}

خالد تكريتي: اللوحة عاطفة وانفعال

ديمة الشكر ديمة الشكر 26 يناير 2017
حوارات خالد تكريتي: اللوحة عاطفة وانفعال
لوحة من "النساء والحرب" لخالد تكريتي (غاليري كلود لمان)
منذ معرضه الأول في دمشق عام 1996، بدا الفنان السوري خالد تكريتي مختلفًا، ذا حضور خاص في الساحة الفنية السورية الغنية. باع تقريبًا كل لوحات معرضه الأوّل، ولم يدفعه "نجاح" مماثل لتكرار نفسه، بل على العكس، فكل معرض له مختلف عن الآخر، كما لو أن خالدًا يقدم للمتلقي اقتراحًا جماليًا جديدًا، يألفه المتلقي من دون فقد الصلة ببصمة تكريتي. خلطة خاصة تؤلّف عالم تكريتي العذب والمتنوع والرقيق في آن معًا، لوحاته قوية التعبير، ذات حضور آسر، وظهر هذا بشكل خاص في معرضه الأخير في باريس في غاليري كلود ليمان، تحت عنوان "النساء والحرب".
هنا حوار معه:




* لم تنتسب لكلية الفنون الجميلة، بل لكلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق. وقلت مرة إنك قمت بتكوين متأخر جدًا في الرسم في باريس حيث تقيم منذ عام 2006. وكان معرضك الأوّل في صالة عشتار بدمشق عام 1996. هذا ما نقرأه في سيرتك الفنية، لكن بعيدًا من هذا التاريخ الرسمي، أريد أن أعرف عن اتجاهك للرسم قبل ذلك، أقصد في الطفولة أو في المراهقة.

 
 كل شخص يعبّر بطريقة ما، ثمة من يعبّر بالكلام ومن يعبّر بالأفعال، ثمة من يعبّر بالشعر، بالفن، إلخ. أظن أنني منذ كنت صغيرًا كانت طريقتي في التعبير هي الرسم. مفرداتي بدلاً من أن أكتبها، أرسمها. اكتشفت لاحقًا أن أي شيء أود قوله، كي ينتقل من اللاوعي إلى الوعي يجب أن يمر عندي بمرحلة هي الرسم. كما لو أن الشيء الذي يجيء من داخلي والشيء الذي أستطيع التفكير به، لا بد لي من رؤيته بعيني، لذا أرسمه، كي أستطيع التعبير عنه والاعتراف به. فإن كان شيئًا محزنًا لأقدر ان أحزن مثلاً. فأنا لا أستطيع أن أقوم بعمل ما من دون أن يمرّ قبل ذاك، بمرحلة الرسم.

* لكن ألا توجد لحظة أو حادثة في مرحلة الطفولة أو المراهقة، دفعتك إذن لاتخاذ الرسم أداة للتعبير؟

 نعم ثمة لحظة مهمة في حياتي، وكانت لحظة حاسمة ومفصلية، فبعدها صار كل شيء عندي، عن طريق الرسم. كنت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري، حين بدأت الحرب الأهلية في بيروت. وكنت في البيت مع أمي وجدتي نختبئ من القصف في الممشى. كنت خائفًا جدًا مصابًا بالهلع، لم ألبث أن اختفيت. خشيت أمي وجدتي أن أكون في إحدى الغرف المعرضة للقصف. بحثتا عني، ووجدتاني أرسم على صحن من الورق المقوى، وجهًا خائفًا مرعوبًا. استعملت وقتها أدوات زينة جدتي كما لو أنها ألوان؛ أحمر الشفاه، وأقلام الكحل، وعلب الظل والماسكارا. ويبدو أنني اخترت رسم وجه خائف لأقول كم كنتُ خائفًا. معنى ذلك أنني لا أعبّر إلا بالرسم.

* حين تذكر جدتك، لا بد من التوقف عند أثرها الكبير في نفسك. هي أيضًا كانت دافعًا قويًا للرسم، أظنك كرّست معرضًا بأكمله عنها.

