}

إبراهيم أبوهشهش: حالة جديدة للأدب الفلسطيني بعد بيروت

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 5 يناير 2017
حوارات إبراهيم أبوهشهش: حالة جديدة للأدب الفلسطيني بعد بيروت
ابراهيم أبو هشهش

تطابق الفضاء الثقافي مع الفضاء الجغرافي ربما تحقّق مرة واحدة في ما يتعلق بالحالة الفلسطينية، وتم ذلك في "فلسطين الانتدابية" حينما سيطرت "سلطة مركزية" واحدة ومناهج تعليمية موحدة نسبياً، فحدث نشاط ثقافي فلسطيني حيوي إلى درجة بعيدة

 

كان مقرّراً لهذا الحوار مع الأستاذ الجامعي والناقد الفلسطيني إبراهيم أبو هشهش أن يتركّز في عوامل قوة المشهد الثقافي الفلسطيني الراهن وعوامل ضعفه مقايسة بما كانت عليه الحال إبان ما يُسمّى بـ"مرحلة بيروت"، وهي المرحلة التي كان لوجود منظمة التحرير الفلسطينية "بوصفها وطناً معنوياً أوجد في المنفى مؤسسات شبيهة بمؤسسات الدولة، أثر حاسم في توحيد الوجدان الثقافي والوطني الفلسطيني في الوطن والشتات"، على ما يقول. لكن سرعان ما نحا الحوار نحو التطرّق إلى موضوعات أخرى غير منحصرة في الثقافة الفلسطينية فقط.

أبو هشهش رئيس دائرة اللغة العربية وآدابها في جامعة بير زيت. وحاصل على دكتوراه في الأدب العربي (1992) من جامعة برلين في ألمانيا.

نشر عدداً من الدراسات في الأدب الحديث والأدب المقارن، وصدرت له عدة كتب مترجمة عن الألمانية في الفكر والأدب وكتب الأطفال. وفي هذا المضمار الأخير صدر له بالعربية كتاب "أول المطر: قراءة في مضامين كتابات أطفال فلسطين (1996- 2009)" - منشورات مؤسسة تامر، رام الله، 2011- وتناول فيه نصوصاً للأطفال وكتابات منشورة ضمن مسابقة  بعنوان "كتابي الأول" من حيث مضامينها وموضوعاتها انطلاقاً من أن ما تحويه هذه الكتب يعكس الواقع الفلسطيني بمختلف موضوعاته وهمومه من أعين الأطفال. ووفقاً لتحليله فقد برزت عدة موضوعات تشغل أفكار أطفال فلسطين، وتكشف عن قضايا من حياتهم اليومية كمواضيع النكبة، والعودة من الشتات، والانتفاضة الثانية، ولم تستثن كتابات الأطفال الحياة اليومية بتفاصيلها وقضاياها المتعدّدة التي تمس أطفال فلسطين أينما كانوا.

في حوارات سابقة اطلعت عليها تمهيداً لإجراء هذا الحوار، أشار أبو هشهش إلى أن حركة النقد الأدبي العربي الآن في وضع مأزوم، فالنقاد العرب المعاصرون لم يستطيعوا أن يبلوروا نظرية خاصة بالمدونة الأدبية العربية، فضلاً عن أننا نعيش في عصر معولم، لكنه استثنى من هذا الوضع النقاد العرب الأميركيين، مثل إدوارد سعيد وإيهاب حسن اللذين تركا برأيه أثراً عميقاً باقياً في الفكر النقدي المعاصر في العالم.

وبحسب قراءته، مشكلة النقد لا تنفصل عن غيرها، فنحن نعيش أزمة شاملة ونشعر بعجزنا منذ قرون عن الإسهام بحصتنا من التقدم الإنساني، وهو أمر له علاقة أيضاً بتخلف التنمية في المجالات الأخرى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية. هذا ناهيك عن أننا ما زلنا نطرح الأسئلة التي تجاوزتها البشرية منذ قرون. وهو ما قد يفسر ما نراه في حياتنا المعاصرة من تزامن قيم تنتمي إلى عصور مختلفة. وإذا كان ذلك من نتائج العولمة من ناحية، فهو من الناحية الأخرى يدل على أننا لم نفرغ بعد من الإجابة عن أسئلة الحداثة الأساسية التي بدأ طرحها منذ حملة نابليون.

