فعلًا، لقد تكرّر طرح هذا السؤال علي مرّات عديدة. لا أدري، فيما لو كنت أقدّم الجواب نفسه في كل مرّة أم لا. عليك ألا تتوقع مني جوابًا بسيطًا عن "الشرق المعقد". وبناء على ذلك، فإن الشرق يحتمل تعريفات عدة. كما أن المعاني والدلالات الجغرافية والسياسية والثقافية للكلمة تغيّرت بدورها على مرّ العصور. ثمة من يعرّف بالشرق على أنه ما ليس غربًا. ويبقى هذا التعريف على الرغم من بساطته وطابعه الفضفاض، تعريفاً صائبًا إلى حد كبير. إذ إن لهذا التعريف الأنغلوساكسوني جاذبيته ونجاعته. بيد أن الشرق كمفهوم، اليوم، هو قيد الانقراض أو في طور الانقراض، بسبب انتظام حياة البشر وتوحيد uniformité أنماط استهلاكهم. وهذا الأمر نتيجة المحو تدريجي للتغاير والاختلاف. كما يمكننا القول، اليوم، إن الشرق مجال تعددي، هو بصيغة الجمع. وإن التلاقح بين الثقافات والعادات أضحى قاعدة ذهبية. فماذا نستطيع القول عن بلد مثل فرنسا يفتخر بمطبخه العريق، حيث أصبح طبق الكسكس المغاربي "الطبق الوطني الأوّل"؟ وعليه، فإن الشرق "يتمغرب" والغرب "يتمشرق".
* هل يمكن القول تبعًا لما أشرت، إن الشرق بدأ ينسحب من المشهد ويخرج من التاريخ؟
الشرق هو قيد الزوال والاختفاء. حين تكون اليوم في فندق كبير، في سنغافورة أو باريس أو نيويورك أو كوالالمبور أو أيّ مدينة كبيرة أخرى، فإنك تحسّ أن المجتمعات فيها تتبع المقاييس والمعايير والقيود الاجتماعية نفسها. لا توجد اختلافات كبيرة بين هذه الدول كما كان الحال من قبل.
ثمة توحيد uniformité، هو محصلة للعولمة ولنظام ينزع نحو قولبة حياة الناس في وعاء ومنظومة لا تميّز ولا تمايز فيهما. بالنظر إلى الأوضاع التي يعيشها الشرق، فمن المستحيل على المدى القريب أن ينتفض من رماده لابتكار نموذج بديل. مثل الأندلس، قد يتحسر الشرقيون على شرق لم يكن أفضل تحت حكم مستبدين قوميين ليبراليين أو يساريين.
*تحوّل العمل الذي أنجزه إدوارد سعيد عن الاستشراق إلى بحث مرجعي مؤسِس لمدرسة نقدية لها أعلامها في جميع القارات. لكنك تبقى من بين المؤرخين القلائل الذين انتقدوا مقاربته للاستشراق. ما هي مؤاخذاتك على فكره ومنهجيته؟
تجدر الإشارة أولًا إلى أن إدوارد سعيد، لم يكن مؤرخًا بل ناقدًا أدبيًا، كما لم يكن يمتلك ثقافة عن حقول وميادين الشرق التي كانت ستحميه من ارتكاب بعض الأخطاء البسيطة التي وردت في كتابه "الاستشراق". المسألة الثانية تتعلق بمؤاخذات سعيد نفسه لمّا عاب على المستشرقين تحويل الشرق إلى ماهية أو إلى جوهر. إذ إننا نجد في العنوان الفرعي لكتابه هذا العنوان: "الشرق ابتكارًا للغرب". لكن في تلك الفترة، لم ينتبه سعيد إلى أنه نفسه ابتكر جوهرًا ألا وهو الغرب. وعليه، فإن الشرق مبتَكرًا من قبل الغرب، هي رؤية أساسًا غربية. انتبه إدوارد سعيد في ما بعد لهذا الخطأ. وفي كتاباته الأخيرة ندّد بكل أشكال الجوهرية، ليقول إنّه لا الشرق ولا الغرب يتوفران على جوهر. إنه إدوارد سعيد الأخير. من ناحية أخرى، دافع عن نوع من التغرّب في الثقافات العربية والإسلامية، وبشكل عام في الثقافات الشرقية. واليوم نحن في وضع معكوس، بحيث نوجد أمام أشخاص يدّعون أن إدوارد سعيد كان على خطأ، بما أن هناك عدّة ماهيات أو جواهر: ماهية هندية، ماهية شرقية، ماهية إسلامية، ماهية صينية...إلخ، وأن الشرق ليس من ابتكار الغرب، وإنما هو حقائق تاريخية وثقافية إلخ…بمعنى أن النزعة الثقافية التي يعيبها إدوارد سعيد على الاستشراقيين، طبّقها ناس عديدون منتمون إلى ثقافات الشرق.
