا تروي حكايات الاقتلاع والتهجير والمجازر واحتلال الأرض، وذلك بأدوات مختلفة قادرة على إيصال المعلومات والرسائل إلى مختلف مستويات الجمهور.
ومع حلول الذكرى الـ 76 للنكبة في أيار/ مايو الحاليّ، استخدم النشطاء العرب والأجانب مواقع التواصل ووسائل النشر المتاحة عليها بشكل نشط وفعّال بهدف التوعية وحشد التضامن على نطاق واسع، وذلك عبر نشر المحتوى المرئي والمكتوب الذي يسلط الضوء على التاريخ والتأثيرات السياسية والجغرافية والاجتماعية والإنسانية للنكبة.
على سبيل المثال، يتداول كثير من النشطاء ملصقًا يوضح، بلغات مختلفة، الاستيلاء الاستعماريّ المستمر على أرض فلسطين التاريخية منذ النكبة مرورًا بالنكسة وحتى العام الحالي، وذلك عبر رسم مكرّر لخارطة فلسطين التاريخية تتناقص فيه مساحة الأراضي الفلسطينية. كما نُشر كثير من الملصقات المصمَّمة خصيصًا للذكرى الـ 76 للنكبة، وتلك التي تدعو إلى المشاركة في مسيرات وفعاليات داعمة للشعب الفلسطيني ولإحياء ذكرى النكبة.
أنسنة الحدث
يقوم صانعو المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي بتقديم سردية للنكبة باعتبارها مأساة إنسانية بالدرجة الأولى، مسلّطين الضوء في الوقت ذاته على نتائجها السياسية والتاريخية. تتشكّل هذه السردية عبر طرق وأدوات عديدة من أبرزها: توظيف صور ومقاطع فيديو تعود لفترة النكبة ضمن محتواهم، ما يمثل بدوره أرشيفًا لذاكرة بصرية مرادفة للذاكرة الجمعية حول النكبة. كما يستخدمون الرسوم المتحركة والإنفوغرافيك، كوسائل بصرية مؤثرة لشرح القضايا التاريخية والسياسية بطرق مبسّطة وجاذبة.
يقوم صانعو المحتوى كذلك بتقديم قصص من النكبة وشهادات لفلسطينيين مهجّرين، وبذلك يأخذ هؤلاء النشطاء دورهم في تناقل الحكاية الفلسطينية والذاكرة الجمعية، تلك التي بدأت في مخيمات اللاجئين عبر حكايات يرويها الآباء والأجداد للأبناء حول الوطن المسلوب، وظلّت تنتقل بين الأجيال الفلسطينية. يساهم هذا المحتوى، الذي يتضمّن شهادات لشهود عيان من النكبة، أو قصصًا يرويها أبناء وأحفاد ورثوها عن آبائهم وأجدادهم المهجّرين، في تعزيز الجوانب الإنسانية والشخصية للحدث، وفي تشكيل صورة عن النكبة غير محصورة في السياسي والجغرافيّ وفي أرقام الضحايا والمهجّرين، ما يساعد على تعميق فهم الجمهور للمأساة الفلسطينية وحشد التعاطف والتأييد للفلسطينيين.
السرعة ــ التفاعل ــ التأثير
تعود فعالية المحتوى المقدّم على مواقع التواصل الاجتماعي في تقديم سردية للنكبة إلى عدة ميزات تتوفر فيه، من بينها: قدرته على الإيصال الفوري للمعلومات، فهو يمكن أن يصل إلى جمهور واسع حول العالم وبشكل سريع ومباشر، فالصور ومقاطع الفيديو يمكن أن تنتشر بسرعة كبيرة لتجذب انتباه عدد كبير من الأشخاص في وقت قصير. ويستخدم صانعو المحتوى الوسوم (الهاشتاغات) الأكثر تداولًا المتعلقة بالنكبة، أو بفلسطين بعامّة، وذلك لرفع نسبة مشاهدة المحتوى الذي يقدمونه، والترويج له على مختلف المنصّات الاجتماعية، مثل تويتر، وفيسبوك، وإنستغرام، وغيرها.
