في واقع الأمر، فإن إعادة إنتاج المعنى التي تفيد المعرفة في الكلام السالف إنما ترد ضمنًا من خلال عدم التردّد في اعتبار تلك "النكسة" هزيمة نكراء، وكاد أن يزيد أخرى ملمحًا إلى ما سبقها وما تلاها من هزائم أو حزيرانات، تحدّدت بها ومعها الآفاق المنشودة لما اصطلح على تسميته "الاستجابـة التاريخية للتحدّي الناجم عنها".
هذه الاستجابة تحدّث عن عناصرها وما يزال كثير من الكتابات الفكريّة العربيّـة، ولا سيّما في كل ما يتعلّق بصعيد بناء الدولة الوطنية، وشروط التحوّل الديمقراطي، وضرورة التنمية الشاملة إلخ... على قاعدة كل ما يُسعف في حفز عوامل التغيير الداخلية وعدم الخنوع لشعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة" الخارجيـة.
كما أن الهزيمـة الكامنة في ثنايا تلك "النكسة" تناولها وما ينفك يتناولها العديد من الأدباء العرب، سواء في نصوصهم، أو في اعترافاتهم وهواجسهم الذاتيـة.
وما زالت محفورة في أذهان أبناء جيلنا مثلًا جملة كرّرها يوسف إدريس في أكثر من حوار أجري معه وقال فيها: في منتصف الستينيات (من القرن العشرين الفائت) هُزمنا، وكان علينا أن نقف على قدمينـا من جديـد.
وعلى صلة بعوامل التغيير الداخلية، يتصادف الحديث عن إعادة إنتاج المعنى/ المعرفة مع صدور طبعة ثانية في فلسطين الداخل من كتاب "يوم الأرض- ما بين القوميّ والمدنيّ" للباحث نبيه بشير الذي يسعى هو أيضًا وراء هذه الغاية.
وفي كلمة التقديم لهذا الكتاب ضمن طبعته الأولى قبل عشرة أعوام، سبق للباحث أمل جمّـال أن نوّه بمدلول حذر المؤلف من الوقوع في مطبّ الرومانسيّة التي تُرسَّخ في العديد من الكتابات "التاريخيّة"، وتجنيدها لمصلحة سياسيّة أو فئويّة. ولفت إلى أن هذا الحذر قاده، من ضمن عوامل أخرى، إلى نقد قيادات في أوساط المجتمع الفلسطيني في الداخل لم تستطع آنذاك سوى التعبير عن "سياسة براغماتيّة" انحصرت في الخانة المدنيّة فقط، عبر ركل الخانة القومية. وبذلك حُجِّمت الجوانب الوطنيّة المبنيّة على مفاهيم العدل التاريخيّ للصراع مع الحركة الصهيونيّة، وجرى تقبّل الإطار السياسيّ والزمنيّ والجغرافيّ للدولة التي أقامتها هذه الحركة. فضلًا عن ذلك، حدّت هذه السياسة من ارتقاء الوعي والعمل الجماهيريّ الفلسطيني إلى مستوى أعلى وأكمل، كان من الممكن أن يؤدّي إلى تطوير آليّات وأطر ذات قدرات تعبويّة دائمة.
لا شكّ في أن عدم إعادة إنتاج المعنى/ المعرفة حيث يلزم، له ثمـن ثقافي واجتماعي باهظ. وهذا الثمن قد يكون تكريس آلية الإنكـار. وقد يكون ما سماه الكاتب التشيكي فاتسلاف هافيل "الحياة في الكذبة". وحينما يكون الإنكار جماعيًا، فإنه يجعل مجتمعات بأكملها مبنية على الكذب والخداع والنفاق. وعلى مستوى الحياة اليومية، تقدّم إعادة إنتاج المعنى أداة للنقد السياسيّ. ويتمثل جوهر مهم لهذا النقد في تعرية الخداع الذاتيّ، من منطلق الفرضية الذاهبة إلى إمكان المبدع أن يتخذ مواقف تفتقر إلى خداع الذات.
وإذا ما أردنا أن نمدّ خيطًا بين مثل هذا النقد الذي أعقب الهزيمة في 1967 وبين النقد المواكب لأحوال العرب في الوقت الحالي، نقول إنه مشدود إلى تعرية خداع ذاتيّ مؤداه تعليق مواطن الخلل على شمّـاعة بُعد خارجي للتنائي عن أبعاد داخلية.