* الحديث عن الاستشراق يقودنا إلى علاقاته الخفية بالاستبداد، وقد اشتغلت على هذا الموضوع؟
ثمة معانٍ ودلالات عديدة للاستبداد. أولًا هو رؤية نجمت كنتيجة للصراعات الطويلة والمضنية في حوض البحر الأبيض المتوسط، بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الأوروبية، وبالأخص في القرون الأخيرة. في القرون الوسطى، لمّا وقعت القوى الأوروبية تحت الانبهار بسلطة المماليك، ثم في ما بعد تحت الانبهار بالإمبراطورية العثمانية، فإنها كانت تجابه مجتمعات تتمتع بسلطة مركزية قوية، مجتمعات تنعدم فيها الأرستقراطية. وكان ذلك، في وقت كانت أوروبا واقعة تحت رحمة نظام إقطاعي. كان هذا أوّل تعريف للاستبداد، باعتباره قوّة خطيرة تملك القدرة على تهديد أوروبا المسيحية. ثم لا ننسى أنه في الفترة نفسها، احتلّ المسلمون البلقان كي يصلوا إلى فيينا. الزمن الثاني لتطوّر الاستبداد، يكمن في التحليل السياسي للقرن السابع عشر وبالأخص الثامن عشر، لمّا عُرف الاستبداد، على أنه نظام يمهّد للنكوص والتراجع في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية.
وقد تعامل الغرب خلال القرن العشرين، مع الاتحاد السوفييتي بالمنطق نفسه. ففي مرحلة أولى، صرح بعض رجالات السياسة الفرنسيين أن الاتحاد السوفييتي، أصبح على مرمى حجر من باريس وأن قوّاته ستحتلّ فرنسا. لكن هذا الخطاب سرعان ما استُبدل بخطاب آخر مفاده، أن النظام السوفييتي نظام مشلول ولا يمكن للسوفيات الخروج من جمودهم. المرحلة الثالثة، التي يؤرّخ لها بحملة بونابرت على مصر في أواخر القرن الثامن عشر؛ فقد سادت الفكرة آنذاك أنه إن كان الشرق تحت رحمة الاستبداد، فإن الاستعمار الأوروبي سيكون المحرر لهذه الشعوب من الاستبداد. وابتداء من عام 1870، باشرت أوروبا احتلالًا شموليًا ومطلقًا. وتحوّل الشرق من هذا المنظور، إلى مختبر جرّبت فيه أوروبا درجة تطورها ومستواها. في ما بعد شرع الأوروبيون، بتمرير الفكرة القائلة، إن الشرق هو المرآة الضرورية التي تمكنّهم من رؤية ماضيهم، وبالمقابل دافعوا عن الفكرة القائلة، إن أوروبا هي أفق الشرق.