 أرغب في أن أوضح، لم أدرك وقتها أنني أكرّس معرضًا كاملًا عنها، إذ لم أكن أعرف وقتها لماذا كنت أرسم، ولم أكن أدرك لماذا قررت أنني لا أريد سوى الرسم. لم أعرف أن السبب وفاة جدتي. لكنني منذ سنوات قليلة لجأت إلى محلل نفسي، فاكتشفنا معًا أشياء كثيرة لم تكن واضحة بالنسبة لي، فالإنسان لا يحاول دائمًا فهم ما يفعل. من الأشياء التي اكتشفتها مع المحلل، أن الأسى في قلبي وحزني على وفاة جدتي، لفرط ما كانا كبيرين وجهاني صوب الرسم. إذ لم أستطع التعبير عن الزعل أو الفقد إلا بهذه الطريقة. كنت أريدها، ولا أعرف أين هي. لم أعترف في ذهني إلا منذ سنوات قليلة برحيلها. وإذ رحلت منذ سنوات، فقد كنت أمضي الوقت بالبحث عنها، وهذا سبب رسمي المتكرر لها، كما لو أنني كنت أحاول "خلقها" بالرسم، لأنني كنت أفتش عنها ولا أجدها، أسأل أين هي؟ ولا أقول إنها ماتت فقد رفضت الفكرة. يحدث هذا الأمر مع كثير من الناس، وبصورة حادة مع الذين يفقدون أبناءهم، فلا يتقبلون الفكرة ويرفضونها. ترينهم يضعون صحون الطعام لأبنائهم، ويخاطبونهم كما لو أنهم ما زالوا على قيد الحياة، هكذا يمضي هؤلاء الأهل حياتهم، كما لو أنهم أصيبوا قليلًا بنوع من "الجنون". أنا لم أجن فهي جدتي، لكن رفضي للفكرة كان تامًا، كنت أرسمها وأنا أخاطبها، أقول لها جدتي حبيبتي اشتقت لك، تعالي وساعديني فأنا أرسمك.



* يبدو أن ما يجري في سورية أثر أيضًا، فثمة معرض لك في غاليري أيام (2012)  بعنوان "صمت" والآن هذا المعرض في باريس مع غاليري جديدة هي غاليري كلود ليمان تحت عنوان "النساء والحرب".  في "صمت" لم تعد اللوحات تتمحور حولك وحول عالمك الشخصي: العائلة والأصدقاء، وفي هذا المعرض أيضًا..

 أظن أن لكل إنسان قصته، ولديه حزنه الذي يخبئه أو مشكلته التي لا يفصح عنها، بل يصمت عنها، ويعيش عمره كله وهي موجودة ومخبأة داخله في مكان ما. حين جرى ما جرى في سورية، حزنت حزنًا أليمًا جدًا وقويًا. وهذا الحزن يحرك في الداخل الحزن الشخصي المخبأ. أكثر من شخص أصيب بانهيار عصبي، وكان السبب المباشر ما يجري في سورية، والسبب غير المباشر القصة الشخصية المخبأة.

* بمعنى ما، تقاطعَ الشخصي مع العام؟

 تمامًا، أو أن هذا العام حرك الشخصي، لأن الحزن العام كبير جدًا حين تحسين بلدك ترحل عنك، تروح منك، وهو ما يفتح داخلك رحيلا آخر، رحيلا شخصيا. حزني على بلدي، حرك في داخلي حزني على جدتي. صار الحزن كبيرًا جدًا إلى درجة لم أستطع  فيها تحمله واحتماله، تعبت جدًا، ووقتها لجأت إلى محلل نفسي، كي أفهم لمَ انهرتُ هذا الانهيار؟ وبعد جلسات قليلة اكتشفنا أن السبب المباشر هو بلدي سورية، وغير المباشر رحيل جدتي الذي لم أتقبله إلا مؤخرًا كما أخبرتك، والسبب غير المباشر أيضًا قبل ذلك طلاق أمي وأبي.

* بالعودة إلى معرض "صمت" يبدو أن الألوان "هربت" من اللوحات، فضلًا عن أن أسلوبك اختلف، صار أكثر مباشرة، وصارت الخطوط أكثر وضوحًا، أهو تغيير في "التقنية"؟


 لا، لم أغير تقنيتي منذ أن بدأت وإلى الآن. ما تغير هو طريقة الطرح والموضوع. حين أغير الموضوع تتغير الألوان، وحين تتغير الألوان، تتغير طريقة الاستخدام. "التقنية" واحدة عمومًا، منذ أول ما بدأت.

* لكن معارضك متنوعة، كل معرض مختلف ولا يشبه الآخر، وهذا تغيير في التقنية أو في أي شيء، سمه ما تشاء، فضلاً عن أن كل معرض يدور كله حول موضوع واحد محدد. فأنت لا تكرر نفسك، بل تقدم اقتراحات جديدة كل مرة، وهذا بالضبط ما أسألك عنه.

