استعرضنا في الجزء الأوّل من هذا التحقيق آراء عدد من الكتّاب والنقّاد الفلسطينيّين حول "أدب الأسرى" في فلسطين ومكانة هذا الأدب في المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ والعربيّ، ومدى استحقاق الكتّاب الأسرى للجوائز الأدبيّة، وكذلك تمّ تسليط الأضواء على مصادر الإلهام التي يستقي منها الكتّاب الأسرى مواضيع أعمالهم الأدبيّة على تنوّعها، إضافة إلى مناقشة كتابات الأسيرات، وأسباب غياب الكتابة عن أعمالهنّ في معظم كتابات النقّاد... وفي هذا الجزء (الثاني والأخير) نقف على آراء كلّ من الشاعر والناقد فراس حج محمد، والروائيّة ديمة السّمّان، والشاعر والكاتب إياد شماسنة، والكاتبة والأسيرة المحرّرة منى قعدان.
بداية سألنا الشاعر والناقد فراس حج محمد، صاحب كتاب "تصدّع الجدران: عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، عن تقييمه لـ "أدب الأسرى" في فلسطين، فأجابنا: ثمّة عوامل كثيرة ساهمت في تطوّر "أدب الأسرى" الفلسطينيّ، بشكلٍ لافت، وأنتج كثيرًا من الأسماء المميّزة على الصعيدين الموضوعيّ والفنّيّ، فهذا الأدب رافدٌ مهمّ من روافد الأدب المقاوم في كلّ مراحله، ولعلّ ظاهرة المؤبّدات في الحكم لها أثر سيّء على الأسير، إلّا أنّها منحته من باب آخر فرصة ليبني عالمًا موازيًّا، بجغرافيّته وزمانه مع هذين الفضاءين السائلين خارج جدران السجن.
يضيف حج محمد: بعد هذا الكمّ الكبير من الإنتاجات المنوّعة شعرًا وسردًا على اختلاف أنواعه أستطيع أن أقول إنّنا أمام "أدب سجون" فلسطينيّ مزدهر رغمًا عن قساوة عالم السجن. إضافة إلى ذلك فإنّني أرى أنّه من الإنصاف أن تكون هناك معايير نقديّة نابعة من التجربة ذاتها، فلا يعقل أن أحكم على أدب كتب في ظلّ القسوة والعتمة والتوجّس كالأدب الذي كتبه صاحبه في غرفة مكيّفة! وأطبق عليه المعايير ذاتها، إنّ في هذا ظلمًا للتجربة ذاتها وخصوصيّتها.
من جهتها، ترى الروائيّة ديمة السّمّان، أنّ "أدب الأسرى" في فلسطين المحتلّة يمثّل جزءًا مهمًّا وحيويًّا من الأدب الفلسطينيّ والعربيّ بشكلٍ عامّ، مبيّنة أنّ هذا الأدب يبرز كشهادة حيّة على معاناة الأسرى الفلسطينيّين في السجون الإسرائيليّة، وله عدّة أهداف: أوّلها، توثيق المعاناة الإنسانيّة، إذ يركّز "أدب الأسرى" الفلسطينيّ على توثيق المعاناة الإنسانيّة للأسرى، من خلال تسليط الضوء على ظروف الاعتقال والتعذيب والعزلة. ويعكس هذا الأدب الجانب الإنسانيّ للأسرى، ويظهر مدى قسوة الحياة داخل السجون.
وثانيًا، أدب المقاومة والصمود: "أدب الأسرى" في فلسطين ليس مجرّد توثيق للمعاناة، بل هو أيضًا أدب مقاومة يعبّر عن الصمود والإصرار على التمسّك بالكرامة والهويّة. يتناول هذا الأدب قوّة الإرادة في مواجهة الظلم، وغالبًا ما يعكس قدرة الأسرى على تحويل تجربة السجن إلى تجربة تعلّم وإبداع، ممّا يعزّز من روح المقاومة والصمود.