من جهة مكملة رأى أن النقد الأدبي العربي المعاصر لا يقوم بواجبه كما ينبغي في متابعة "السوق الأدبية" وإبداء رأيه في ما يجري نشره بإفراط وتداوله من أعمال، وهو ما جعل الحابل يختلط بالنابل، وأدى إلى كل هذا اللبس بين معيار الشهرة والرواج ومعيار القيمة الأدبية. ويشدّد على أن النقد كان في النصف الأول من القرن العشرين أكثر إخلاصاً في كل ما يتعلق بالقيام بواجبه من حيث متابعة ما كان يصدر من أعمال مما هو عليه الآن، على الرغم من الشوط المتقدم الذي قطعته النظريات والأدوات النقدية المستمدة من المنجز المعرفي الغربي الحديث.

هنا الحوار:

آثـار تمزّق

الجغرافيا الفلسطينية

-  شكلت "مرحلة بيروت"- إن جازت التسمية- أحد المفاصل في التجربة الثقافية الفلسطينية لأسباب شتى. وهذا "الحُكـم" لا يستند فقط إلى ما كانت عليه الحالة الثقافية الفلسطينية على المستويين الوطني والقومي بل أيضاً على المستوى العالمي في تلك المرحلة، وإنما أيضًا إلى ما آلت إليه تلك الحالة بعد بيروت، وأكثر فأكثر بعد اتفاق أوسلو عام 1993. فما هي أهم المفاعيل التي حركّت الثقافة الفلسطينية خلال هذه المرحلة، وهل صبغتها بلون مغاير؟ وإلى أي حد شكلت هذه المرحلة انعكاساً لـ"ارتقاء" المؤسسة في مقابل خضوع الأفراد، وهل انعكست الآية الآن؟ وما الذي عناه انتهاؤها بالنسبة للحالة الثقافية الفلسطينية وسؤال فلسطين في الوجدان العربي الجمعيّ؟

سأجيبك عن هذه الأسئلة جميعاً من خلال تقديم رؤية أشمل إزاء الحالة الثقافية الفلسطينية ارتباطاً بما كان وبما هو كائن الآن، وليس فقط بـ"المرحلة" التي تخصصها، ومن شأن هذه الرؤية أن تضيء، بكيفية ما، على تلك المرحلة وما تعنيه من مدلولات.