 صحيح، أطرح في كل معرض موضوعًا جديدًا وفكرة جديدة. أسميها سلسلة أو متتالية، لكل معرض ثيمة أو موضوع محدد. لكن السؤال لماذا أختارُ موضوعًا معينًا؟ وعلى أي أساس تكون الألوان أو لا تكون؟ اختياري لأي موضوع يأتي من هاجس يستبد بي. ففي كل فترة يتملكني هاجس ما، كان مرة الحرية، ومرة الضحك، وهكذا. الهاجس بدوره يرتبط بحالتي النفسية، يتبعها، ويتبع الشيء الذي أعيشه. تترابط الأمور على هذا النحو بالنسبة لي، فإن كنت حزينًا، لن تكون ألوان لوحتي برتقالية وصفراء مثلًا، الحزن ليس هكذا بالنسبة لي. سأشرح لك كيف يتبع اختيار اللون حالتي النفسية: ففي معرضي الآن "النساء والحرب" جربت اللون الأبيض في اللوحة الأولى، والرمادي في الثانية واللون الأسود في الثالثة، فوجدت أن اللوحة السوداء هي التي أقنعتني، ليس بصريًا بل أكثر من ذلك، إذ أحسست من داخلي أن العمل مكتمل عاطفيًا وبالتالي أخذت المجموعة كلها الاتجاه الأسود.




* من كلامك الآن يتضح أمر آخر: ثمة تخطيط عند اختيار الموضوع، وإلهام عند اختيار اللون..

الإلهام يأتيني قبل التخطيط للموضوع بشكل عام. حين أقرر الموضوع وأخطط له، يصير ما أسميه "الإلهام الثاني"، وهو إلهام مرتبط بالتفاصيل. في معرضي هذا، جاء الإلهام الأول من شعوري أنني غير سعيد، أنني حزين جدًا من أجل بلدي، رحت أفكر بأمي، وأتذكر كم أنني لا أحب الرحيل. هكذا أقرر الموضوع؛ أريد رسم نساء حزينات، نساء لهن علاقة بنساء بلدي، نساء تذكرنني بأول رحيل عشته، لأنني تنقلت في مدن عديدة؛ ولدت في مدينة (بيروت) ونشأت في مدينة (دمشق) ورحلت إلى مدينة (نيويورك) ورحلت ثانية إلى مدينة (باريس). كان كل انتقال أو رحيل، مرتبطًا بأمي، كانت ذات حضور طاغٍ، كما لو أنها قائد العائلة، أمي هي أبي. رأيتها المرأة القوية، العاطفية، الضعيفة العملية الحزينة السعيدة، لذا جاء المعرض على هذا النحو، كل النساء فيه بوجوه مختلفة، وحالات مختلفة، لكهن ينبعن في النهاية من امرأة واحدة، حتى لو كان شكلهن الخارجي مختلفًا.

* أريد أن أعرف كيف اهتديت إلى الزهور الإباحية في معرضك عام 2000 في المركز الثقافي بدمشق..


 نتج هذا المعرض عن أول قصة حبّ فاشلة أعيشها في حياتي. لقد رسمت الزهور مرتين: المرة الأولى في معرضي الأول عام 1996، والمرة الثانية في المعرض الذي ذكرتِه. وكان الرحيل في المرتين هو السبب. الرحيل الأول هو رحيل جدتي وإن لم أدرك ذلك وقتها، والرحيل الثاني رحيل الحب. في المرة الأولى كنت في السابعة والعشرين من عمري، وفي الثانية كنت في السابعة والثلاثين. خلال فترة العشر سنوات تلك، لم أعش الحب، لم تكن لدي قصة حب. وحين جاء الحب كان قويًا جدًا، دامت القصة لفترة قصيرة جدًا: ثلاثة أشهر، بيد أنها أمرضتني لعام كامل. في الحالتين، أصبت بما يشبه الانهيار الذي لم أستطع "معالجته" إلا بالرسم، ورسم الزهور تحديدًا. لم أعرف لمَ اخترت الزهور، لكنني أعرف الآن، لأنني أعزي نفسي وأواسيها. في معرض عام 2000 اتخذت الزهور إيحاءً إباحيًا، بسبب ارتباط الحب باللقاء الجسدي. ورسمتها أيضًا كما لو أنها أفراد في عائلة، لأن أساس حزني هو العائلة.

* أظن أن الإلهام الثاني يرتبط ربما بطريقة التنفيذ لديك؟

 طريقة التنفيذ، وفق رأيي، هي تراكم للخبرة. أي كلما كانت الخبرة أطول، وكلما حاولتِ تطوير معرفتك تطورتِ، ولا أقصد زمنيًا، إذ ثمة من يبقى 100 عام وهو يرسم بالطريقة نفسها، فلا يتطور لدقيقة زمنيًا، وثمة من يتطور خلال سنتين بما يعادل 10 سنوات.