أمّا الهدف الثالث، فهو التأثير النفسيّ والاجتماعيّ: يناقش هذا الأدب التأثيرات النفسيّة والاجتماعيّة للاعتقال على الأسرى وعائلاتهم. ويعرض الكتّاب الفلسطينيّون في هذا السياق كيف يواجه الأسرى الضغوط النفسيّة وكيف يحاولون التغلّب عليها، وكذلك تأثير السجن على العلاقات الاجتماعيّة والأسريّة.
رابعًا، القيمة الأدبيّة: يتميّز "أدب الأسرى" في فلسطين بقيمته الأدبيّة العالية، حيث يستخدم الأدباء لغة مؤثّرة ومعبّرة لطرح قضاياهم. من خلال الشعر والنثر والسرد، ممّا يخلق تنوّعًا في الأساليب الأدبيّة ويضفي بعدًا جماليًّا على النصوص.
خامسًا، أهمّيّة الشهادة التاريخيّة: حيث يلعب "أدب الأسرى" دورًا هامًا في حفظ الذاكرة الجماعيّة للشعب الفلسطينيّ، إذ يقدّم شهادات حيّة من داخل السجون تعكس حقائق الواقع الذي يعيشه الأسرى. هذه الشهادات تشكّل جزءًا من التاريخ الفلسطينيّ المعاصر، وتساهم في توثيق النضال الفلسطينيّ ضد الاحتلال.
سادس هذه الأهداف، هو الانتشار والتأثير العالميّ: على الرغم من أنّ "أدب الأسرى" في فلسطين يركّز على تجربة الأسرى الفلسطينيّين، إلّا أنّه يحمل رسائل إنسانيّة عالميّة تتعلّق بالحرّيّة والكرامة الإنسانيّة.
لقد ساهم "أدب الأسرى"، بحسب السمّان، في تعريف العالم بمعاناة الفلسطينيّين في السجون الإسرائيليّة، ممّا جعله يتجاوز الحدود الجغرافية ليصل إلى جمهور دوليّ.
وبشكلٍ عامّ، "أدب الأسرى" في فلسطين المحتلّة يمثّل صوتًا قويًّا للمظلومين، ويمثّل إرادة جماعيّة للمقاومة والصمود، ويعكس بعمق تأثير الاحتلال الإسرائيليّ على المجتمع الفلسطينيّ، ممّا يجعله جزءًا لا يتجزأ من الأدب الفلسطينيّ والعربيّ بشكلٍ عامّ.
أمّا الشاعر والكاتب إياد شماسنة فيقول: إنّ "أدب الأسرى" في فلسطين هو أدب ينفرد بطبيعته الخاصّة، فهو نتاج تجربة إنسانيّة تتجاوز حدود المكان والزمان.
وأضاف: إنّ هذا الأدب مرآة تعكس النضال الفلسطينيّ المستمرّ، حيث يتمكّن الكاتب من تحويل الزنزانة إلى فضاء إبداعيّ يفيض بالحياة والتجارب الإنسانيّة. كما أنّ هذا الأدب يُظهر مدى قدرة الإنسان الفلسطينيّ على تحويل الألم والمعاناة إلى طاقة إيجابيّة، بل إلى أداة نضال تستمرّ في مواجهة القهر والظلم. ولعلّ أبرز ما يميّز "أدب الأسرى" هو قدرته على إحداث تواصل بين القارئ وتجربة الاعتقال؛ فهو يُشعر القارئ بأنّ المعتقل ليس نهاية المطاف، بل هو محطّة من محطّات النضال.
يتابع شماسنة: إنّ "أدب المعتقلات" يعكس صورة الحياة كما يراها الأسرى من داخل جدران المعتقل، وتلك الصورة تمتزج فيها الألوان الداكنة للبؤس والمعاناة بألوان الأمل والإصرار على الحياة.
وأكّد أنّ هذا الأدب هو شهادة حيّة على صمود الفلسطينيّين، وعلى قدرة الإنسان على استخدام الإبداع كوسيلة للمقاومة والبقاء.