ربما تحقق تطابق الفضاء الثقافي مع الفضاء الجغرافي مرة واحدة في ما يتعلق بالحالة الفلسطينية، وقد تم ذلك في "فلسطين الانتدابية" حينما سيطرت "سلطة مركزية" واحدة ومناهج تعليمية موحدة نسبياً، فحدث نشاط ثقافي فلسطيني حيوي إلى درجة بعيدة، تمثل في تبلور ثقافة مدينية ازدهرت فيها الصحافة والطباعة والتأليف والترجمة والموسيقى، وتوسع التعليم توسعاً شديداً، ساهم في ذلك بشكل أساسي حالة النهضة الشاملة التي بدأت تتضح في مصر والشام منذ منتصف القرن التاسع عشر، والنظام التعليمي الانتدابي الرصين، ورواد تربويون كبار، بالإضافة إلى عشرات من المدارس الأهلية المتنوعة التي أتاحت لطلابها معرفة لغات وثقافات غربية مختلفة. وعمل كل ذلك على تكوين "وجدان ثقافي" فلسطيني عام، كان مع خصوصيته، جزءا من الحالة الثقافية العامة في مصر والشام، اتصف بالتنوع والتعددية والانفتاح والليبرالية، وتعدد المصادر. ومن يستعرض سير الأدباء والمثقفين الفلسطينيين في ذلك الوقت سيلاحظ مباشرة أثر هذا التنوع في مصادر تكوينهم الإنساني والمعرفي من جهة، وإنتاجهم الثقافي والأدبي من جهة أخرى، وما كان يميز هؤلاء على نحو شديد الإيجابية هو عمق اتصالهم بالتراث العربي بكل مكوناته من ناحية، واتساع انفتاحهم على الثقافات العالمية المعاصرة، وإتقانهم للغاتها من ناحية أخرى. وهي حالة إيجابية ميزت جيل الرواد الكبار مثل خليل السكاكيني، وخليل بيدس، وبندلي جوزي، وإسعاف النشاشيبي، ونجيب نصار، ووديع البستاني، ومحمد روحي الخالدي، ومحمود سيف الدين الإيراني، ونجاتي صدقي، وعادل زعيتر، وإبراهيم طوقان، وقدري طوقان، ومحمد سامح الخالدي، وجميل البحري، وعبد الله مخلص... وغيرهم كثير. فقد كان عديد من هؤلاء من حيث مصادرهم وتوجهاتهم فلسطينيين وعرباً ومواطنين عالميين في الوقت نفسه. وهي حالة فذة نادرة لم تعد توجد لاحقاً إلا على نحو محدود. وهنا لا بد من أن نذكر أن المسيحيين العرب كان لهم دور كبير جداً في النهضة الأدبية واللغوية والثقافية في فلسطين وبلاد الشام عموماً، ويضيق المجال هنا عن استعراض عشرات الأسماء الكبيرة التي كان لها أكبر الأثر في هذه النهضة.

لكن بعد ذلك تمزقت الجغرافيا الفلسطينية تحت ثلاث سلطات مختلفة، وذلك بين 1948 و1967 بالإضافة إلى الشتات في البلاد العربية المجاورة وغيرها. وقد كان لذلك أيضا شروطه واستحقاقاته على الثقافة الفلسطينية. فقد تعرض الفلسطينيون في أماكن تواجدهم إلى شروط تعليمية وحياتية مختلفة. وهنا يجب التفريق بين الثقافة بمفهومها العام، أي بوصفها كامل البرنامج الحياتي الشامل الذي يعيد الناس إنتاجه يوميا أثناء ممارستهم له، ولذلك فالثقافة حالة سائلة متدفقة تنتجها الجماعة، وبين الإبداع الأدبي والفني الذي هو حالة فردية، حتى لو عاد في نهاية المطاف ليصب في الكل الثقافي العام.

أما بعد عام 1967 فقد توحدت الجغرافيا الفلسطينية مرة أخرى تحت الاحتلال، وعاد الفلسطينيون في بقاعهم الثلاث يتلمسون ذاتهم الثقافية والقومية من جديد. وكان لوجود منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها وطناً معنوياً أوجد في المنفى مؤسسات شبيهة بمؤسسات الدولة، أثر حاسم في توحيد الوجدان الثقافي والوطني الفلسطيني في الوطن والشتات، ولكن هذا الأمر انتهى تقريباً بعد إعلان الاستقلال ثم الدخول في مدريد وأوسلو. وهذا حديث يطول هنا.

ما بعد بيروت

- أستطيع القول إنك ترى أن تأثير ما أسميناه "مرحلة بيروت" كان حاسماً أكثر شيء في توحيد الوجدان الثقافي والوطني الفلسطيني في الوطن والشتات... ارتباطاً بهذا هل في مرحلة ما بعد بيروت، ولا سيما عقب أوسلو، ما شكّل إلغاء أو ردماً لما قبلها؟

