في سنة 1971 أصدرت "العنف في الدماغ" مجموعتي القصصية الأولى، عن جماعة " أنفاس" الأدبية، الطليعية، آنئذ. كان كتاب القصة القصيرة والرواية في المغرب يومها يُعدّون على أصابع اليد، والواقعية والالتزام هما عنوان ونهج وعقيدة الأدب، فيما خُضت بجرأة في نهج مغاير تماما يشطر المنظور إلى شظايا، ويعطي للغة مكان الصدارة، ولصوت الأنا أقوى خطاب، ويدخل الواقعية منطقة الخطر ضد دوغمائية الالتزام وانغلاقه، إنما يؤمن بالتغيير أفقا مطلقا، بواسطة أدبية تشن "حرب عصابات" النص، وبمقتضيات جمالية مبتدعة، أكثر منها موروثة. بدأت، إذن، قاصّا، بالأحرى زارع فِتن، وواضع كمائن وألغام في طريق النثر، ومنذئذ صنفت تجريبيا، وما أزال، أي رافضا الاستقرار والجمود في الشكل، في نظام الأجناس، أشنّ عليها الغارة تلو الغارة، ما أكاد أستقر في نظام إلا وانقلبت عليه. هذا ما قادني، وأنا في غمار حياة شخصية واجتماعية متقلبة، وظروف سياسية هوجاء، ومناخ ثقافي ذيليٍّ لها، محدِود الأفق، أن انتقلت إلى كتابة الرواية، بالأحرى إلى توسيع مساحة النص ليستوعب هياجي وجسدي الديناصوري؛ غضبي الذي كان وما يزال بلا حدود. والحق، لم يكن انتقالا إلى جنس أدبي مختلف، بقدر ما كان بحثا عن تعبير تتفاعل فيه الأجناس، وتتلقح من بعضها، ويظهر فيه الاجتهاد الشخصي للكاتب هو مضمارُ الإبداع ورهانُه الأقصى، لذلك جاءت رواياتي الأولى "زمن بين الولادة والحلم" و" وردة للوقت المغربي" تحديدا في وضع طلاق مع النواميس الأجناسية المرعية، التي احتجت إلى زمن للتمكن منها فاختراقها لاحقا بوعي. مراسٌ تواصل بانتظام بين كتابة الرواية والقصة القصيرة، مراوحا بينهما، مخلصا لهما، أجد لكل قول نسقَه وحافزَه ومجالَ نشاطه. لقد تجاوز عدد مجامعي القصصية العشرة، ومثلها ويزيد من الروايات، وكلما قلت إني سأقلع عن هاته لصالح تلك ما ألبث أن أعود منجذبا، مشدودا بخيط سحري لكليهما، يفرض اللونان عليّ عِشرة مشتركة، قانونها الداخلي ما قالت به العرب قديما بأن لكل مقام مقالا.
بعض من الأتوبيوغرافيا في "طرز الغرزة"، كأنك تقول للقارئ، فن القصة فن صعب لا يتقنه إلا الضالعون في دروب السرد؟
أجل، مجموعتي القصصية الأخيرة هي" طرز الغرزة" (المركز الثقافي العربي، بيروت،2016). حرصت على إصدارها بعد روايتي الأخيرة: "ممر الصفصاف" (2015). علما بأن دور النشر تحجم أو تتردد كثيرا اليوم في نشر القصص، تجدها غير قابلة للرواج، وبالتالي غير مربحة، ولا تلقي بالا بالضرورة للقيمة الفنية التي تحتاج إلى وقت للإقناع، ولا يدركها ويُعنى بها إلا الراسخون في بابها. أحب أن أنبه أن عنوان مجموعتي مرتبط بلون من الطرز في المغرب، في المدن العريقة، وفاس أعرقها، تظهر فيه النساء في العائلات الكبيرة براعتهن، ويسخّرنه غالبا لإعداد بعض جهاز العروس من مناديل وأفرشة ومساند (إلخ)؛ لذا ينبغي أن يأتي طرزا غاية في الإتقان، لا تشوبه شائبة. كذلك أردت وزعمت في هذه المجموعة، لبلوغ مدرك الإتقان، وأبغي لكل قاص، حسب مذهبه واهتمامه وأسلوبه. وهو ما لا يتأتّى إلا للموسوسين بالفن حقا، على وجه الدقة والحذق وإصابة الهدف، لا الثرثرة والفضفضة وغثاء السيل. عندي أن القصة القصيرة، وعند نفر من الكتاب المحترفين، أي ممن لا بديل لهم عن الأدب ـ فن صعب جدا، ومحترف، ومضمار اختبار لأدواتهم، يمتحنون فيها قدرتهم على التقاط الأشياء الصغيرة، ورصد الدقيق