لقد استطاعت سلطة الأسد الأب وابنه الوريث، بما تنطوي عليه من صلف وشمولية، وربما مركّبات نقص وحس انتقامي على حد قول بعض الباحثين والمحللين، أن تقوِّض الكثير من المعاني والأسئلة والاحتمالات على صعيد السياسة والاقتصاد والثقافة والأخلاق. وإذا كان لذلك من فضيلة، فإنها لا تتعدى أن السلطة قد حكمت على نفسها بالشيء نفسه، وإن كان في وسعها المناورة وتأجيل الإعلان عن بداهة نهايتها.
لا تستطيع السلطات الشمولية أن تملأ حتى نفسها، لأنها ببساطة فارغة من غيرها، فارغة من نعمة النقيض.
لم أدرك نعمة النقيض إلى أن جئت إلى أوروبا وعاينت طرائقها في الانتخابات والحكم وتداولاتهما. كما أنها، أعني السلطات الشمولية، لا تستطيع في سياق تقويضها المعمّم للدولة والمجتمع، أن توفِّر حتى نفسها، ولعل هذا هو المسرب الأهم لإمكانيات اسستمرار الأمل.
من جهتي يمكنني الزعم أن أكثر من ساعد الثورة السورية على الاستمرار هو الأسد الوريث، وربما هي حكمته الوحيدة، إن كان له من حكمة بعد كل ما ألحقه بسورية من دمار على صعيد البشر والحجر والطبيعة والأخلاق والتاريخ.
لقد أدركت سلطة الأسد منذ البداية، أعني منذ الأب، أن الجمال هو الحدُّ الأدنى للآداب والفنون، بينما الحدُّ الأقصى للسياسة إنما هو التجميل.
أما التسييس، مهما كانت أشكاله وتمظهراته، فيبقى أدنى من السياسة، وبصيغة أخرى هو انحطاط السياسة توازياً مع درجة انحطاط الساسة.
إذا استقامت هذه الفكرة كنسق عام في جميع المجتمعات أو معظمها، فلا بد أنها ستكون، في المجتمعات الخاضعة للاستبداد، أكثر انحطاطاً وتخلُّفاً وكارثية.
لا تستطيع الأنظمة الاستبداية على وجه العموم، والشمولية منها على وجه الخصوص، أن تقدِّم لشعوبها أي ثقافة، إلا إذا اعتبرنا القمع والخوف والصمت والدجل والفساد والتقيّة نوعاً من أنواع الثقافة!
بالطبع لم يكن مستغرباً أن يكرِّس الأسد جهوداً وأموالاً طائلة من أجل تسييس الثقافة، لأن كلفتها مهما بلغت تبقى أدنى بكثير مما تقتضيه سياسة مثقفة.
من الصعب على الأنظمة الشمولية أن تفكر بتثقيف السياسة، لأن التثقيف يحتاج إلى زمن، والأنظمة الشمولية تريد الأمور على مبدأ "كن فيكون".
تثقيف السياسة يحتاج إلى تراكم وطول نفس وتفاعل مع مصادر وقوى وفعاليات متنوعة ورحابة صدر في تقبِّل ولو محدوداً للآخر، وقبل كل شيء يحتاج إلى استعداد للتعلُّم، ومن طبيعة المستبد أو الديكتاتور أو الطاغية أنه، كشخص وكنظام، منزَّه عن قابلية التعلُّم، لأنه بدون أذنين في حين أنه يمتلك أكثر من فم. لهذا فإن تلك الأنظمة تستسهل وتسترخص، وبالتالي تفضِّل الازدلاف إلى تسييس الثقافة بدلاً من تثقيف السياسة، فذلك أقل كلفة وجهداً ووقتاً، ولا يحتاج إلى كفاءات خاصة أو عالية، ولكنها حين لا تنجح في ذلك تلجأ إلى المنع والتهديد والقمع والإقصاء والعقاب والإلغاء... إلخ.
الثقافة دائماً أعمق وأبعد حتى من السياسة المثقفة، ناهيكم عن السياسات الأمِّيِّة والأمنية ومشتقاتها.
الثقافة روح وقيم وأصالة مفتوحة على السموّ الإنساني جمالاً وعدالةً وإبداعاً وتسامحاً ومشتقّاتها.
وتسييس الثقافة يعني قتلها، أو تسميمها، وفي أحسن الأحوال تحويلها إلى إطار أو ديكور تدور في أروقته جوقاتٌ من المدَّاحين الركيكين ومجاميع من المصفقين الانتهازيين أو الجبناء أو البلهاء.
لقد فشلت الأنظمة الشمولية في استقطاب المفكرين والأدباء والفنانين المهمِّين أو الأكثر أصالة وإبداعاً، ولا يغير في هذه القاعدة وجود بعض الاستثناءات القليلة، فذلك لا يشكل ظاهرة.
القامات العالية أدبياً وفكرياً وفنياً بقيت عصية على التسييس المطلوب، وإن احتمى بعضها بالصمت حيال بعض محرَّمات السلطة أو خطوطها الحمراء.
أما الذين كانوا يمتلكون حداً من الثقافة والإبداع، فقد توقف أو تراجع إبداعهم بعد التحاقهم بالسلطة مباشرةً أو مواربةً. أصبح إبداعهم أشبه بكتابة وظائف ثقافية باردة وكسولة، وأحياناً تقارير مخابراتية ترتدي شكلاً أدبياً ما.
في الواقع النظري والعملي قد لا يحتاج المرء إلى كثير من الجهد، ليدرك أن القانون الأعمق والأشمل والأكثر اتساقاً لدى الأنظمة الاستبدادية، إنما يمكن تلخيصه بالقول: لا سلطة للثقافة عندنا خارج ثقافة السلطة.
صحيح أنه ما من برزخ يفصل ما بين الثقافة والسياسة، وبالتالي صحيح أيضاً أنه ما من قصيدة أو لوحة أو حتى مباراة رياضية إلا وتنعكس فيها سياسة ما، مثلما تنعكس هي على سياسة ما.
السؤال الأساس في هذا الميدان هو أيُّ سياسة تعكسها الثقافة أو تنعكس فيها؟