الجوائز الأدبيّة: استحقاق بجدارة
سجّل عدد من الكاتبات والكتّاب الأسرى حصولهم على جوائز أدبيّة مرموقة في السنوات الأخيرة الماضية، كان آخرها حصول الكاتب الأسير باسم خندقجي صاحب رواية "قناع بلون السماء"، على "جائزة البوكر" لعام 2024، ولمعرفة "إلى أيّ مدى يستحقّ هؤلاء الكتّاب هذه الجوائز فنّيًّا؟" أجابنا فراس حج محمد، قائلًا: لا نجد إجماعًا من أهل الصناعة الأدبيّة على أنّ فلانًا من الكتّاب يستحقّ أيّ جائزة، سواء أكان الفائز أسيرًا أم لم يكن، فهذا النقاش يحتدم مع كلّ جائزة، محلّيّة وعربيّة وعالميّة، ابتداءً من "جائزة نوبل" وانتهاءً بأصغر جائزة تمنحها رابطة أو مؤسّسة وطنيّة. إنّما لا بدّ من أن يكون الفائز بالجائزة يستحقّ أن يكون فائزًا بأحد الاعتبارات التي تضعها لجان التحكيم، فعلى سبيل المثال يشكّل فوز باسم خندقجي بالجائزة أمرًا مهمًّا من ناحيتين: الأولى، أنّه جاء في سياق الحرب على غزّة. والثانية، أنه أدخل المجتمع الثقافيّ في صلب النقاش السياسيّ الأدبيّ، عدا عن أنّ الرواية بتقنيّاتها وحيلتها الفنّيّة على الرغم ممّا واجهته من انتقادات تقدّم اقتراحها الجماليّ الذي يربط الأيديولوجيّ بالسياسيّ والتاريخيّ والإحالات الفنّيّة، فحاول خندقجي أن يقول شيئًا من خلال هذا الاقتراح الجماليّ، فاجتهد ولكلّ رأيه بعد ذلك، المهمّ لديّ أنّه جعلنا جميعًا ندخل معمعة السؤال لنحرك ما ركدَ من المياه الآسنة، وهذا هدف آخر من أهداف الجوائز، وإن كان هدفًا عرَضيًّا.
وقالت ديمة السّمّان: إنّ حصول رواية "قناع بلون السماء" على "جائزة البوكر" مؤخرًا يعود إلى عدّة عوامل ميّزتها عن بقية الأعمال المرشحة. من أبرز هذه العوامل: عمق الطّرح الفلسفيّ، أيّ تناول الرواية لموضوعات الهويّة والحرّيّة والبحث عن الذات بطريقة فلسفيّة وعميقة، ممّا أعطاها بعدًا إنسانيًّا يتجاوز الحدود الجغرافيّة والثقافيّة. هذا العمق في الطرح جعلها تتّصل بقضايا عالميّة تتعلّق بوجود الإنسان ومعاناته.
العامل الثاني، هو الأسلوب الأدبيّ المميّز، إذ تميّز خندقي بلغة شعريّة وجماليّة، حيث استخدم تراكيب لغويّة غنيّة بالاستعارات والتشبيهات التي أضفت على الرواية طابعًا فنّيّا خاصًّا. هذه الجماليّة في اللغة جعلت الرواية تتميّز بأسلوب سرديّ جذاب ومؤثّر.
ثالث هذه العوامل، هو تفاعل الشخصيّات، فقد نجح خندقجي في خلق شخصيّات معقّدة ومتعدّدة الأبعاد، تعكس التّناقضات الداخليّة للإنسان وتفاعله مع المجتمع. وقد ظهرت قدرة الكاتب على رسم شخصيّات حيّة ومقنعة جعلت القارئ يتعاطف معها ويشعر بصدق معاناتها.
العامل الرابع، هو تناول قضايا اجتماعيّة راهنة. فعلى الرّغم من البعد الفلسفيّ للرواية، إلّا أنّها لم تغفل تناول قضايا اجتماعيّة معاصرة مثل التهميش، الفقر، والضغوط المجتمعيّة. هذا التوازن بين البعد الشخصيّ والبعد الاجتماعيّ أضاف للرواية أهمّيّة خاصّة، وجعلها تلامس واقعًا ملموسًا للكثير من القراء.