والجوهري، وانتخاب الدال، ونفض النافل، ونخل اللغة، وتشذيب العبارة، وتكليم الحواس الخمس، والجوارح، وهجس الباطن، واختزال القول واكتنازه، والإيحاء بدلا من التصريح، والإضمار الناطق عوض الجهر الفاضح، وحيث للعبارة والوصف والحوار والإشارة والهمهمة لغات فيما هي لغة واحدة. أنت لن تجد كاتبا مفلقا في الإبداع السردي لم يطرق القصَّ القصير، ويَمْهَر فيه مهارتَه في الرواية، قد أخذها بجد، لا محطة عبور إلى الجنس الروائي كما ينخدع بعض ضعاف الموهبة، ممن يخبطون خبط عشواء بين فنون القول، ويحسبون الكتابة الأدبية بمقياس الطول والعرض، كما بحيازة كمّ الألقاب والصفات، لذا أجدني أحتاج إلى ترويض قلمي عُنوةً وشغفا أيضا لأختبر أدواتي، وأطور صنعتي، فالكاتب صانعٌ ولاعبٌ، فضلا عن نزوعاته الأخرى، والقصة القصيرة فن اللعب الأدبي بامتياز. الرواية كذلك، طبعا، حين تُعطى القوس باريها.
أنت صاحب المعارك والسجالات الثقافية على مدار أكثر من أربعة عقود. لو سألتك عن أهم المحطات المؤثرة في حياة المديني كاتبا وإنسانا ومبدعا ملتزما، كيف ستقدمها للقراء؟
لم أذهب إلى المعارك ولا السجالات الثقافية، لأفتتن أو أمارس موضة ما، ولكن لأنني ابن جيل ما بعد الاستقلال مباشرة، وتحديدا ابتداء من منتصف ستينات القرن الماضي، الذي عاش وتقلب في ظروف وأوضاع أقوى منه، ولم تهزمه بل شحذت همتَه وزادته إصرارا على الرفض وإرادة التغيير، على كل الصُّعُد. أنا من أبناء جامعة محمد الخامس، ثم ظهر المهراز في جامعة فاس حيث المحفل الأهم للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، هنا بعد انتفاضة الدار البيضاء، واختطاف المهدي بن بركة في باريس،(1965) ومواجهة السلطة لنا بأساليب القمع، نشأنا مناضلين وترعرعنا ملتزمين كأنما بالفطرة، إذ لم يترك لنا الحكم خيارا في هذا السبيل، الثقافة والأدب والسياسة هو زادنا اليومي، محطة التعليم الجامعي في غمرة النضال الطلابي ذي الطابع السياسي المباشر هي محطتي الأولى. تلتها عودتي إلى مدينتي الأم الدار البيضاء، لأدرس أولا في السلك الثانوي، وأنتقل بعد ذلك إلى التعليم العالي، فيما وجدتني بالموازاة أنخرط في العمل الصحافي باعتباره ممارسة نضالية، في إطار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي سيصبح الاتحاد الاشتراكي بعد زمن الرصاص والمنع الأولى. أتحدث عن جريدة "المحرر" لسان الحزب، والمدرسة النضالية العتيدة في مرحلتها الأصيلة، والقويمة، كنت من محرريها الأساس، ومشرفا على ملحقها الثقافي الذي خضنا من خلاله معارك ثقافية ضارية مع النظام الرجعي، الاستبدادي والقوى المحافظة في المجتمع، سياسيا وفكريا، وذلك على مستوى المفاهيم والتصورات والاختيارات الفكرية والمذهبية المقترحة للتغيير، متوسلين لذلك الافتتاحيات والمقالات والندوات والكتابة الأدبية، كتابة جيلنا التي لم يكن ممكنا، بل ولا مسموحا أن تخرج عن سياق أدبيات التغيير إن لم أقل الثورة، بحماسة وتصلب. إنها مرحلة غنية ومتداخلة، متعددة المكونات والممارسات، قد تستغرب كيف تجتمع مشحونةً في أتون فرد واحد، يجدف في أمواج السياسة (الحزب والجريدة) والثقافة والأدب (المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب منذ منتصف السبعينات ومذ أشرس معركة عاشها الكتاب والمثقفون المغاربة في ما أصبح يسمى مؤتمر مدارس محمد الخامس لاتحاد الكتاب (1973)، هنا حيث واجهنا القوى