}

بعض شجون العيش في الحفرة السعيدة

منذر مصري 2 يوليه 2024
هنا/الآن بعض شجون العيش في الحفرة السعيدة
Inside looking out (منذر مصري)

"من قال إن البلاد المخربة ليست أوطانًا يحنّ لها أهلها ويعودون إليها" 

رفعت مصري- ستوكهولم


الناس عند إلياس:

وكأني بقيت لأكتب لكم عن الحفرة السعيدة! وكأنه عندما دعيت للكتابة في موقع "ضفة ثالثة"، كان في ذهني أني دعيت خصيصًا، بما أني أحد الذين حدث وبقوا حيث هم، لأسباب لا داعي لأن نعيد كل مرة ذكرها، لأجل أن أكتب عن الحفرة السعيدة، عن حياتي في الحفرة السعيدة، عن الناس، عن العيش، عن كفاح الناس من أجل العيش في الحفرة السعيدة! الناس، البشر، الذين عملهم الأول وغايتهم الأولى العيش، وربما، بتفكير أعمق، لا عمل لهم ولا غاية سوى العيش والاستمرار في العيش. ولا يحق لأحد أن يكلفهم ما يزيد عن ذلك. افهموا هذا يا مثقفون. افهموا هذا يا ثوار! كما كان يردد، دون ملل ولا كلل المفكر الراحل إلياس مرقص. ذلك التثمين العالي الذي كان إلياس يعطيه لكفاح الناس، عموم الناس، عامة الناس، الكتلة الكبرى من الناس العاديين، الفلاحين، العمال، الموظفين، المهنيين، التجار الصغار، أصحاب الدكاكين، أصحاب الورش، من أجل العيش، وإنه في حال تعذّر عليهم هذا، فهم الذين يقررون ماذا يفعلون حياله، وهم دائمًا يفعلون ما يجب فعله، على أفضل وجه.

عامل المرفأ وبائع البالونات:

ذكرت مرة، في أحد مقالات كتابي: (مغلقة بسبب الإصلاحات -2016) ما قاله قريب لي يشتغل عاملًا مياومًا في مرفأ اللاذقية: "لا تظن الموت أصعب من العودة للبيت ورؤية أولادك جائعين". قال لي هذا منذ عشر سنوات، أي بعد أربع سنوات أو خمس من الزلزلة السورية الكبرى، مع الاعتذار ممن يسوؤه هذا النوع من التسميات، رغم أنها لا أكثر من كناية، يبرر لي استخدامها اعتبارات كثيرة، أصدقكم أن الخوف ليس إحداها، غير أن صديقي الراحل (ع. ق. ه) كان يسميها كذلك، وأحيانًا أخرى، كان يحلو له أن يسميها بركانًا. ولكن البارحة، البارحة مساء، وأنا أمشي في الظلمة التي تغمر المدينة من بيت أخي ماهر إلى بيتي، عبرتني كتلة مضيئة، فإذ بها شاب يحمل بكلتا يديه وعلى كتفيه وحول خصره، بالونات بلاستيكية على شكل قلوب وشفاه وقطط ورجل العنكبوت، ملونة ومضيئة، يساعده ضوؤها على تجنب حفر الأرصفة التي تحول العتمة من رؤيتها أمامه، كما يساعده لأن يلفت أنظار زبائنه من الأطفال! فكان أن أوقفته سائلًا إياه ما إذا كان عمل كهذا، بيع البالونات، يكفي لإعالة أسرته؟ أجابني الشاب بكل أريحية، بعبارة "مستورة! فالبضاعة والحمد لله ملكي، أنتقل حاملًا إياها كل يوم مساء من الكورنيش الغربي، وحديقة البطرني، إلى الكورنيش الجنوبي، ومقاهيه ومطاعمه. من الساعة السادسة مساء حتى الثانية ليلًا. وفي أي حال هذا أفضل من العمل أجيرًا عند الناس". وحين سألته "كم سعر البالون؟"، أجابني "الواحد بخمسة آلاف ليرة، والاثنان- لي إذا أحببت أن أشتري- بثمانية آلاف". اشتريت اثنين بعشرة آلاف، أخذتهما وعلقتهما على باب بيت أختي الصغرى، أم سيليا ذات السنتين والنصف، فوق بيتي، بعد أن خبطت عليه عدة مرات ولم يفتح لي أحد.

الشاعر خليل درويش في جلسته اليومية في مطعم (ستوريز) بالقصاع


أسوأ مدينة للعيش في العالم في عيون الشعراء:

قرأت البارحة أن مجلة "الإيكونوميست" البريطانية صنفت دمشق كأسوأ مدينة للعيش في العالم، فكيف الحال إذًا بالنسبة لحلب وحمص نصف المهدّمتين واللاذقية مدينتي؟ أسألكم. دمشق التي كان يقال عنها إنها تصلح أن تكون عاصمة دولة أكبر وأهم من سورية! دمشق هذه التي تقبع في قعر تلك القائمة يسألنا عنها ابنها نزار قباني:

"هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟"

واسمحوا لي أن أجيبه: "أظنه سيختنق!".