سادس وآخر هذه العوامل، هو الرّسالة الإنسانيّة: الرواية تحمل رسالة إنسانيّة عميقة تدعو إلى التمرّد على القيود المجتمعيّة والتحرّر من الأقنعة التي يفرضها المجتمع. هذه الرسالة كان لها صدى قويّ بين أعضاء لجنة التحكيم، خاصّة في ظلّ الظروف العالميّة الراهنة التي تعزّز أهمّيّة الحرّيّة والكرامة الإنسانيّة. كلّ هذه العوامل مجتمعة أسهمت في تميّز رواية "قناع بلون السماء" وجعلتها تستحقّ بجدارة "جائزة البوكر".
إياد شماسنة يرى من جهته، أنّ حصول الكتّاب الأسرى على جوائز أدبيّة هو تأكيد على عمق التجربة الإنسانيّة التي يعبّرون عنها، وعلى تميّزهم الفنّيّ ومكانتهم الإنسانيّة. فمثلًا، فوز رواية "قناع بلون السماء" بـ "جائزة البوكر" لعام 2024، هو دليل على أنّ الإبداع يمكن أن يزدهر حتّى في أصعب الظروف أو حتّى في ظروف مستحيلة.
وأردف شماسنة قائلًا: مع ذلك فإنّ هؤلاء الكتّاب لا يستحقّون هذه الجوائز بسبب ظروفهم فقط، بل لأنّهم قادرون على إنتاج أدب يستوفي المعايير الفنّيّة مهما اختلفنا على معاييرها، مشيرًا إلى أنّ الإبداع الأدبيّ الذي يقدّمه الأسرى يتميّز بالشجاعة، حيث يفتحون لنا نوافذ جديدة على تجارب لم نعشها بأنفسنا. فالتجربة الأدبيّة تجربة إنسانيّة متكاملة، مليئة بالمشاعر والأفكار التي تلامس القلوب وتثير التفكير.
تأمّل وخيال لعالم متشابك وثري
بسؤالنا عن مصادر الإلهام التي يستقي منها الكتّاب الأسرى مواضيع وأحداث أعمالهم الأدبيّة سواء كانت روايات أو نصوص أو قصائد؟ يجيبنا فراس حج محمد: عالم الأسر عالمٌ متشابك وثري، والسجن يصنع تجربة مميّزة لها امتدادات متشعبة مع الذات أوّلًا، لأنّك تكون في مواجهة ذاتك بكلّ ما فيها من اضطّراب وتحوّلات، ربّما لن تفطن لهذه الذات إلّا بفعل هذه التجربة.
ثانيًا، امتدادات المكان الجديد المحصور بكلّ ما فيه من سجّان متربص وزملاء سجن وزنزانة، والمحيط الخارجيّ حيث المجتمع والفصيل السياسيّ. وهذه روافد تجعل الأسير يدرك الأشياء على نحو مختلف وخاصّ، وهو ما يصنع تعدّدًا في الحكاية، نظرًا لاختلاف هذه التشابكات.
كذلك ترى ديمة السّمّان أنّهم يستقون مواضيع وأحداث أعمالهم الأدبيّة من عدّة مصادر، أوّلها، أنّها تعتمد بشكلٍ أساسيّ على تجاربهم الشخصيّة والمعاناة التي يعيشونها داخل السجون.
وتبيّن السّمّان أنّ هذه الأحداث في "أدب الأسرى" تتجسّد من خلال: أوّلًا، التجربة الشخصيّة: معظم ما يكتبه الأسرى يعتمد بشكلٍ كبير على تجاربهم الشخصيّة في أثناء الاعتقال. حيث يوثّقون عبر الأدب تفاصيل حياتهم اليوميّة في السجن، بما في ذلك ظروف الاعتقال القاسية، التعذيب، التحقيق، والعزلة. هذه التجارب الفرديّة تصبح أساسًا لأعمالهم الأدبيّة، حيث ينقلون للقارئ صورة حيّة عن معاناتهم ومعاناة زملائهم الأسرى، ممّا يساهم في توسيع نطاق الأدب ليشمل قصصًا جماعيّة تعكس تجربة مجموعة من الأسرى.