الرجعية، الموجهة وقتئذ من القصر مباشرة، وعُقدت لنا فيها الغلبة وأدفعنا لذلك تضحيات، ليس لأحد اليوم أن يتبجّح أو يمنّ بأنه دفع الثمن غاليا بجسده، داخل الزنازن، شهورا أو سنين عددا، فكل أبناء جيلنا، جلنا ذلك الرجل، ولسنا كلنا قايضنا جراحنا وذاكرتنا بعد ذلك بالمال أو المنصب. لقد مثّل اغتيال الشهيد عمر بن جلون، الزعيم الفعلي بعد عبد الرحيم بوعبيد للاتحاد الاشتراكي، بالنسبة لي، الذروة المأساوية لهذه المرحلة، وكانت خسارتُه وبالا على الحركة الاشتراكية الديمقراطية في المغرب، وبداية تحول في أكثر من اتجاه، وغالبا بمقياس التنازل للحكم والقبول بالعد التنازلي وحتى المساومة على المشروع الإصلاحي. كنت قريبا من هذا الجو وخارجه في آن، حريصا أن أحفظ لنفسي ترابا سياديا بعد صبوات وحتى هفوات الذات هو الأدب، باعتباره المجال الوحيد الذي أخوض فيه مغامرتي وهوسي كما أشاء بعيدا عن الأطر المغلقة والدوغمات المسكوكة، وهذا دأبي منذ التحاقي عضوا بمجموعة أنفاس الطليعية في نهاية الستينات، ثم جريدة المحرر، اتحاد كتاب المغرب، ومنابر عربية خارج المغرب طيلة السبعينات، ستقودني إلى المرحلة الثالثة من حياتي، هي بداية النضج والاختمار واكتساب الأهلية في التكوين والتدريس الجامعي، والعكوف على الكتابة الأدبية بجدية ووعي وبخطط وأحلام شاسعة وشغف بالحياة في عالم جديد، ثري: عالم الجمال، والمعرفة، والإبداع ، وفي مناخ الحرية والديمقراطية... في باريس. هذه مرحلة امتدت من 1980 وتتواصل بزخم مثير، أثمرت عطاءات شتى وتقلبت خلالها في تجارب لا تحصى، صرت كاتبا، وأكاديميا بحق، وأصبح لي بيت وأسرة، وانتقلت إلى بقاع شتى من العالم، وأحببت، وفقدت والدي، وتعلمت هوى أمتي، وصارت عروبتي، بعد ديني، ملتي ومذهبي، وقراءة مفردات طفولتي ووطني، و.. ما هذا سوى غيض من فيض.
عشت تجربة إعلامية مبكرة في سنوات الرصاص، هل كان هذا التكوين الأولي هو بداية انخراطك في الحياة السياسية والإعلامية؟
بداية انخراطي في الحياة السياسية تمّ في منتصف الستينات، في الجامعة، وما أسميه مدرسة ظهر المهراز، بفاس التي كتبت عنها إحدى أهم رواياتي، والرواية المغربية، بشهادة النقاد. في مطالع السبعينات، والاتحاديون يلملمون شتاتهم، ويطلق سراحهم تباعا إثر ما تعرضوا له من حملات قمع، وهي موسمية، سعت القيادة إلى إعادة صوتها الإعلامي الذي كان قد مُنِع، أعني جريدة التحرير، فتأسست "المحرر"، ودعاني صديقي الإعلامي والمناضل الاتحادي الراحل مصطفى القرشاوي، عقب خروجه من السجن، للانضمام إلى صفوف الإعلام الحزبي، وكنت قد بدأت النشر في الصحافة الوطنية، وهو من قدمني سنة 1974 إلى الشهيد عمر بن جلون، الذي وثق بي، هو ومحمد عابد الجابري الذي صار لي لاحقا صديقا حميما وقدوة ورفيقا خاصة في باريس؛ رمياني إلى أتون المطبخ الصحافي، أكتب في مختلف المواضيع والأبواب، وأترجم، وأشرف على الملف الثقافي، وأعمل إلى جانب هذا في سلك التعليم مصدر عيشي الحقيقي، فالمناضل الصحافي آنذاك كان ساذجا، يخجل أن يخوض في موضوع المال، حتى وهو يرى الكبار يحصدونه خفية وفي رمشة عين. أعتبر أن أهم ما أفدته من الالتحاق بهذا الوسط، هو التعرف من الداخل إلى عالم كنت أجهله، عن كواليس السياسة وكوابيسها ومناوراتها وأخلاق أهلها، أبناء اليسار خاصة، تحسبهم معصومين ومنزهين عن الخطأ والانحراف، فيما باع أغلبهم اليوم تاريخه ومجد