كما يمكن لصنّاع المحتوى عرض الأحداث الساخنة والقضايا المتعلقة بها بشكل مباشر وواضح، ما يساعد في نقل رسائل محدّدة وتبسيط قضايا معقّدة. يضاف إلى ذلك إمكانية توثيق التاريخ والأحداث والانتهاكات الحالية عبر محتوى مواقع التواصل الاجتماعي، بل إن كثيرًا من الجهات الإعلامية والحقوقية تعتمد عليه في مصادرها. كما أنه يساهم بلا شك في التصعيد والتحريض وتثوير المشاعر وحشد التعاطف، وذلك عبر تأثيره على المشاعر، وتحفيزه الجماهير على المشاركة والتغيير.
مع الوقت، يصبح لصنّاع المحتوى متابعون، أو جمهور، كما يصبحون قادرين على تشكيل شبكات اجتماعية جديدة، ما يمكّنهم من جذب انتباه الرأي العام والجهات الإعلامية، ويمكن أن ينجحوا أيضًا في اجتياز الحواجز اللغوية والثقافية. يضاف إلى ذلك إمكانية التواصل المباشر مع الجمهور وتبادل الأفكار والآراء معه حول الأحداث وبشكل فوري، ما يسهم في بناء حركة تضامن ودعم عالمية لقضية الشعب الفلسطيني. وبذلك، وعبر تحفيز النقاش والحوار بين المتابعين بشأن القضية الفلسطينية وقضايا العدالة وحقوق الإنسان بعامّة، يتم تشكيل رأي عام بشأن الوضع في فلسطين والأحداث المتعلقة بها.
عبر ما سبق من ميّزات لهذا الحراك، ومن خلال التركيز على القضية الفلسطينية، وما يتعلق بها من أحداث، فإن المحتوى المقدّم على مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن يصبح قادرًا على التأثير في الاتجاهات والقرارات السياسية، على المدى البعيد بخاصة؛ ذلك أنه يعمل على رفع الوعي بهذه القضية، ومراكمة ثقافة شعبية سياسية تنتمي لها، عبر حشد الدعم والتأييد، وتكوين رأي عام مناصر، ما يدفع الحكومات والمنظمات لاتخاذ قرارات وإجراءات عادلة بشأن حقوق الشعب الفلسطيني.
الإبداع ـ التواصل ـ المصداقية
برز خلال العدوان على غزة كثير من صنّاع المحتوى العرب والأجانب، الذين يقومون بدور هام ومؤثّر من خلال ترسيخهم صورة واضحة عن الحقائق والأحداث، وسعيهم إلى رفع درجة الوعي بالقضية الفلسطينية، وعملهم على كشف جرائم الاحتلال، وتفنيد البروباغندا الصهيونية، وادّعاءات الاحتلال التي ترمي إلى تشويه الحقائق والتاريخ وصورة الفلسطينيين ومقاومتهم للاستعمار. ويتمتع هؤلاء بميزات تجعلهم قادرين على تقديم محتوى ناجح يلاقي قبولًا وتفاعلًا وانتشارًا على نطاق واسع؛ فهم يمتلكون القدرة على التواصل الفعّال مع جماهيرهم ومتابعينهم، وذلك عبر الحضور والأسلوب والمحتوى الذي يميز كل منهم.
كما يمتلك هؤلاء النشطاء القدرة على الإبداع، سواء على صعيد المضمون والأفكار المطروحة، أو الأسلوب والأدوات التقنية والتأثيرات البصرية المستخدَمة؛ فالإبداع هو لا شك من أهم عناصر قوة المحتوى المقدّم التي تمكنه من أن يحظى بالتفاعل والقبول. يضاف إلى ذلك قدرة صانع المحتوى على التجديد والابتكار وجذب انتباه الجمهور لمشاهدة المحتوى كاملًا. تلعب المصداقية أيضًا دورًا هامًا في نجاح المحتوى وانتشاره وزيادة عدد متابعيه، فالاعتماد على مصادر موثوقة يعزّز ثقة الجمهور بالمحتوى وصانعه، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا إنسانية تاريخية ومأساوية كالنكبة، أو غيرها من القضايا الحسّاسة.