وفي الحقبة الاستعمارية، راجت الفكرة القائلة، إن الديمقراطية لا يمكن أن تصلح لكل المجتمعات، لأن المستعمَرين لا يشبهون مستعمِريهم. ومن أجل تدعيم هذا النمط من التفكير، استُدعي الاستبداد الذي يطبع هذه المجتمعات ويتحكم بها. وحين سعت فرنسا إلى تطبيق مبادئ الثورة الفرنسية وتعاليمها، رفضت ألمانيا هذه القيم باسم الخصوصية القومية. ونقلت الدول الاستعمارية هذا التجاذب إلى مناطق نفوذها.
* لننتقل، الآن، إلى مفهوم آخر اشتغلت عليه كثيرًا، ألا وهو مفهوم الإرهاب. حيث عرّفت أغراضه المتنوعة والمتعددة. لقد أصبح هذا المفهوم مبتذلًا، بل وحتى الأنظمة التي تمارسه، صارت ترفعه كشعار للتبرئة والتبرير، وخصوصًا من أجل قمع الحريات. لكن ثمة وراء هذا المفهوم، تاريخ العنف الذي تشترك فيه جميع المجتمعات بلا استثناء.
هذا صحيح. يحتمل مفهوم الإرهاب تعريفًا تعدديًا. من هنا صعوبة تقديم تعريف موحّد له. إذ هو يحيل من جهة، على تقاليد عتيقة وقديمة جدًا، بدءًا مما أسمّيه "إبادة المستبد" Tyrannicide، أي قتل أو إبادة الحاكم المستبد الذي يمارس استبداده على المدينة. ولدينا أمثلة عديدة في هذا المجال، ابتداءً من العصور الأولى، والتراث الإغريقي حافل بالأمثلة. هناك، أيضًا، الإرهاب كمؤامرة وكانقلاب، يلجأ إليه بعض الأشخاص من أجل الاستيلاء على السلطة، بواسطة العنف. وقد كان هذا الشكل من الإرهاب متداولًا وشائعًا في أوروبا في العصور القديمة. من بين الأمثلة في هذا الصدد، اغتيال الملك هنري الرابع؛ حيث قُدّم هذا الاغتيال باعتباره "إبادة لمستبد". وقد يمتدّ الإرهاب ليشمل إرهاب الدولة، كما وقع مع روبيسبيير خلال الثورة الفرنسية. في المعجم الفرنسي للقرن التاسع عشر، فإن معنى الإرهاب هو العنف الذي تمارسه الدولة ضدّ المواطنين والمجتمع. وقد انقلبت الدلالات والمعاني عند نهاية القرن التاسع عشر، وتحديدًا عام 1890، ليصبح الإرهاب النشاط الذي تقوم به مجموعة ضدّ الشخصيات السياسية. نحن إذن، ضمن تقاليد "إبادة المستبد"، مثل العمليات الإرهابية في روسيا ضدّ القيصر والشخصيات التي تدور في فلكه، أو العمليات الإرهابية ضدّ مجموعات أو طبقات اجتماعية، أي ضدّ البرجوازية، مثل العمليات التي قام بها الفوضويون في فرنسا، بإلقائهم القنابل على المقاهي ضدّ البورجوازيين رافعين شعار: "لا وجود للأبرياء". ثم استخدمت كلمة إرهاب في ما بعد، بعدة معاني ودلالات وبطريقة إجمالية على المحارب الذي لا يرتدي البدلة العسكرية. نجد أنفسنا في هذه الحالة أمام مشكلة تدخل في نطاق قانون الحرب. ففي الحرب، عادة ما يتواجه العسكر في ما بينهم، لكن ثمة حالات لمدنيين شاركوا في الحرب. مثلًا الإسبان الذين شاركوا في الحرب ضدّ نابليون. هؤلاء كانوا محاربين مدنيين يحاربون العسكر، يعرّف بهم باعتبارهم إرهابيين. وبعد ذلك تجيء جميع الحركات القومية: من الإمبراطورية العثمانية إلى الصين ثم الحركات القومية والوطنية المناهضة للاستعمارين الإنجليزي والفرنسي، التي أُطلق عليها اسم "حركات إرهابية". لجأت هذه الحركات إلى عنف السلاح، من أجل تحرير أوطانها من الاحتلال الأجنبي. هكذا نلاحظ أن الإرهاب، يحيل إلى سلسلة من الأنشطة والوقائع المتنوعة جدًا: إرهاب الدولة، إرهاب سياسي، عنف قومي، إلخ…