ثانيًا، الظّروف السياسيّة والاجتماعيّة: يستلهم الأسرى من الظروف السياسيّة والاجتماعيّة المحيطة بهم، سواء داخل السجون أو في المجتمع الفلسطينيّ بشكلٍ عامّ. وغالبًا ما ترتبط الكتابات الأدبيّة بالصراع المستمرّ مع الاحتلال الإسرائيليّ، وتأثير هذا الصراع على حياة الأسرى وعائلاتهم.
ثالثًا، التّأمّل والخيال: على الرغم من أنّ "أدب الأسرى" يعتمد على التجربة الواقعيّة، إلّا أنّ الأسرى يلجؤون أحيانًا إلى التّأمّل والخيال كوسيلة للهروب من الواقع القاسي. يستخدمون الخيال لبناء عوالم بديلة أو لتجسيد أفكارهم وتطلّعاتهم، ممّا يضفي بعدًا فلسفيًّا وروحيًّا على أدبهم.
رابعًا، الذاكرة الجماعيّة: يستند الأسرى إلى الذاكرة الجماعيّة الفلسطينيّة، حيث يستمدّون من التاريخ النضاليّ للشعب الفلسطينيّ وما مرّ به من نكبات ونضالات. هذه الذاكرة المشتركة تساهم في إثراء النصوص الأدبيّة وتعطيها عمقًا وارتباطًا بالقضيّة الفلسطينيّة الكبرى.
خامسًا، الثقافة والتراث: يعتمد بعض الأسرى في كتاباتهم على التراث الفلسطينيّ والثقافة الشعبيّة. يستلهمون من الحكايات الشعبيّة والأمثال والتقاليد التي تربّوا عليها، ممّا يعزّز من الهويّة الوطنيّة ويعكس ارتباطهم بأرضهم وشعبهم.
باختصار، "أدب الأسرى" الفلسطيني يعتمد على مزيج من التجربة الشخصيّة والمعاناة المشتركة، إضافة إلى تأمّلاتهم وخيالهم وثقافتهم. هذا الأدب يشكّل نوعًا من المقاومة الثقافيّة والإنسانيّة، حيث يحافظ على ذاكرة النضال الفلسطينيّ ويسعى إلى إبقاء صوت الأسرى حيًّا ومؤثّرًا.
بدوره يرى إياد شماسنة، أنّ "أدب الأسرى" في فلسطين يستقي إلهامه من ثلاثة مصادر رئيسيّة. أوّلًا، التجربة الشخصيّة للأسير، حيث تعيش الكلمات في الزنازين بين جدران تضيق لكنّها لا تقتل الإبداع.
ثانيًا، الذاكرة الجماعيّة للشعب الفلسطينيّ، التي تُغذّي النصوص بروح المقاومة وتربّي الأمل في الحرّيّة.
ثالثًا، الخيال الإبداعيّ الذي يجعل من السجن مساحة للتّأمّل والإنتاج الفنّيّ. هذه المصادر تجعل من "أدب الاعتقال" عملًا فنّيًّا يعبر عن الروح الفلسطينيّة المتألقة.
حرمان الكاتبات الأسيرات من النقد
"أين كتابات الأسيرات وما تقييمكم له؟ ولماذا لا تتمّ الإشارة إلى أعمالهنّ في معظم كتابات النقّاد؟"- كان هذا سؤالًا من الأسئلة التي توجّهنا بها للمشاركين بالتحقيق، ليأتينا الردّ أوّلًا على لسان فراس حج محمد، الذي قال: "الكاتبات أغلبهنّ محرومات من الإشارات النقديّة، فحضورهنّ النقديّ كأمثلة في كتب النقد قليلة، وهذا ينطبق على الأسيرات الكاتبات إلّا إذا كان الحديث عن الأسيرات. عدا عن أنّ الأسيرات الكاتبات أقلّ عددًا وإنتاجًا من الكتّاب الأسرى، فالأسيرة تكتفي في أحيان كثيرة بإنتاج عمل أو عملين، وأغلبهنّ كتبنّ أعمالهنّ خارج السجن كالأسيرة عائشة عودة والأسيرة الدكتورة وداد البرغوثي على سبيل المثال. لكن هذه التجربة أنتجت كتبًا مهمّة على صعيد التوثيق للتجربة الاعتقاليّة، والإضاءة عليها من الداخل لأنّ ثمّة أشياء لا يستطيع أحد كتابتها إلّا الأسيرة ذاتها تعبيرًا عن قضايا خاصّة من وجهة نظر مختلفة".
