}

في رحيل السيناريست فؤاد حميرة: رَحَلَ الغَزالُ وبَقيَ الذِئْبُ

أنور محمد 17 يونيو 2024
هنا/الآن في رحيل السيناريست فؤاد حميرة: رَحَلَ الغَزالُ وبَقيَ الذِئْبُ
فؤاد حميرة (1965 ــ 2024)

الكاتب والممثِّل فؤاد حميرة (1965- 2024) كان بمثابة صانع شرف الدراما السورية الذي لفت الانتباه إليه في مسلسله التلفزيوني "غزلان في غابة الذئاب"، من إخراج رشا شربتجي عام 2006، والذي انتقد فيه الفساد السياسي والاقتصادي بجرأةٍ غير مسبوقة، فكان في عمله الدرامي هذا كمن يريد أن يحمي فيه الناسَ ويفتح عيونهم على قبضة الدولة، وهو ما حرَّك الحوارات والسجالات في الشارع السوري، فبدا المسلسل في حينها كأنَّه مثل حلم يقظة.
حميرة كاتب درامي يصعب تعويضه. فأعماله هي إعادة بناء نفسي للذات التي انكسرت أحلامها. فالبيت والمدرسة وساحات المعارك والحقول والأنهار والسهول والجبال، والسماء ونجومها، ونتائج الامتحانات، والوقوف صفًا صفًا كقطيع الأغنام أمام المخابز، وباقي المؤسَّسات الخدمية؛ كلُّها صارت أمكنة عدائية للإنسان، وصارت الحريَّة حلمًا/ نجمًا يبعد ملايير السنين الضوئية.
الممثِّل والكاتب فؤاد حميرة في أعماله ومسلسلاته حوَّل أساطير القهر والألم التي يعيشها الإنسان العربي إلى واقعٍ، وأشعل وروَّض ضوء الحلم في عقله وقلبه، وأعاد صياغته وفقًا لميتافيزياء النفس العربية فَتنقُد وتَنتَقِد، وتجأر برأيها. قدم لنا حكاياتٍ وحكايات، كيف تُحضَّر أرواحنا على موائد الأنذال، وكيف تُنتَزعُ بحفلات عبر الأقمار الصناعية، فيما كان غيره من كُتَّاب الدراما السورية والعربية، الكُتَّابُ المرتزقة، يرتكبون الجرائم التي تغذِّي وتُسهِّل وتُروِّج للجنس والعهر السياسي والاجتماعي والأدبي والاقتصادي وللعنف، في عمليةِ ابتزاز وتهجين وتدجين لمشاعر الجرأة والشجاعة والنخوة والقوَّة عند الناس، وللتنازل عن حقوقهم وعن قضية القضايا ــ فلسطين. فؤاد حميرة في مسلسلاته كان يُسمِّر ويُخيِّط الأفواه التي تفتحها لتأكل، ولا يفتحها إلاَّ لتَتَكَلَّم وتنقد جلادها. فالإنسان ليس رقمًا، وكلُّ الاحتلالات والاستعمارات والاستبدادات يقضُّ مضجعها الذي يُشرِّك العلاقة بين الناس، ويقوي وحدتهم. لنراقب ونجمع ونطرح كَمْ من كلام الناس فوق هذه الأرض الذي قالوا فيه ما قالوا عن حقِّ الفلسطينيين بأراضيهم، وأنَّ ما تقوم به دولة إسرائيل الصهيونية من (أفعال) قتل وتدمير وإبادة بحق الغزاويين منذ طوفان الأقصى، هو أعمالٌ وحشية، بل إنَّ الوحوش لا تفعلها، وكم كان هذا (الكلام) مخيفًا ومرعبًا لصهاينة إسرائيل وأميركا والعالم، والعالم العربي.
إنَّه الكلام، صحيحٌ أنَّ (الصورة) المقترنة بالكلام سادت وتسيَّدت من خلال الفضائيات. ولكنَّنا نهدأ ونثور ونرضى ونغضب بالكلمة/ الكلام المقروء والملفوظ، وهو ما أجاد قوله فؤاد حميرة الذي أعاد النظر في هذه الأداة التعبيرية في أعماله الدرامية لتتوافق مع مطالب الإنسان بالحريَّة والكرامة.




السيناريست فؤاد حميرة كمثقَّف وطني لا وجود عنده للإنسان من دون كلام، والكلام الذي يتحسَّس به جوعه وفقره، والذي يصوغ به نقده، ويُعبِّر عن رغائبه وأحلامه وفق سيرورة لا تُقوِض ولا تصادر تطوره التاريخي. هو كاتب ومؤلِّف درامي لا يذهب إلى خلق شخصياتٍ مُحسَّنة، أو يقوم بتحسين نسلها كما يحصل في الدراما العربية. حميرة هو من يُحرِّضها؛ إن كان في مسلسل "غزلان في غابة الذئاب"، أو "رجال تحت الطربوش"، أو الحصرم الشامي" بأجزائه الثلاثة، أو "شتاء ساخن"، أو "مَمَرَّات ضيِّقة"، أو "كسر عضم"، الذي اتَّهَمَ صُنَّاعه عندما عُرِضَ في رمضان 2022 بسرقة فكرة وخطوط الشخصيات والحوارات من مسلسله "حياة مالحة"، الذي كان مقرَّرًا تصويره في عام 2011 من إنتاج شركة "كلاكيت"، وكتابة فؤاد حميرة. يُحرِّض شخصياته وقد أمسى صوتَ ضميرها لتلعب دورها التاريخي، مهما كانت تحمل من تشوهاتٍ خَلقية، أو خُلقية، بسبب القمع. فكان يغوصُ عميقًا في أسباب، أو في تعرية البُنية السببية لخوفنا وعجزنا وعدم قدرتنا في مقاومة القهر السياسي والاجتماعي القسري العنيف. فالفن عنده ليس بضاعة مادية، وليس سلعة. الفن عندهُ لكي يُخضع التاريخ للمحاكمة لنعرف سبب انحطاطنا، ذلك في (سيناريو) صورة مرسومة بمخطَّط حسِّي حركي حتى لا يتجفَّف ويتيبَّس الحلم، فتشعر في صورته كان مَنْ كان المُخرج، هشام شربتجي، أو سيف الدين سبيعي، أو رشا شربتجي، أو فراس دهني، أو محمد الشيخ نجيب. إنَّك مع صورة من فعل واقعي، فيَضعُنا في صراعاتٍ وسلوكاتٍ وهي في حالة تحوُّل نحو ذرواتٍ، وكأنَّه لا ينفكُّ يرى كلَّ رجل في آلة الدولة العالم ــ ثالثي ورابعي وخامسي ــ ديكتاتورًا دمويًا، فيما شركاؤه من أصحاب الثروات التي سرقوها بحمايته من المال العام قَتَلَة. وما موته المفاجئ هذا في الإسكندرية في مصر، التي لجأ إليها عام 2015، بعد أن كان لاجئًا في فرنسا وتركيا، والذي توقَّعه في منشوره على صفحته في فيسبوك: (أيووووه.. ده الموت حلو يا ولاد) قبل ساعاتٍ، كأنَّه يطلبه، يطلب الموت، أو أنَّه أحسَّ بأنَّه يُموَّت؛ إلاَّ راحةً لأعصابه المُعذَّبة في هذا الجحيم العربي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.