ومحمود درويش عشيقًا:

"في دمشق

تسير السماء على الطرقات القديمة حافيةً حافية

فما حاجة الشعراء إلى الوحي والوزن

والقافية؟"

وكأنه يبرر في قوله هذا ظاهرة أن كل الشعراء الذين التقاهم فيها سنة 2004 يكتبون قصيدة النثر! ثم يقولها، يبقّها، محمود درويش ولا أدري إذا كان يعرف عماذا كان يتكلم عنه:

"نحن والأبديّة سكّان هذا البلد"

 

أما أدونيس ذو العلاقة الملتبسة مع دمشق، كما عموم المدن، كما بيروت، والصورة القاتمة التي رسمها بها في محاضرته في مسرح المدينة سنة 2003، أو نيويورك التي أشاد قبرًا لها في إحدى مطولاته! فيقول عن دمشق في قصيدته "مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف" (1970) بحسّه التنبؤي المأسوي:

"ودمشق بيروت العجوز

صحراء تزدرد الفصول

دمٌ تعفّن

ولم تعد نار الرموز"

أعترف أني لا أستطيع أن أفسر لكم العبارة التي أحفظها من دون أن أعرف معناها منذ نصف قرن: "ودمشق بيروت عجوز"، فما بالكم بعبارة "ولم تعد نار الرموز"؟ أظنها تحتاج ضربًا بالرمل.

ولقد رأيت أن أعفّ عما غمرها به سعيد عقل من قصائد وأناشيد، طافحة بالحب والاعتزاز، ذلك لأننا جميعًا نعرف ونحفظ عن ظهر القلب ما غنته فيروز منها. ولكن بعد كل هذا، أشعر وكأنه يحتم عليّ السؤال: كيف صارت دمشق الجميلة هذه أسوأ مدينة للعيش في العالم؟ من أوصلها إلى هذا الدرك؟ من مضى بها إلى هذا المصير؟

خالد خليفة ويوسف عبدلكي:

إلا أنني في السنة الماضية وبمناسبة معرضنا المشترك: (1970-1971) مأمون صقال وسعد يكن وأنا، أمضيت في دمشق ما يقارب العشرة أيام، وزّعت إقامتي فيها على الصديقين خالد خليفة ويوسف عبدلكي. بيت خالد في مساكن برزة مسبقة الصنع، وبيت يوسف ومرسمه وسط المدينة. مع خالد تحتّم عليّ السهر كل يوم، دون استثناء، مع أصدقاء أعرفهم ولا أعرفهم، أخصّ بالذكر منهم الشاعر خليل درويش، في هذا المطعم أو ذاك حتى آخر ساعات الليل. مرّات سمعت آذان الفجر عند عودتنا للبيت. لا يخفي خالد تعلّقه بدمشق وتفضيله الحياة فيها دون سواها من كل مدن العالم، التي لم يتوقف عن السفر إليها بدعوات من قبل جهات وهيئات ثقافية عالمية كروائي سوري تصدر له ترجمات وتعطى له جوائز، فيمكث فيها الفترة المقرّرة بلا زيادة يوم واحد، ويعود إلى سورية، لا يلوي على شيء، ليرتمي في حضن دمشق الأليف، وكأنه غير مصدّق! من زيوريخ في آخر سفر في حياته، كتب لي:

"ملل كتير. لا أفعل شيئًا سوى الكتابة والرسم. رجل سورية براس العالم.

أحبك يا رفيقي"!

يا اللـه كم فقدت حين فقدتك يا خالد! إلّا أن يوسف عبدلكي أغنية أخرى. ذاك الذي عندما التقيته بعد بعاد طويل، في باريس سنة 2003 قال لي:

"سأعود إلى سورية وأكون بينكم، ما إن أستطيع ذلك، من كان يكن حاكمها".

عاد يوسف إلى دمشق بعد تغريبته في باريس 25 سنة دون أن يقيم فيها معرضًا فنيًا واحدًا. وها هو يحيا معنا بكلا شقيه: الفني، واحدًا من أهم الفنانين التشكيلين العرب على الإطلاق! والسياسي، بعناده القديم ذاته، بأنه لا بد، ومن المحتم، أن تغدو سورية، وفي يوم غير بعيد، دولة حرة لشعب حر كريم! وأيضًا بشقه الثالث والأهم: إنسانًا، يعطي ذلك المعنى للمكان.

رد متأخر على صديق:

على نحو أو آخر، ذهب قسم كبير من المعارضة على جمع النظام وكل من بقي في سورية في بوتقة واحدة. أو بتشبيه لا يقل عسفًا، في دريئة واحدة، وراحوا يطلقون على هذه الدريئة الكبيرة، والبعيدة لحسن الحظ، سهامهم! فسورية برمتها، أرضًا وشعبًا، خراب في خراب. ثم، وتبعًا لهذا السياق، طاب لهم أن يسلموا النظام ومواليه، كل شعار جميل وكل صفة حميدة عن سورية وشعبها! حتى صفة وطن، بخل البعض بها على هذه السورية! ذلك أنهم، عن حق وغير حق، وضعوا للوطن شروطًا من كل نوع وصنف. وصل الأمر بأحد المثقفين المعارضين إلى أن يكتب في أحد مقالاته، بأن ما يدعوه البعض كفاح الشعب السوري اليوم في سبيل العيش، ما هو إلا حالة مرت بها كل الشعوب ذات الظروف المشابهة، لذا لا فضل للشعب السوري في هذا! وها أنذا أرد ولو متأخرًا: "لا بل له كل الفضل، له ولكل الشعوب التي صبرت وعبرت هكذا محن".

السؤال الختامي:

"فإذا كنت يا أخي لا تؤمن بناسك، بشعبك، فأيّ ثائر أنت؟ وأيّ ثورة ثورتك؟".

--------------------------------------------------------------
--------------------------------

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.