وتقول ديمة السّمّان: كتابات الأسيرات الفلسطينيّات جزءٌ مهمّ من "أدب الأسرى"، ولكنّه للأسف لم يحظَ بالاهتمام الكافي من قِبل النقّاد والأوساط الأدبيّة مقارنة بأدب الأسرى الكتّاب. هذا التهميش يرجع إلى عدّة أسباب: أوّلها، التمييز الجندريّ: المجتمع الفلسطينيّ، مثل العديد من المجتمعات الأخرى، يميل أحيانًا إلى التمييز في الاهتمام بين إبداعات الرجال والنساء. هذا التمييز يظهر في قلّة التركيز على إبداعات الأسيرات بالمقارنة مع الأسرى الكتّاب، رغم أنّ تجاربهنّ لا تقلّ أهمّيّة أو عمقًا.
ثانيًا، صعوبة الوصول والنشر: تعاني الأسيرات من صعوبات مضاعفة في الوصول إلى وسائل النشر والتواصل مع العالم الخارجيّ. وبعد الإفراج، قد يواجهنّ تحدّيات اجتماعيّة وضغوطًا تحدُّ من فرصهنّ في الكتابة أو نشر أعمالهنّ، ممّا يؤثّر على انتشار أدبهنّ.
السبب الثالث، هو القيود الثقافيّة والاجتماعيّة: بعض الأسيرات قد يتردّدن في التحدّث علنًا عن تجاربهنّ بسبب الخوف من الوصمة الاجتماعيّة أو الانتقادات المرتبطة بالكشف عن الحياة داخل السجون، التي غالبًا ما تكون مرتبطة بالتحرّش أو التعذيب النفسيّ والجسديّ. وأخيرًا، غياب الدعم المؤسّساتيّ: المؤسّسات الثقافيّة والأكاديميّة لم تولِ اهتمامًا كافيًا لكتابات الأسيرات، ممّا أدّى إلى غياب برامج بحثيّة أو أكاديميّة تركّز على دراسة هذا النوع من الأدب وتقييمه، على الرغم من أنّه يعكس تجربة فريدة ومعاناة مضاعفة تتعلّق بالجندر، حيث تتعرّض الأسيرات لأشكال من العنف والاضطّهاد الجنسيّ والنفسيّ، بالإضافة إلى التحدّيات الخاصّة التي تواجهها المرأة في ظلّ الاحتلال. هذه التجارب تساهم في إثراء الأدب الفلسطينيّ وتقديم وجهات نظر متميّزة.
ويؤكد إياد شماسنة ما ذهب إليه كلّ من حج محمد والسّمّان، قائلًا: إنّ كتابات الأسيرات، جانب منسي أحيانًا، لكنّه يحمل في طياته قوّة إضافية.
وأردف: الأدب الذي تنتجه الأسيرات هو تعبير عن نضال مضاعف، فهو يجمع بين مقاومة الاحتلال والنضال من أجل إثبات الذات كامرأة في مجتمع شرقيّ، لكنّ هذا الأدب لا يحظى بالاهتمام الكافي من النقّاد، وربّما يعود ذلك إلى الهيمنة الذكوريّة على مجال الأدب والنقد وحتّى النشر. لكن لا يمكن إنكار أنّ ما قدّمته الأسيرات من أعمال أدبيّة يستحقّ دراسة أعمق وإشادة أكبر، لأنّه يعكس قوّة المرأة الفلسطينيّة في مواجهة المعتقل بكلّ تحدّياته.