مثّلت مرحلة ما بعد بيروت حالة جديدة نسبيا في الأدب الفلسطيني، وتبدى ذلك في خفوت النبرة الحماسية التي هيمنت تقريبا في مرحلة الكفاح المسلح واتضاح الهدف، فخروج الفلسطينيين إلى شتات جديد صبغ الشعر الفلسطيني على وجه الخصوص بنبرة تراجيدية واضحة، لعل أوضح تعبير عنها كان ديوان محمود درويش "هي أغنية، هي أغنية" (1985). إن المتعمق في قراءة هذا الديوان سيلحظ انتهاء حالة الحماس وبدايات الحيرة التي تعمقت فيما بعد على الصعيدين الشخصي والعام، والغريب أن إرهاصات مثل هذا الشعور عبرت عنها قصائد كتبت قبل نشر المجموعة بعشر سنوات، أصدر درويش خلالها ثلاث مجموعات ولم يضمنها هذه القصائد، لأن ثيماتها ونبرتها كانت ستبدو غريبة في السياق العام. صحيح أن حالة الحماسة قد عادت لتظهر ثانية في الأدب الفلسطيني مجدداً بعد انتفاضة 1987، وعادت القضية الفلسطينية لفترة قصيرة إلى مركزيتها في الشعر العربي خصوصاً، ولكن ذلك لم يستمر طويلا، فقد أسفرت تلك الانتفاضة عن مدريد وأوسلو، وأسفر الواقع العربي عن حرب الخليج الثانية- 1991، وانهار الاتحاد السوفييتي، فخفتت بشكل شبه نهائي الواقعية الجديدة وما ارتبط معها من مفهوم خاص للالتزام في الأدب والفن، وبدأ الفلسطيني يشعر أن رحلته نحو الوطن ستكون طويلة جدا، فأخذ يعد نفسه لحياة طويلة يقطع فيها هذا الدرب الطويل. وستجد مرة أخرى في شعر درويش ابتداء من "ورد أقل" (1987) أعمق تعبير عن ذلك. وهذه الحياة الطويلة بحاجة إلى تأثيت بتفاصيل وهموم فردية كثيرة جعلت القضية الفلسطينية هي الحاضر الضمني، وليس المباشر بالضرورة، في هذا الأدب.

أما في ما يتعلق بمرحلة ما بعد أوسلو، ومهما قيل فيها، فهي شهدت على المستوى الثقافي حالة انتعاش نسبي للأدب الفلسطيني في فلسطين التاريخية كلها، وليس في مناطق سلطة أوسلو فقط. صحيح أن أغلب الأسماء الكبيرة قد "عادت" من الشتات، ولم تتخلق بعد أسماء كبيرة "محلية" توازيها، إلا أن نشاطا ملموسا أخذ يدب في الحالة الثقافية الفلسطينية، وحتى لو اصطبغ الإنتاج بنبرة ذاتية واضحة، إلا أن روحا عامة كانت تسري في أوصال ذلك. ولا يمكن قراءة ما تم فعلا آنذاك بالروح المتشائمة التي أعقبت "هزيمة" الانتفاضة الثانية، والاستحقاقات الخطيرة التي تبعت ذلك وعمقت حالة اليأس والانصراف أكثر إلى الذات، ليس على صعيد الأدب فحسب، وإنما أيضًا على صعيد الممارسات الحياتية الشاملة بمعناها الاجتماعي اليومي.  

 

روايات عربية قليلة القيمة

الرواية العربية تكاد تتسيّد المشهد الأدبي العربي برمته... هل هذا ناجم عن إنجازات حقيقية اجترحتها هذه الرواية أو عن مجرّد صرعة عابرة؟ ما هي برأيك أبرز المحطات التي مرّت بها الرواية العربية، وهل من سمات معينة للفترة الراهنة؟