* كيف يصير ذلك؟


 سأفصّل؛ التطوير الأول يصير في العقل وفي المعرفة، والتطوير الثاني يصير عن طريق البصر. فكلما شاهدتِ بشكل صحيح معرضًا وزرت متحفًا، أو عدت إلى المراجع الرئيسة، أقصد المرحلة الكلاسيكية، كلما استطعت الرؤية بشكل صحيح، وبالتالي تقدرين على تصحيح أخطائك بنفسك. ثم، كلما اشتغلتِ أكثر وجرّبت أكثر، وما كنتِ تخشين شيئًا، ازدادت طريقتك في معرفة أسرار اللوحة. من يخاف إذ وصل إلى شيء ويخاف أن يكسره ليكتشف شيئًا جديدًا يراوح مكانه. أنا من الذين لا يخافون، لأنني في النهاية أعتبر أن الأمر ليس أكثر من "قماشة"، فلو خربت سأرميها. ثم إن الجهد الذي صرفته فيها لن يذهب سدى فقد كسبته.


* الرسم تدريب وممارسة يومية؟

طبعًا أرسم بشكل يومي، مثل عازف البيانو الذي يتمرن يوميًا. إن لم أرسم، أذهب إلى معرض، وإن لم أذهب، أنزل إلى الشارع لأبصر بعيني، أشاهد الناس وحركتهم، أشاهد كل شيء، وإن لم أفعل أيًا من الأمور الثلاثة هذه، فإنني أقرأ.


* من أي نوع قراءاتك؟


 أقرأ في كل شيء؛ فن، علم، سياسة، اقتصاد، طب، سلاسل مصورة. لكنني أميل كثيرًا إلى السير والسير الذاتية للعظماء، فنا أحب الناجحين في حياتهم، بغض النظر عن "نوع" النجاح، أحب الذين استطاعوا التأثير على حياة الناس، وبالطبع أقرأ في الفن كثيرًا.





* مفردات العالم المعاصر حاضرة في لوحتك، وكان الأمر شديد الوضوح في معرض "لول" (2014)، حيث اللوحات تذكر بالإعلانات التجارية والصورة، وأمور أخرى وثيقة الصلة بالمجتمع الاستهلاكي.


"لول"، معرض خاص جدًا وأظنه سبّاقًا، أقصد سبق زمنه في الشرق الأوسط. حين عملته حدثت صعوبات في "تسويقه". أثار ضجة صحافية وإعلامية صحيح، بيد أن "تسويق" مضمونه كان صعبًا. الآن وبعد مضي عامين أو أكثر، أجد اهتمامًا به وطلبًا عليه. فالناس الآن في 2017 تريده. لكن خلال عامي 2014 و2015 استهجنوه، السبب أولًا، طريقة الطرح كانت مختلفة جدًا عن طريقة الطرح التقليدية. ثانيًا قال بعضهم إن هذه المواضيع لا تلمس "الشرق"، وإنها مواضيع "غربية". وهذا غير صحيح، فنحن نعيش اليوم في عالم تتقلص فيه المسافات والاختلافات، مثلًا بين الهند والصين وفرنسا وسورية ولبنان. عمومًا كلنا نستعمل الإنترنت والهواتف الجوالة، ولدينا مشاكل تتعلق بالمظهر الخارجي. فالموضوع في "لول" هو الاستهلاك وتأثير الاتصالات والتواصل على الشكل الخارجي. حيث يتوق الناس إلى نموذج معياري: نحيف وجميل وشاب. وهذه الأمور تلامس الشرق، فلدينا عمليات تجميل واهتمام بالمظهر أكثر من فرنسا. لاحقًا اكتشف الناس أن هذه الموضيع تلامسهم، لذا أقول إن الموضوع الذي تطرقت إليه في "لول" كان حساسًا جدًا، لكنه كان سبّاقًا، ثمة من يعمل اليوم على مواضيع مماثلة، أنا تركتها.


* في عالم اليوم أيضًا، لم تعد اللوحة وحدها وسيطًا تعبيريًا فنيًا، ثمة وسائط أخرى، مثل التجهيز والفيديو آرت والبيرفورمانس وما إلى ذلك. وهذه الوسائط لها جانب نقدي سياسي واجتماعي واضح، ضمن هذا المنظور أين اللوحة؟


سأكون صريحًا لكن قاسيًا قليلاً. مع احترامي للجميع، فإن الذي يعرف كيف يرسم ويعالج لوحة، لا يتجه إلى شيء آخر، أو وسيط مختلف. إذ إنك حين تعرفين التعبير عن فكرتك أكانت سياسية أم اجتماعية عن طريق الرسم، فإن اللوحة في رأيي هي الوسيط الأكثر نبلًا، وفي ظني أن من يتجه إلى وسيط آخر قد لا يكون ممتلكًا أدواته للتعبير عن طريق الرسم والتصوير.