اليسار، تهافتت شعاراتهم، وتبخرت المشاريع، ولم يبق من أمس إلا، آه، كم ذكرى مريرة. لا أندم على شيء لأني تعلمت من الصحافة كثيرا، أسجل تحديدا أن الكتابة صارت تدريجيا طوع أناملي، وطفقت أذهب إليها أو واجبا لا مناص منه، بعد أن كنت ذاك الحالم ينتظر أو يترقب أن يأتيه الإلهام من ناحية ما ليكتب قصة أو قصيدة، إذ الشعر بدوره جزء من ديدني. هكذا تعلم عديد كتاب فن الرواية، أكتفي بمثالي همنغوي، المراسل الحربي، كيف تعلم جملته البرقية، الدالة، وغابرييل غارسيا ماركيز، انطلق مساره الأدبي من صحافة مدينته كارتخينا في كولومبيا، منها تعلم أسلوب التحقيق والتحري واقتفاء أثر الشخصيات. باختصار، علمتني الصحافة كيف تطوع قلمك، وكيف تصبح الكتابة حرفة جدية ومثابرة، تنهض إليها من الصباح، مثل أي عامل سيذهب إلى إدارته أو مصنعه. علمتني الصحافة أن الأدب يتطلب التوفر على عُدة وخبرة بما تُحرر، إلى صندوق أدوات، كما يقول ستيفن كينغ، إذ الموهبة وحدها مجرد فطرة تحتاج إلى ما يغذيها ويديمها، أي الصنعة، وفي الصحافة أنت لا خيار لك، فالمطبعة لا بد تدور، والقارئ أيضا ينتظر، وقبل ذلك لتعجن كل شيء في عقلك، وتشحنه بلظى قلبك.
مرحلة باريس محطة كبيرة وفارقة في حياتك الفكرية والأدبية، ماذا عنها كملتقى للمثقفين العرب آنذاك، والحركات السياسية من مختلف أنحاء العالم العربي؟
لم تعد باريس مرحلة في حياتي، أضحت هي الحياة، ولا وجيب، لا شهيق أو زفير بدونها، هنا حيث تظهر الحياة جديرة بأن تُعاش، والعمر خارجها خسارة وبدد. لست مستلبا، وأقبل أن تلصق بي كل النعوت من أجل هذه المدينة، حاضرة الدنيا، ولن أفيض أكثر، فقد دونت ولعي وخبرتي وما تعلمته منها في كتابي: "نصيبي من باريس" (الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، بطبعتيه 2014 و2015). هي أحق بأن تُعدّ مراحل في حياة، أعتبر بالنسبة إليّ ثمانينيَتها الأهمَّ والأخصب، في ما يخص الحضور العربي، سياسيا وإعلاميا وجامعيا، كانت تغلي بأنشطة العرب، يقيم فيها أعلامٌ بارزون منهم، أصدقاء، عبد الرحمن منيف، فؤاد التكرلي، أحمد عبد المعطي حجازي، محمود درويش، أدونيس، برهان غليون، ويزورها العشرات، للسياحة أو المشاركة في ندوات يحتضنها معهد العالم العربي، زمن مجده الغابر، أو جامعات فرنسية، ومنتديات أخرى، وتشهد انشغالا جديا وعميقا بالثقافة العربية على يد آخر سلالة من المستشرقين والمستعربين المستنيرين، بين السوربون والكوليج دي فرانس، أكتفي بأسماء شيوخ لي: جاك بيرك، محمد أركون، جمال الدين بن الشيخ، أندري ميكل، فضلا عن الجيل الجديد الأكاديمي الجديد الذي صرناه برفقتهم وبعدهم، ومعنا باريس منارة للإبداع والثقافة العربية. في هذه المرحلة التي شهدت أيضا تعدد منابر الصحافة، وتصارع وتنافس أنظمة حكم وتيارات سياسية عربية جعلت من باريس مسرحا لها، بتواز مع فترة حكم ميتران الناهضة. باريس هذه زالت، ولم يبق منها، سوى بضعة أوشام على ظاهر اليد، وأطلال ذكريات، هنا وهناك، صرت أمشي في جنباتها فلا أرى إلا الأشباح، قد غادرها أحبابي، أغلبهم إلى السماء، وبقيت أنا أجول في خرائطها القديمة، جولان باتريك موديانو وأوحش منه، لا أعلم أيّنا اغترب عن الثاني، ولا كيف أفل نجم العرب فيها، لم يعد اسمهم يذكر تقريبا إلا مقترنا بالتعصب والإرهاب، ولا أعرف رغم كل شيء مكانا يؤويني بأمان وكرامة وحفاوة بنفسي، وعائلتي، وأدبي، سواها.