بين النصّ والصورة
لعل المواد البصرية حول النكبة، وغزة، والقضية الفلسطينية بعامّة، هي الأكثر تداولًا وانتشارًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك لما تملكه الصورة ــ سواء كانت ملصقًا، أو رسمًا، أو لوحة، أو مقطع فيديو ــ من قوة تأثير وجذب وقدرة على إيصال الرسائل بشكل سريع ومبسّط، بحيث يتم توظيف الألوان والرموز والأشكال البصرية بشكل فعّال للتعبير عن الأفكار والقصص المرويّة. وتوفر تقنية الفيديو بشكل خاص إمكانية سرد الموضوع، كقصة مصورة، أو محكيّة، بشكل حيوي ومبسّط، كما تقدم الفرصة لتوجيه القصة بطريقة درامية وجذّابة تبعث على التفاعل.
ورغم أن غالبية صناع المحتوى، والجمهور كذلك، يفضلون المحتوى المصوّر، إلا إنه لا يمكن إنكار دور النص في مراكمة سردية للنكبة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ فكلٌّ من النص والصورة يؤدي دوره في تكامل تلك السردية، إذ يعد النص أداة أساسية لنقل المعلومات والأفكار بدقة ووضوح، ويتم توظيفه بهدف تقديم شرح تفصيلي حول الموضوع وتوجيه الجمهور نحو الفهم الصحيح.
وبذلك لا يمكن تحديد الوسيلة الأكثر نجاحًا بشكل عام؛ إذ يؤخذ بعين الاعتبار السياق والهدف المحدد الذي يرغب صانع المحتوى في تحقيقه، فقد يعتمد بشكل رئيسي على الأدوات البصرية في حال كان ذلك مناسبًا للسياق العام للمحتوى، أو قد يكون النص هو العنصر المسيطر في حال كان ذلك الخيار الأفضل لطبيعة المحتوى، أو قد يجمع بينهما. وبالتالي، فإن الخيار الأمثل يعتمد على السياق العام للمحتوى وأهدافه ورسائله؛ قد تكون الصورة مناسبة لجذب الانتباه السريع، بينما يمكن للفيديو أن يعبّر عن قصة ما بشكل شامل. أما النص فتكمن أهميته في إثراء المحتوى بالتفاصيل والشروحات والمعلومات اللازمة. وبذلك فإن تحقيق التوازن بين النص والصورة يبقى ضروريًا من أجل تحقيق نجاح المحتوى وانتشاره.
أخيرًا، على مدار شهور العدوان، تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى جدران افتراضية تدوَّن عليها، وبشكل يومي، السرديّة الفلسطينية منذ النكبة حتى العدوان الحالي على غزة، وذلك بأساليب نصية وبصرية شديدة التنوع، لتلقى هذه السردية تفاعلًا وانتشارًا واسعيْن، ولتسهم في إبراز حجم الظلم الذي تعرض له الشعب الفلسطيني، وتعمل، بالتراكم والاستمرارية وتحفيز النقاش السياسي والثقافي، على رفع درجة الوعي بالمأساة الفلسطينية، وحشد دعم وتأييد للقضية الفلسطينية، وتكوين رأي عام مناصر لها. يضاف إلى ذلك دور هذه السردية على جدران مواقع التواصل الاجتماعي في نشر الثقافة والهوية الفلسطينية، ورموزها الوطنية والتراثية، بطرق إبداعية تتميز بالتنوع والابتكار، تعكس جماليات الهوية الثقافية الفلسطينية وتعزز مشاعر وسلوكيات الانتماء لها. لذا، لا شك في أن هذه السردية على مواقع التواصل الاجتماعي تسهم في تشكيل حركة عالمية تعارض الاحتلال وتدعو إلى العدالة والحرية للشعب الفلسطيني.