أمّا على المستوى القانوني، فقد راج المفهوم في القانون ابتداء من عام 1930، وبقي متواتر الاستعمال إلى يومنا هذا. إن الأمر المعقّد في مفهوم الإرهاب، هو إحالته إلى المحارب اللاشرعي. مثلًا، كلّ حركات المقاومة في أوروبا ضدّ النظام النازي، تتألف من محاربين لا شرعيين وفدوا من بلدان استسلمت أو عقدت صلحًا مع هتلر، وعليه فالأشخاص الذين حاربوا النظام النازي كانوا محاربين لاشرعيين، أي إرهابيون. نلاحظ هنا أن كلمة إرهابي تندرج في نطاق تقليد قانوني هو القانون نفسه المطبّق في حال القرصنة البحرية. إذ تمّ تصنيف القراصنة كأشخاص خارجين على القانون، أي هم خارج أيّ حماية قانونية، وبالتالي تحق تصفيتهم استنادًا لهذا القانون. ينطبق على الإرهابيين اليوم الحكم نفسه، على اعتبار أنهم خوارج أو خارجين على القانون. لكن تبقى الأسئلة مطروحة: من جهة التبريرات واستعمال العنف، سواء في مجال الإرهاب أو الإرهاب المضاد، فالإرهابي يبرّر دائمًا استعماله للعنف، لأن الأشخاص الذين يهاجمهم، حتى وإن كانوا أطفالًا، ليسوا أبرياء. من جهة ثانية، كيف يمكن الدفاع عن قضية، في وقت يكون اللجوء لأيّ مساعدة قانونية أو ديمقراطية منعدمًا؟.
يتواجد الفلسطينيون، اليوم، في وضع احتلال وقمع يؤدّي إلى المقاومة. قضية الإرهاب تُطرح إذن، في مجال طرف يعرّف العنف على أنه مقاومة للاحتلال، ومجال الطرف الثاني الذي يعرّف الإرهاب على أنه خروج على القانون من أشخاص خرجوا على المجتمعات الإنسانية بارتكابهم العنف.
* لننتقل إلى فلسطين. خصصتم لفلسطين نتاجًا بأكمله يتألف من خمسة أجزاء. وقد صدر الجزء الخامس الذي يغطي الفترة الواقعة بين عامي 1982 و2001 أخيرًا. أطلقت على الكتاب عنوان: "السلام المستحيل". للأجزاء الخمسة عنوان عام موّحد: "مسألة فلسطين"، بينما تتحدث أغلب الأبحاث والدراسات، بل حتى الخطاب السياسي اليومي عن "المسألة الفلسطينية"، ماذا تقصد بـ "مسألة فلسطين"؟ وهل يمكن أن تحدثنا عن حفريات "ورشة العمل" هذه إن جاز التعبير؟
في البداية، حين أطلقت هذه "الورشة"، كنت أعكف على خلق تواصل وتلاقٍ بين عوالم عدة ؛ بين الفكر الأوروبي والمجتمعات الشرقية، مع التركيز على حملة نابليون على مصر. يطلق اليوم بعض الخبراء على ما سمّيته شخصيًا التلاقي، تسمية الترابط Connexion، وتبقى المسألة مسألة مصطلحات. ما سمّيته "مسألة فلسطين"، كانت الغاية منه معرفة، كيف أن قطاعًا جغرافيًا صغيرًا يمكن مقارنته بإقليم فرنسي، لا يمتلك أيّ موارد اقتصادية، له مثل هذه الأهمية في الجغرافية الاستراتيجية والجغرافية السياسية الراهنة. هذا القطاع الصغير الذي لا أهمية له، يشغل السياسة الدولية بشكل كبير. أدركت أن المسألة في غاية التعقيد: فالمرجعية التاريخية لفلسطين هي، أيضًا، في مرجعية المقدّس والديانات التوحيدية الثلاث، وفي الوقت نفسه، لدينا كذلك تاريخ تعددي أكثر راهنية؛ قد يكون من بينها تاريخ المحرقة مع ما رافقه من إبادة ليهود أوروبا الشرقية، وأيضًا تاريخ الاستعمار والهيمنة الأوروبية من قبل الأنظمة الإمبريالية.