كتبت رواية "الجنازة" وكأنك ترثي مرحلة سياسية واجتماعية كاملة من تاريخ المغرب، هل كنت معنيّا بالتاريخ الاجتماعي لبلدك؟
كتبت رواية "الجنازة" بعد وفاة والدي، شهر يوليو/تموز 1981 الذي شهد الانتفاضة الثانية لمدينة الدار البيضاء، وحصدت فيها قوات الحسن الثاني مئات الضحايا الذين كانوا من بين آلاف تظاهروا ضد غلاء الأسعار في هذه المدينة العمالية التاريخية، المشهود لها بأول انتفاضة بعد استقلال المغرب، في مارس/آذار 1965 وشهدت مواجهات بين الشعب وقوات الجنرال أوفقير التي قتلت المئات وألقي بجثثهم إلى البحر. كان يوما دمويا في الدار البيضاء (1981) ولم نجد سبيلا لمواراة أبي في الثرى. احتجت إلى أشهر لأستوعب هذا الموت ولم أستوعبه، وامتزج عندي وتعالق بقتل عمر بن جلون في واضحة النهار على يد أصوليين متطرفين، مسخرين من جهة ما. كنت في باريس، التي رحلت إليها لعديد أسباب، تاركا ورائي أزمنة وأمكنة وأحبة، وتاريخا بكامله، أردت أن أتجاوزه، رغم أنه راقد في وجداني. هذا التاريخ هو ما حاولت استعادته في "الجنازة" بالتصوير والتشخيص والعقدة التراجيدية، بلغة بين الشعر والنثر عالية الإيقاع، شامخة البلاغة، وحيث معاناة المجتمع المغربي تحت وطأة الاستبداد وخيبة ما بعد الاستقلال مرصودة من خلال مصير شخصيات، حقيقية ومتخيلة، دليل إحساس حاد بالفجيعة التي كنا نعيش، ويحتاج الكاتب إلى أن يحيط بها روائيا، إذ ليس لنا ترف أن نتخلى عن المجتمع ونفتتن بهواجس ذواتنا، الانشغال بما يمور به الواقع هو سناد كتابتنا أو لا تكون.
كتابة الرحلة لها أهمية خاصة في نسيجك الإبداعي، هل كان يحرك البحث عن أفق كوني للمبدع المغربي الذي هو أنت؟
غادرت بلادي منذ مطلع السبعينات لأعلم في الجزائر، حافزي اكتشاف فضاء مختلف. منذئذ وأنا لا أضيع فرصة للسفر والترحال، لا للمتعة فقط، وإنما للتعرف على الدنيا، وربما لأهرب أيضا من نفسي (الأمّارة بالسوء). من حسن الحظ واتتني الظروف لأذرع العالم طولا وعرضا، حتى إني بت أستيقظ أحيانا في فراشي لا أعرف في أي مضجع أنا. ومبكرا حرصت على تدوين وتصوير رحلاتي، بطريقة عفوية في البداية نشرتها في الصحف، مغربا ومشرقا، ثم أصبحت الرحلة، بالأحرى كتابتها عندي جزءا من انشغالي الأدبي، أوفّرها في كتاب مخصوص، وأنشئها بما يليق بها ولها، قالبا، ولغةً، وطريقةَ عرض، أي صار لي فيها أسلوب معتمد لدي. لي خمسة كتب رحلية، وهي من صميم تجربتي الأدبية، لأنها مكتوبة أصلا وبنيّة وهاجسٍ إبداعيين، ويمكن أن تعد جزءا من سيرة ذاتية، وهذا فن.