لا شك في أن الرواية تتسيد الآن المشهد الأدبي العربي المعاصر، وتكاد تكون الجنس الأدبي الوحيد الذي يقرأ على نطاق واسع نسبياً، لكن ذلك لا يعني أن الرواية العربية قد حققت اختراقات جمالية أو إنجازات ملموسة، بقدر ما إن ذلك آت من كونها قد أصبحت أقرب إلى الظاهرة الإعلامية من حيث لغتها وقضاياها وطرائق تناولها لموضوعاتها، أضف إلى ذلك سهولة النشر، والترويج الكبير الذي تحظى به الرواية، وخاصة بعد إنشاء جوائز خاصة بها تمتلك آلة إعلامية ضخمة نسبياً، وقادرة على صناعة "نجوم" روائيين. بيد أن كل ذلك لم ينتج أعمالا روائية كثيرة جديرة بالقراءة، فأغلب ما يصدر هو في الحقيقة قليل القيمة، وإن كان لهذه الجوائز من قيمة فعلية فإنما يتمثل، في رأيي، في بث النشاط في القراءة في السنوات الأخيرة بعد صدمة وسائط الاتصال الاجتماعية في العقدين الأخيرين. ونأمل أن يسفر هذا التراكم الكمي في النهاية عن تحولات نوعية ترفع مستوى الرواية العربية، وتجعلها جديرة بالقراءة في لغتها وبالترجمة إلى لغات أخرى.

أبرز ما يميز الرواية العربية الراهنة هو خروجها شيئا فشيئا من سلالة الأدب، لتصبح، حسب تعبير الناقد محمد العباس، مساهمة إعلامية في الحداثة الاجتماعية، فكتّابها غالبا لم يتناسلوا من سلالة الأدباء، وقرّاؤها أيضا لا يقرؤون غالبا إلا الروايات، وهذ انعكس على شروط جمالية أساسية أهمها اللغة والعمق، فلغة الرواية باتت لغة عادية يومية، بمعنى أنها لم تعد تستخدم استخداما جماليا، بقدر ما صارت وسيلة براغماتية لتوصيل الفكرة، شأن لغة النشرات الإخبارية، وهذا أمر لا  يمكن لذائقة تدربت على قراءة الأدب العربي في جميع أجناسه وعصوره، واطلعت على شيء من الأدب العالمي، أن تتقبله، لأن مهمة الأدب الأساسية في رأيي هي الإفصاح عن العالم، وليس توصيل أفكار عن قضايا راهنة فقط، ووسيلته الوحيدة في ذلك هي اللغة، ولكن ليس أي لغة، وإنما اللغة الكثيفة التي تجعل من الأدب أدباً، لأنها تحيل إلى ذاتها في المقام الأول حسب ياكوبسون، أكثر مما تحيل إلى خارجها كما في اللغة العملية اليومية. ولذلك صرنا نرى لكل رواية موضوعاً سياسياً أو اجتماعياً مباشراً "تعالجه" وكأن المطلوب من الرواية تقديم حلول للمشكلات الاجتماعية السياسية، وليس البحث عن مغزى الحياة الإنسانية وراء الراهن والإفصاح عنه. وهذا جعل الروايات تتضخم بلغة مجانية متراكمة، ولذلك فإنني أتوقع أن أغلب ما يطبع الآن ويقرأ من هذه الروايات لن يكون له أي ذكر بعد سنوات قليلة، لأنه يقوم أساساً على شهرة متوسطة مرتبطة بظروف راهنة، وليس على قيم إنسانية وأدبية وجمالية باقية. وأخشى أن تكون الرواية العربية الآن، نتيجة استسهال كتابتها ونشرها، وغياب مواكبة نقدية جادة لها، قد وصلت إلى حالة سريعة من الوهن الجمالي، مما يجعل القليل جداً مما يصدر من روايات جديراً حقاً بالقراءة.