* لكن كما تعلم، ثمة فنانون كثر يلجأون إلى تلك الوسائط، أضرب مثلًا: الإنكليزي داميان هيرست، الذي لا يرسم بل يضع "تصوراته وأفكاره" التي ينفذها معمل أو مشغل في الصين، وكذلك الأميركي جيف كونز.

لا أرى علاقة بين الأمرين، ولعلي أبدو متناقضًا. لكن منذ أزيد من عشر سنوات أدافع عن اللوحة بطريقتي. لست من أنصار "الهروب" من الرسم، لأنني أعتبره أمرًا ساميًا، وهو ما سيبقى. نجده في المتاحف والمعارض الفنية. حين ذهبت إلى آرت باريس، Art Paris، هذا العام، كانت تلك الوسائط أقل حضورًا، ولم تمثل أكثر من 10 بالمائة من الأعمال الفنية، خلافًا لما كان عليه الأمر منذ سنوات قليلة خلت، حيث كانت تمثل أكثر من ثمانين بالمائة، إذن عادت اللوحة وسيطرت مجددًا.

* لكن ألا تظن أن الأمر مرتبطٌ بالاقتناء، نادرًا ما يقتني الأفراد الأعمال الفنية التي تتخذ التجهيز أو الفيديو وسيطًا، المتاحف الكبرى هي المقتني الرئيس، ولعلها أصيبت بإشباع؟

إذن هذا يعني أنها كانت موضة. لا نستطيع أن ننكر أنها طرق للتعبير، سواء أمنت تجهيزًا أم بيرفورمانس، إلا أن اللوحة تعيش زمنيًا لمدة أطول، كما أن إمكانية نقل الإحساس عن طريق
الرسم أقوى، اللوحة عاطفة وانفعال.

 
* وسردٌ أيضًا، فوراء كل لوحة لديك قصة، أتذكر معرضك "أجيال" عام 2003 في صالة السيد بدمشق، وذاك الطابع "المديني" الواضح فيه؟

عملت على موضوع أجيال مرتين، مرة مؤخرًا وكان لوحة ضخمة جدًا موجودة اليوم في "متحف" في الدوحة. والمرة التي ذكرتِها. يتطرق "أجيال" إلى العائلة. عائلتي، قصتي الشخصية. قصتي هي البحث عن العائلة، كبرت وأنا أبحث عنها. عائلة مفككة، أب غير موجود، أم تؤدي دورين، وجدة أخذت دور الأم. لم يأخذ أحد منهم دوره الصحيح. لذا حاولت عن طريق الرسم أن أضع كل فرد من العائلة في مكانه، وأضع نفسي أيضًا ضمن هذه العائلة التي لم تكن موجودة بشكلها الطبيعي. المعرض هو إعادة ترتيب الأدوار ضمن الأجيال، حيث الجدة هي الجدة لا الأم، وأمي هي أمي وليست أبي، وأبي هو هو، وليس ضيفًا. هذا هو السرد وقد أخذ حيزًا كبيرًا من تفكيري لسنوات طوال.





* نجد السرد أيضًا في واحدة من لوحات معرضك هذا، ويمكن عدّها تنويعًا على لوحة "ثم ماذا؟" الشهيرة للفنان السوري لؤي كيالي..

 كما تعلمين رسم لؤي كيالي لوحته الشهيرة هذه، عندما هُجّر الفلسطينيون من وطنهم. نساء باكيات متضرعات يتوسطهن طفل صغير. وسمّاها "ثم ماذا؟"، أي ما الذي سيحدث أكثر مما حدث؟ ماذا بعد هذه المرحلة؟ حين شاهدت لوحته، أحسسته كما لو أنه يسأل أيضًا، أثمة أسوأ من هذا؟ ماذا سيكون مصيرهن بعد ذلك؟ سكنت اللوحة في بالي، أجدها من أهم أعمال كيالي، ليس لأنها أكبر لوحاته حجمًا، بل لأنني أحس فيها كما لو أن لؤي كيالي "كسر" لؤي كيالي. إذ لم يهتم كثيرًا إن كانت اليد مرسومة بطريقة "صحيحة"، بل اهتم كثيرًا بسكب إحساسه في اللوحة. لوحة عظيمة. أحب لؤي كيالي جدًا، بالنسبة لي هو إحساس صافٍ فحسب. سكنت اللوحة في بالي، وحين رحت أشاهد صور تهجير أبناء بلدي، خاصة صورة الطفل الصغير الملقى على شاطئ تركي، قلت لنفسي: ماذا يمكن أن يحدث أكثر من هذا؟ إلى أين وصلنا؟ ثم ماذا؟ طبعًا تذكرت لوحة كيالي تلك، إذ يصير معنا الشيء نفسه الذي صار مع الفلسطينيين، فمثلما تشرد الفلسطينيون يتشرد السوريون.