كيف تقيم الآن ارتدادات ما بعد الربيع العربي، وما نعيشه اليوم من وضع دموي في العالم العربي؟
لم أعلق آمالا ولا أوهاما كبرى على ما سُمي: "الربيع العربي". حدث وأحدث نشوة عابرة، وبعبارة الشاعر: "كان صرحا من خيال، فهوى". نعم، كان السيل قد بلغ الزُّبى، وأنظمة الحكم الاستبدادية في العالم العربي قد تمادت وتفاحشت في جبروتها وغطرستها واستنزافها واحتقارها للشعوب، والتفنن في أساليب القمع. طفح الكيل، وانبثقت لحظة البوزيدي، كنبوءة إلهية، اللحظة التراجيدية التي قصمت ظهر البعير. إثر تونس وبرفقتها انفجرنا، صرخنا في الشوارع والميادين ملء حناجرنا، ومن صدورنا، أجسادنا المتهدمة طردنا أجيالا من الخوف والخنوع. وانتشينا، ثم انقلب السحر، ليعود الاستبداد ربما أهول من ذي قبل، بطرق مبتكرة، وتسميات ملطّفة، خادعة، كلعب الحُواة، إذ تغيرت أسماءٌ، وكراسٍ، وحتى دساتير، وبقيت الجيوش، والأجهزة، والمؤسسات، والتابوهات، ذاتُها. كان الخرق في البداية قد اتسع على الراتق، وجاءت قوى أجنبية فرتقت المتسع، وجلبت إلى مختبر تجار الديمقراطية أشكالا لممارسة الحكم كما تشتهي وتتصور، لا بد أن تنتهي إلى الفرقة والتشتيت. ولنظهر نحن العرب، شعوبنا، ومشاريع نهضتنا، ودولنا الوطنية، في الماضي والحاضر، وحتى رؤية المستقبل، لا أكثر من (كوبايات cobaye) في مختبرات واشنطن ولندن وباريس، وحتى موسكو وبيجين، قابلة للتفكيك والهدم والمقايضة، ما همّ عشرات آلاف الضحايا وطوفان الخراب، والدم الذي أنذرني عبد الرحمن منيف منذ مطلع ثمانينات خَلت أنه سيسيل حتى الرُّكب.
ما اشتراني يوما أحد
نحن الآن خارج كل الفصول، الكتاب، المثقفون، النخبة، من العمى والعدمية أن نحشر الجميع في سلة واحدة ككومة خضرة. لقد خاض المثقفون العرب معارك ضارية في جبهة التنوير والتحديث، لذا أرفض الدخول والمزايدة في بورصة التسوية والاستسلام. لم أبع، وما اشتراني أحد يوما، ولا جرؤ. كل كلمة كتبتها مدونة في سجل نهضة وطني وأمتي، وضد الانحطاط والاستبداد. أما الديمقراطية فليست ذات صوت أو بُعد واحد، في جوهرها الإيمان بنهج التعدد والتنوع وحق الاختلاف. أنا كاتب، وجامعي، وعاشق للحياة، ولست قائد فيلق. قنابلي كلمات، أشعار، أحلام، حتى أوهام، روايات تقضّ مضاجع أعداء الحياة. إننا جميعا شركاء في الخسارة بعد أن راكمنا الهزائم والخيبات، التي لا يد لنا فيها، وبعد أن تكسرت النصال على النصال. لا أملك أخيرا أبلغ من قول سميِّي أحمد أبي الطيب المتنبي: "أريد [ أردت] من زمني ذا أن يبلغني/ ما ليس يبلُغُه من نفسه الزمن". إنما هيهات. جسدي قليل، وطموحي منذ حبْوي ولد شاسعا. إنما، وكما قال صديقي الراحل الشاعر أحمد المجاطي: "ظمئنا والردى فيك / فأين نموت يا عمة؟!". في ما تبقى لي من عمر قليل، لن أعتزل. أترك هذا الترف للمغنية شيرين، التي تتصدرـ يا للمهزلة!ـ مانشيتات الصحف العربية، ولباقي المترفين والتنابل. سأظل وفيا لكتابتي التي هي الجائحة، إلى أن أُوارى في الثرى، أتمنى في يوم يشبه يوم وفاة أبي.. أبشِروا، إنها قادمة، الجائحة.