سمعتك أكثر من مرة تؤكد أن الرواية لا يمكنها أن تسدّ مسدّ الفكر ولا يجوز للراوي أن يكون في إهاب المفكّـر... لماذا؟ وهل الراوي المتطلع إلى أن يُعامل كمفكّـر يستقوي بانكفاء الفكر؟ وهل الفكر منكفئ فعلا؟

لاحظت من حضوري لندوات كثيرة خاصة بالرواية، ومن قراءتي لعدد كبير من المراجعات "النقدية" للروايات العربية التي تصدر بلا توقف، أن هذه القراءات أخذت تتوقع من الرواية أن تقدم لها رؤية شاملة عن الواقع والوجود، وأن تدلها على طريق واضح في خضم هذا الواقع الملتبس، خصوصا أن كثيراً من الروائيين أخذوا يصطنعون لرواياتهم موضوعات راهنة ساخنة، وبات القراء ينظرون إلى كتاب الرواية على أنهم قادة فكر يمكن أن يسترشدوا بأعمالهم، وقد ساعد على ذلك أيضاً حالة من انكفاء الفكر العربي المعاصر، وخفوت أصوات المفكرين وقلة تأثيرهم في واقعهم ومجتمعاتهم، خصوصا في سياق كل هذه الخيبات وهزائم الأحلام الكبرى، وحالة التشاؤم الشاملة التي أعقبت حالة التفاؤل العابرة بعد ما عرف بثورات الربيع العربي. ولكن الصحيح أن كثيرا من هذه الأعمال لا تتمتع بهذه الصفة، فكتابها لا يمتلكون ما يكفي من أدوات ثقافية وفلسفية وفكرية، وعمق معرفي، وقدرة على النفاذ في لحظة تحولات تاريخية شديدة التداخل والالتباس، تجعلهم مؤهلين للنهوض بهذه المهمة الخطيرة. ربما كان روائيون مثل نجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف وغسان كنفاني وإبراهيم الكوني والطيب صالح، وعدد قليل آخر، مؤهلين لمثل هذه المهمة، فقد كانوا قادرين بما امتلكوا من أدوات ومؤهلات معرفية على تضمين أعمالهم هذه الرؤى الكلية الصالحة للتناول حتى على صعيد الفكر الفلسفي أو السياسي أو الاجتماعي، وهذا أمر لم يكن غريبا في الرواية العالمية، بل كان شديد الشيوع هناك، ولكن مثل هذا لا يتوفر لكثير من الجيل الجديد من كتاب الرواية العرب، وهذا يبدو جليا في فقر عوالم الروايات وضحالتها وانبتاتها عن تقاليد أدبية كبرى.

لا بديل للشعر

-  كيف تنظر إلى تأثير ذلك على مكانة الشعر في المشهد الأدبي العربي؟

لا أظن أن الشعر سينتهي في أي يوم من الأيام، فلا شيء يمكن له أن يسد مسدّه. صحيح أن وسائل التعبير الشعري تشهد تحولات مستمرة، ولكن الشعر في ذاته ممارسة جمالية حميمة خاصة شديدة المساس بروح الإنسان ومعنى وجوده لا يغني عنها أي شيء آخر. أما أن يقل عدد قراء الشعر فهذا أمر عادي حصل في كل العصور، وسوف يحدث دائما، ولكن الشعر يبقى، وربما ازداد مكانة مع الزمن، فهو وحده، إلى جانب الموسيقى، قادر على أن يجعل هذه الحضارة الساحقة تثوب قليلا إلى رشدها، وعلى تأكيد سمو الحياة الإنسانية في ذاتها. ولا يمكن لأي جنس أدبي آخر، وخاصة الرواية، أن يقوم بوظيفة الشعر. ولم أنظر لحظة واحدة إلى أن الرواية منافس للشعر، فهذا لا معنى له، لأنهما شيئان مختلفان تماماً، يؤدي كل منهما وظيفة جمالية ومعرفية خاصة، وكل منهما يفصح عن معنى الوجود بطريقته الخاصة. ما يمكن له أن ينافس الشعر في عصر الميديا والفضائيات، ليس الرواية، وإنما الأغنية، التي هي شعر في نهاية المطاف، وإن كان المستوى غالباً، وليس النوع، هو موضع التساؤل هنا. ولعل في منح نوبل هذا العام لبوب ديلان تعبيراً قوي الدلالة على ذلك.  

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.