لكن لوحتي مختلفة من ناحية التأليف والتكوين، فقد وضعت فيها عناصر مختلفة بما أن المعطيات تغيرت والبلد مختلف والظروف مختلفة. اقتبست كثيرًا من صور تناقلها الإعلام بكثرة، مثلًا الصورة الشهيرة للناس المحاصرين في مخيم اليرموك، وصورة الطفل عيلان وصورة لنساء مهجرات وأخرى لأطفال مشردين، وثمة أسواق حلب أيضًا. من هذه الصور ألفت اللوحة أو ركبتها بمنظور مختلف عن لوحة كيالي.

* صحيح فليس فيها ذاك الانتظام الصارم، بل ثمة "بعثرة وتشريد" للعناصر. لكنها صغيرة خلافًا للوحة كيالي.

 اللوحة التي رأيتها في المعرض صغيرة فهي "نسخة مصغرة" عن لوحة كبيرة موجودة في مرسمي. منذ عام 2011، وأنا أرسم لوحات كبيرة عن سورية، لوحات كبيرة جدًا، ولا أعلم كم سيكون عددها، أسرد من خلالها الحرب التي أتمنى أن تنتهي غدًا.

* أتذكر في الصيف حين كنت تحضّر لمعرضك هذا، وأريتني بعض اللوحات، أنك قلت شيئًا لافتًا عن البورتريه. قلت إنك عند كل بورتريه تحاول استعادة لوحة للؤي كيالي مطبوعة في ذاكرتك طفلًا، وإنك لا تتوق لشيء قدر توقك لاستعادتها بالرسم.

نعم، كانت اللوحة في بيت جدتي. أتذكرها بدقة كما لو أنني أراها: بورتريه لامرأة بيضاء، ومن خلفها ستائر بيضاء أيضًا عليها زهور زرقاء. المرأة مغمضة العينين، شعرها قصير بثنيات على الحافة à la chatte، رقبتها مائلة قليلًا. لها كتفٌ مرتفعة وأخرى منخفضة جدًا، كما لو أن ذراعها مقطوعة. تشبه تمثال فينوس الشهير. امرأة جميلة جدًا، كما لو أنها ليست من البشر، كأنها أسمى من البشر. اللوحة كلها بيضاء زرقاء، ألوانها كألوان الثلج باردة. لا تبارحني لوحة جدتي تلك. اضطرت إلى بيعها لاحقًا.

* أكانت جدتك من هواة جمع الفن أيضًا؟

جدي وجدتي كانا من جامعي الأعمال الفنية. وكانت لديهما لوحات أهم وأغلى ربما من لوحة كيالي تلك. لكنها سحرتني، كنت أذهب يوميًا إلى بيت جدتي، أجلس مقابل اللوحة وأرسمها.


* كم كان عمرك؟

ست أو سبع سنوات. أنا أعرف عن كيالي ما يعرفه الناس، أعني نشأته وحياته وطريقة موته المأساوية، بيد أني أعرفه كفنان ذي إحساس استثنائي. إن احدًا لا يمتلك إحساس كيالي، مرهف جدًا، طريقة تعبير شفافة، جميلة، صادقة.

* أريد أن أسألك عن فنان سوري، عن فاتح المدرس.

أحترمه جدًا وكلما رسمتُ اكتشفت أهميته. فاتح ساحر فاتن. لديه طريقة سحرية. أحدًا لا يعرف كيف فعل ذلك، أسلوبه لا يشبه إلا فاتحًا. هو تمامًا مثل صوت فيروز. كل من جرب أن يغني أغانيها انتهى إلى تقليدها، أحدًا لا يغني مثلها، وفاتح أحدًا لا يقدر على تقليده. هذا نوع من العطاء الإلهي الخاص.



* لا يمكن التفكير بالفن في القرن العشرين من دون بابلو بيكاسو الذي لم يكن فنانًا فحسب، بل أكثر.