تشكّل "مسألة فلسطين" إذن مادة تاريخية مثخنة بالتاريخ. ولهذا تحتل في حياتنا أهمية ودورًا رئيسيين. هذا ما دفعني، إلى كتابة خمسة أجزاء عن هذه المسألة. توقفت هذه "المغامرة" عند سنة 2001 بسبب التوثيق. لقد وضعت حدًا لهذه السلسلة من أجل الشروع في سلسلة أخرى، تتعلّق بموضوع العلاقات بين العالم الأوروبي الغربي والعالم العربي في القرن التاسع عشر. لكنني سأعود يومًا إلى البحث والعمل على "مسألة فلسطين" مجددًا. يبقى هذا العمل حصيلة إنجاز استغرق عشرين عامًا من العمل والبحث في الوثائق والأرشيف. يغطي الجزء الخامس والأخير المرحلة الممتدة من بداية الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 إلى فشل محادثات طابا في يناير 2001.
* من خلال جردك الدقيق لأحداث ووقائع فلسطين، وهي عبارة عن دراما "سيزيفية"، فإنك تعرب في نهاية المطاف عن خيبة يشوبها تشاؤم كبير. وقد اخترت للجزء الخامس عنوانًا مباشرًا ناطقًا بحقيقة عارية: "السلام المستحيل". هل الوضع حقًا ميؤوس منه؟
فرطت الثقة بين الطرفين. لقد وصلنا إلى مأزق لم تعد تنفع معه أيّ حيل أو محاولات. انتهت الرحلات المكوكية، لم تعد أوروبا ولا الولايات المتحدة تذكران ما يجري في الساحة. حتّى أن أحدًا لا يثير حل الدولتين كحل بديل. لن تسمح إسرائيل بقيام دولة فلسطينية، ويعرف الفلسطينيون أكثر من غيرهم هذه الحقيقة. لم تعد كلمة سلام تعني شيئًا.