منى قعدان: كلمات تكتب من عمق الألم والوجع
في ختام تحقيقنا هذا، كانت لنا وقفة مع الكاتبة والأسيرة المحرّرة منى قعدان، التي كتبت مذكراتها عن فترة الأسر ونشرتها في كتاب جماعيّ عنوانه "ترانيم اليمامة... مذكرات أسيرات محرّرات" (2022).
بداية سألناها عن نظرتها لـ "أدب الأسرى" في فلسطين؟ فأجابتنا: إنّ تجربة الأسر رغم قسوتها ومرارتها إلّا أنها تجربة تعمّق وتصقل الأفكار الموجودة والمنغرسة في الأعماق أصلًا قبل الوقوع في الأسر، لأنّها موجودة بالفطرة الربانيّة وترعرعت مع التربية، لكنّ هذه التجارب المتعدّدة في فترة الأسر تعزّز الرؤية المستقبليّة للحياة، ومع كلّ تجربة مرّت عليّ في كلّ مرّة اعتقلت فيها، كان الإصرار يتجدّد، ودائمًا هناك نهج جديد نسير عليه عبر السنوات المتتالية من حياتنا، ويكبر فينا الطموح والإنجاز حتّى تثمر نجاحات متتالية.
وبسؤالها: هل نالت كتابات الأسيرات اهتمام النقّاد كما هو الشأن لنتاج الأسرى الأدبيّ؟ وكيف تنظر إلى حصول الكاتبات والكتّاب الأسرى على جوائز أدبيّة في السنوات الأخيرة الماضية؟ تقول قعدان: كتابات الأسيرات رغم أنّها تُعَدّ على الأصابع، غير أنّها لم تحظّ بالاهتمام الكافي في بدايات ظهور هذا النوع من الكتابات، وهو ما أبقى الأسيرة عاجزة عن اللجوء لمن يعطي هذا الإبداع حقّه؛ وهنا أؤكّد على كلمة إبداع لأنّ ما نكتبه يخرج من عمق الألم والوجع الذي عايشناهما في الأسر. وفيما يخصّ اهتمام النقّاد والباحثين بكتابات الأسرات و"أدب الأسرى" عمومًا فقد زاد في السنوات الأخيرة.
تتابع محدّثتنا قائلة: إنّ حصول الكاتب الأسير باسم خندقجي على "جائزة البوكر"، يعتبر بمثابة نصر ليس له وحده بل لكلّ الحركة الأسيرة، وهو أيضًا تأكيد على أنّ الأسرى يستطيعون صنع المستحيل، وهذا أصعب ما في الحكاية.
أمّا عن كيفية إخراج كتاباتها وكتابات الأسيرات والأسرى الكتّاب من خلف القضبان، لترى النور رغم المنع والتضييق الكبير الذي يواجهونه من قِبل سلطات السجون؟ أفادت قعدان: في المرحلة الأولى يجب كتابة النصّ بما لا يقلّ عن خمس نسخ من أجل حمايتها من المصادرة خلال التفتيش المستمرّ، أو خلال إخراجها مع الأسيرات المفرج عنهنّ، وأحيانًا من خلال نقلها مع رسائل الأهل عبر المحامي، ليعمل الأهل فيما بعد على تجميعها كلمة كلمة... وأجمل ما بالأمر عندما يصلك خبر منهم عن وصولها بأمان، "إنها مشاعر لا يمكن وصفها بالكلمات... كيف لا وأنا كتبتها بوجع وألم وربّما دموع".
وأخيرًا سألنا قعدان عن طقوسها في أثناء الكتابة في السجن؟ فقالت: عندما تخطر الفكرة على بالي أسرع، قبل مسك القلم، إلى إحضار صورة والدتي الملهمة لي في حياتها ومماتها، وكأن تجميع الأفكار يأتي من خلال النظر إليها. لم يكن هناك وقت معين للكتابة، وإنّما هي فكرة تأتي مسرعة وعليك أن تكتبها فورًا خوفًا من تبخرها، أو كتابتها بمشاعر تليق بها... هي أجواء نحن نخلقها من بين أنياب السجّان الذي دائمًا ينغص علينا بقطع الأفكار سواء وقت التفقد أو التفتيش.