 
 أكيد لو كان رسامًا فحسب لما كان بيكاسو، أهمية عظماء مثله ومثل  ليوناردو دافنشي وماغريت، تجيء من أنهم لم يرسموا فقط، بل فكروا وكتبوا، وضعوا كل إحساسهم وفكرهم واكتشافاتهم عن طريق الرسم. الرسم كان جزءًا منهم وليس كل شيء. بيكاسو كان مفكًرا. أحبه لأنه لم يترك شيئًا إلا عمله وجرب به، حين نتطرق إلى الفن. كان في العاشرة حين رسم الكلاسيك، وفي 12 حين "كسر" الكلاسيك، وحوالي العشرين حين بدأت عنده المرحلة الزرقاء ومن ثم المرحلة الوردية، بعد ذلك التكعيبية وصولًا إلى ولعه بالأقنعة الأفريقية حيث حاز شهرة كبيرة جدًا. لم يخش أحدًا، قال أريد رسم كل اللوحات الكلاسيكية لأهم الفنانين، لكن على طريقتي، وفعل. أريد رسم وجوه لشخصيات عالمية لكن على طريقتي، وفعل. قرر الاقتصار على الأبيض والأسود، وفعل ونجح، رسم الحرب في غيرنيكا والغانيات في "آنسات أفينيون". لم يترك شيئًا إلا وعمله. موجود في الكلاسيكية والتكعيبية والدادائية، والمودرن والمعاصرة والحداثة. يقول صراحة إنه يتأثر، لكنه لا يفعل إلا على طريقته. كلما غصت أنا أو غيري، وأردنا عمل شيء "جديد" أو تجريب شيء، نجد بيكاسو سبقنا إليه. لذا أنا مبهور به. بيد أن الأهم في رأيي قدرته الاستثنائية على التركيز المتواصل. كان يعمل يوميًا لثماني أو تسع ساعات بشكل متواصل من دون انقطاع لعقود طويلة، عبقري. أقول إن العبقري هو القادر على العمل بتركيز متواصل لمدة طويلة، ثم إنه كان ملهَمًا يوميًا. يعمل كل يوم بالشغف نفسه، بالحب نفسه، لسنين متواصلة. أتمنى لو لدي القدرة على العمل بهذا التركيز وبصورة متواصلة مثله. ثم إنه يبهرني لتعدد "الأشكال" الفنية، ثمة اللوح والنحت والليتوغراف والخزف والمعدن والـReady Made. لكأنه عاش ألف عام. وحياته الشخصية كانت غنية كذلك، كثيفة وصاخبة، فقد كان أبيقوريًا محبًا للنساء. بيكاسو ساعات تركيز هائلة، مع قدرة هائلة وحب عظيم للفن.

* وباريس التي تقيم فيها منذ عشر سنوات مدينة الفن..

مدينة ساحرة وغنية وعظيمة وعجيبة. أجد فيها كل ما يغني داخلي، من مسرح وسينما وفن، ومتاحف. مدينة المتاحف. لكل شيء متحف، حتى الدمى. أعشق المتاحف، أكرر زيارتها باستمرار، في المرة الأولى آخذ فكرة، في الثانية، أهتم بقسم، بعد ذاك أتامل لوحة، ثم تفصيلًا في لوحة. حين وصلت إلى هنا عام 2006، حصلت على بطاقة للفنانين، كانت تخولني دخول المتاحف، الوطنية خصوصًا، بالمجان. وأشهر المتاحف طبعًا متحف اللوفر. لعامين كاملين وأنا أزوره يوميًا. وإلى اليوم لا أعد نفسي أعرفه مثلما ينبغي. هذا مثال واحد، فماذا عن باقي المتاحف هنا؟ من هذا المنظور أقول إنني في الجنة.

 * وماذا عن مدينة نيويورك التي عشت فيها لسنتين تقريبًا؟

 للأسف لم تكن نيويورك تجربة مهمة على الصعيد الفني بالنسبة لي. إذ إنني "هربت" إليها كي لا أرى جدتي تحتضر، فلم أكن بحالة نفسية تسمح لي بالاكتشاف. لكنني فيها اكتشفت نفسي. أميركا تعلّمك أمرًا مهمًا: كن أنت نفسك. قررت أن أكون رسامًا.

* أريد الكلام ثانية عن معرضك الحالي "النساء والحرب"، ثمة 10 لوحات تمثلن نساء سوريات. ولوحات أخرى موضوعها "البقجة". أنت فنان تشخيصي Fuguratif. البقجة بدت لي تنوس بين التشخيص والتجريد. فطريقة رسمها توحي بالتجريد، بيد أنها مرتبطة بالأشخاص..