* ما هي آثار الهجرات الكثيفة في اتجاه أوروبا على الإسلام في الدول المستقبِلة للاجئين، وما تأثيرها؟ وفي رأيك إلى أي اتجاه تسير التحولات والتغيرات؟
ستؤثر هذه الوضعية على المدى البعيد عميقًا في مستقبل البلدان الأوروبية التي ستستقبل هذه الأعداد الكبيرة من المهاجرين واللاجئين. إلا أن تأثيراتها لن تكون قويّة على بلد مثل فرنسا التي ستحتضن عددًا أقل، مقارنة بألمانيا التي يمكن القول، إن غالبية المسلمين فيها أتراك، لذا فإن قدوم آلاف المسلمين غير الأتراك، سيغير، بالكاد، أشياء كثيرة داخل المجتمع الألماني. على أي حال، تفرض علينا هذه الأوضاع الجديدة، وتتطلب منّا تعريفًا جديدًا للإسلام. وعليه يمكن القول، إن الإسلام هو ما يصنعه المسلمون بهذه الديانة، وبالتالي لا يمكن تعريفه بشكل نهائي. ثم هناك سؤال آخر: كيف سيتعامل هؤلاء اللاجئون مع ديانتهم بعد المِحن التي عاشوها وعانوا منها؟ ثم ما هو شعورهم الديني في بلاد الاغتراب؟ هل سيمارسون طقوسهم بالطريقة نفسها لممارستهم إيّاها في بلدانهم الأصلية؟. الأمر المؤكّد، أن هذا الوضع سيعزز من عالم التواصل الذي نعيشه اليوم. بمعنى أننا سنكون أمام عالم "غربي سابقًا"، إذ ستتواجد فيه كل الأجناس البشرية، بما فيه شتات بلا حدود لعدة أجيال، كما هو الحال في فرنسا، حيث يتواجد الأفارقة والصينيون والفيتناميون والعرب إلخ.. ستكون المجتمعات الغربية سابقًا، مجتمعات متواصلة، وإلى جانبها ستكون أعراق متجانسة تقريبًا، لكن غير راغبة في الاختلاط مع غيرها، باسم التميّز العرقي. لذا سيتعزز، أكثر فأكثر في المجتمعات الأوروبية، مدّ اليمين المتطرّف ومدّ القوى العنصرية. لا يعني الاختلاط العرقي، وجود تواصل وتلاقح بين العناصر المكوّنة للشتات. فالشتات الصيني مثلًا لا صلة تربطه بالشتات الأفريقي أو العربي. لكن الخوف أو الخشية، أن تغدو هذه "الدياسبورات" Diasporas جزرًا معزولة عن بعضها بعضاً.
* أترى معي، أن الشرق بل ومجموع الدول الإسلامية، تعيش زمن الردّة الذي يُعدّ داعش وإخوته، أحد تجليّاته القاتمة؟
انسياق المجتمعات نحو عنف مستدام، أداته داعش، يبرهن عن مرضٍ طفولي يحمل فيه شبّان البنادق الرشاشة، والمديات والمتفجرات، من أجل سفك الدماء والتباهي بأفعالهم. ياسين صالح الذي فصل رأس مُخدِّمه (رب العمل)عن جسده، وعبدالحميد، أباعود، ورفاقه الذين قاموا بغزوات في باريس وضاحيتها، والإعدامات بالبث المباشر التي يقترفها الدولة الإسلامية "داعش"، تندرج جميعها في ثقافة الثأر والقصاص. نحن أمام أيديولوجية محكمة تقوم على غسل الأدمغة. يجنّد داعش أشخاصًا يتوجهون يوميًا إلى عملهم وبشكل عادي، إلى أن ينقضّوا على فريستهم. داعش هو أحد أشكال التطرّف الذي يتغذى من العدمية الغربية.
* ولد هنري لورنس عام 1954
من مؤلفاته
منابع الاستشراق، 1978.
الأصول الفكرية للحملة الفرنسية على مصر، 1987.
كليبير في مصر، كليبير وبونابرت، 1988.
الحملة الفرنسية على مصر، 1996.
المملكة المستحيلة : فرنسا وولادة العالم العربي، 1990.
اللعبة الكبرى: المشرق العربي والمنافسات الدولية، 1991.
لورنس العرب في السعودية، 1992.
المشرق العربي: التعريب والأسلمة من عام 1798 إلى عام 1945، 1993.
عودة المهجرين، النضال من أجل فلسطين من عام 1869 إلى عام 1997، 1998.
مسألة فلسطين، خمسة أجزاء:
الجزء الأول: اختراع الأرض المقدّسة (1799-1922)، 1999.
الجزء الثاني: مهمة حضارية مقدّسة (1922 - 1947)، 2002.
الجزء الثالث: الوفاء بالنبوءات (1947 - 1967)، 2007.
الجزء الرابع: غصن زيتون وبندقية محارب (1967 - 1982)، 2011.
الجزء الخامس: السلام المستحيل (1982- 2001)، 2015.