 لماذا اخترتُ البقجة؟ فلتعد إلى "ثم ماذا؟" والهجرة والرحيل. كل إنسان قال في نفسه مرة واحدة على الأقل، أريد تغيير حياتي والبدء من جديد. من هنا فكرة التغيير والذهاب والرحيل، فكرة أبدية وقديمة. لكن ماذا لو غدت الفكرة أمرًا حقيقيًا؟ وأن يكون المرء مجبرًا على الرحيل، لا خيار لديه. عندها يفكر المرء بأخذ أقل ما يمكن من الأغراض مع أقصى ما يمكن من الذكريات والأشياء الخاصة. لكل إنسان عالمه، وحين يكون عليه أن يرحل، سيأخذ معه عالمه، بقجته. حاولت تجسيد الرحيل السوري كله والهجرة السورية كلها عبر البقجة. وصحيح كلامك عن التجريد الناتج عن التشخيص. لم أحاول فتح البقجة، تركتها مغلقة، ليكون الخيال حرًا ولأحتفظ بالسحر. لكن بما أنني أميل إلى التشخيص، ربما سأفتحها، لأنتقل من التجريد إلى التشخيص مجددًا. أحاول الوصول إلى مرحلة لا يكون فيها فصل كبير بين الأمرين. اخترت هذا الموتيف بالذات للبقجة، لأنه كما تعلمين يمثل قماشًا سوريًا، تحديدًا حمويًا. نسميه "مطبّع حماة". غالبًا ما يكون أبيض، من غير نصاعة، وعليه تطبع أشكال بسيطة بالحبر الأسود من خلال قوالب خشبية مخصوصة. القماش معروف أنه سوري، حاضر جدًا في ذاكرتي وذاكرة السوريين، واسع الانتشار، ثمة من يستعمله مفرشًا للطاولة أو ستائر. وبما أن هذا القماش لا يصنع إلا في حماة، فهو يرمز لسورية تاليًا، وثالثا يعرفه كل السوريين، ورابعًا أريد لمن لا يعرفه أن يتعرف إليه، فما أن يراه حتى يفكّر بسورية، تمامًا مثل كوفية الفلسطينيين، كل من يراها يفكّر بفلسطين.

* عشر لوحات تمثلن عشر نساء سوريات، لوحة واحدة بيضاء والتسع الباقية سوداء.

 ثمة لوحة لم تُعرض لسبب سيوغرافي فحسب، لوحة رمادية تمثل مدينة حلب. بدأت باللوحة البيضاء، لوحة تمثل الشام، ثم الرمادية ثم صارت السوداء وانسحب اللون الأسود على باقي المجموعة. الأخيرة تلك التي تمثل امرأة هي هيكل عظمي، لكنها تتنفس برئة وحيدة باقية، صمود ضد الموت، لأن الإنسان رغم كل شيء يتمسك بالحياة. الانتقال من الأبيض إلى الرمادي إلى الأسود كان عفويًا، إذ كلما غصت في الموضوع، كلما دخلت في سوداويته أكثر. لعلي لم أكن في البداية منتبها، لعلي كنت أهرب منه، بيد أنه الحزن طفا عن طريق اللون، فحين رحت أتقمص حالات حزن النساء وانفعالات الوجوه المختلفة لامرأة واحدة، اختفى الأبيض وحل الأسود مكانه. وأسماء النساء، أسماء مدن سورية. كنت أعمل وأنا أستمع إلى المذياع ينقل أخبارًا رهيبة عن تدمر وحلب إلخ.


* وربط المدينة بالمرأة استعارة شعرية

أظنني لم أتقصد ذلك. كنت حزينًا جدًا وأنا أعمل، كنت أعرف أن عليّ ألا أستسلم للحزن. أعرف لو استسلمت له، لما قدرت حتى على النهوض من سريري. الإنسان يحمي نفسه، نوع من الحماية، غصت في الحزن إلى أن وصلت إلى الهيكل العظمي.


* في هذا الحوار، كان لفظ الرحيل، أكثر الألفاظ ورودًا على لسانك، ما الرحيل؟

إنه اللفظ الذي أشتغل عليه منذ خمس سنوات مع المحلل النفسي. هي كلمة كبيرة جدًا، صعبة جدًا، فيها الموت، والبداية والنهاية وقلب الصفحة والتغيير في كل شيء.

 لوحات خالد تكريتي تقدمة غاليري كلود ليمان - باريس

مقالات اخرى للكاتب

هنا/الآن
27 أكتوبر 2017
آراء
27 أكتوبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.