}

موليم العروسي: ما بعد الحداثة طريقة تفكير تلائمنا اليوم

أشرف الحساني 26 أكتوبر 2018
حوارات موليم العروسي: ما بعد الحداثة طريقة تفكير تلائمنا اليوم
موليم العروسي، رسم أنس عوض، العربي الجديد

عرفت الساحة الثقافية المغربية اسم الباحث الجمالي المغربي موليم العروسي كقوة نقدية وبحثية في المجال الثقافي والفني منذ أواسط سبعينيات القرن المنصرم داخل الملاحق الثقافية المغربية اليسارية منها، نظرا إلى الرهان التنويري والدور التثقيفي الطلائعي، الذي لعبته هذه الملاحق إبان فترة شهدت فورانا وغليانا سياسيا واجتماعيا وثقافيا. والحقيقة أن هذه المرحلة الجريحة من تاريخ الثقافة المغربية المعاصرة، رغم الفقر المدقع الذي كانت تنضح به جرائدها ومجلاتها خصوصا اليسارية التقدمية منها، تطرح مواضيع ساخنة للنقاش والمساءلة والتأمل والنقد البناء. وقد ساهم ذلك في بروز مشاريع ثقافية (بمفهومها الأنثروبولوجي) نمت وكبرت أفكارها في حضن هذه الملاحق الدسمة معرفيا، ويكفي أن نعود مثلا إلى أرشيف جريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية، لنرى ذلك الحجم الكبير والهائل من المواضيع التشكيلية والنصوص الكاليغرافية الشعرية لعبد الله راجع وأحمد بلبداوي على صفحات مجلة الثقافة الجديدة التي كان يديرها الشاعر محمد بنيس، والتي تشكل في نظري وثيقة تاريخية شاهدة على جيل أدبي وفني مصاب بحمى الجمال والتغيير.

في هذا الجو الثقافي بزغ اسم موليم العروسي، كأحد الأقلام المتميزة المسكونة بالتشكيل وبالتصوف والثقافة الشعبية والعمارة وغيرها من الموضوعات ذات الطابع الفني والجمالي المرتبط بالفن الإسلامي، ثم بالكتابة الروائية التي تمخضت عنها: ملائكة السراب، مدارج الليلة الموعودة، فضلا عن تحضير رسالة الدكتوراه في فرنسا بالسوربون حول الحب والجمال في مفهومه الكوني، والتي ترتبت عليها جملة من الكتب ذات البعدين الفني والفلسفي، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الفضاء والجسد، الفن التشكيلي في المملكة المغربية، استيطيقا وفن إسلامي.

بالرغم من عدم مشاطرتي لمفهوم "ما بعد الحداثة" عند موليم العروسي، يظل هذا الرجل الذي أكن له الكثير من الاحترام في طليعة الباحثين العرب الذين قدموا الشيء الكثير للدرس الفني والجمالي العربي رفقة كل من عفيف بهنسي وشربل داغر وفريد الزاهي وطلال معلا وشاكر لعيبي وغيرهم مع اختلاف المشارب الكتابية، التي تبدأ من التاريخ وتنتهي بالفلسفة والأنثروبولوجيا مع غياب كلي وسحيق لعلم الاجتماع الفني داخل كتاباتهم. ومن أتيحت له الفرصة لقراءة العروسي سيكتشف عن كثب مميزات الكتابة الفنية لديه، والتي تتجلى في قدرته على استنطاق اللوحة وتفجير مكنوناتها الفلسفية والجمالية وقدرته المتفردة على الخوض في عتبة التأويل، انطلاقا من ممارسة فكرية تقترب في طرائق تشكلها إلى "نقد فكري"، لكن دون أن تنتمي إلى جوهر الممارسة الفكرية، كما شهدناها عند ميشيل فوكو ودولوز في قراءتهما الفلسفية، التي جعلت من الفن قاطرة منهجية لمقاربة مفاهيم فلسفية كبرى. ولا يتعلق الأمر فقط بموليم العروسي، بل إن كل الذين يكتبون في الفن العربي اليوم لم يقيموا هذا العبور من النقد إلى الفكر باستثناء بعض النصوص المعدودة جدا والمتناثرة داخل الكتب لكل من العروسي والزاهي وشربل داغر والخطيبي وأيضا بعض أعمال عفيف البهنسي في بعدها التاريخي الصرف.

هنا حوار معه:

ضرورة العلاقة الجسدية

والحميمية مع العمل الفني أولًا

(*) الدكتور موليم العروسي، تُعرف في الأوساط الثقافية المغربية بكونك واحدا من الباحثين المنشغلين بالدرس الجمالي العربي، عبر موضوعات ثرية وغنية تخص الحقلين الفني والأدبي، انطلاقا من خلفية فلسفية رصينة تقوم على ابتداع المفاهيم وليس اجترارها. كيف يستطيع الباحث الجمالي العربي اليوم أن يتحرر من سلطة النقل لمفاهيم غربية وأن يفتح لنفسه آفاقا مفاهيمية متجذرة في التربة العربية؟

- نحت المفاهيم ينطلق أساسا من العمل الفني. لا أتفق كثيرا مع التوجه الذي يتخذ من العمل الفني ذريعة للتيقن والتحقق من النظريات الفلسفية فقط. كما لا أتفق مع الفكرة القائلة إن هناك فكرا غربيا وفكرا آخر غير غربي. فالتجارب الإنسانية أنتجت كثيرا من الأفكار وأدوات التفكير والروحانيات، وتبادلتها كما تتبادل السلع المادية. لكن الإنسان المقهور غالبا ما يتشبث بمقومات شخصيته حتى ولو كانت متجاوزة وغير ذات جدوى لأنه يهاب الانمحاء في القوي. من بمقدوره أن ينكر أن الديانات قد انتقلت من شعوب إلى أخرى وتطورت بطريقتها الخاصة بل وفقدت كل علاقة مع مهدها الذي فيه ولدت. لا أتكلم فقط عن الديانات الكتابية التوحيدية بل أتحدث عن الديانات الوثنية أيضا، فموطن ولادة عبادة الخمر والجعة أي الديونيزية (Dionysos) هو بلاد نوميديا أي أفريقيا الشمالية أو ما يسمى اليوم بتمازغا. لكن الذي يطلع عليها أو يفكر فيها يعتقد أن أصلها إغريقي. حول بحيرة الأبيض المتوسط كانت الأفكار تنتقل مع البحارة وقوافل الصحراء، لذا يصعب الآن أن تفرق داخل الطقس الديونيزي بين ما أُخذ من نوميديا وبين ما جاء به آخرون من جزيرة العرب وما بين النهرين.

وكذلك الفكر الفلسفي، فهو ينتقل من مكان إلى مكان تماما كالخرافة، ويحافظ على بنيته الأساسية بل ويؤثر أيضا في اللغات التي تحتضنه. لذا فالمفكر الذي يتعاطى مع العمل الفني بقوم بذلك بما تملكه من العالم وما استطاع أن يترسب في ذاته من حياته داخل ثقافته بالمعنى الأنثربولوجي. إذا استطاع الشخص أن يتخلص أو على الأقل أن يضع مسافة بينه وبين ما تعلمه فإنه سوف ينصت إلى العمل الفني ولن يخضع للنظريات التي قد تلح عليه لتمنحه سهولة الفهم. لذا كنت ولا زلت ألح على ضرورة العلاقة الجسدية والحميمية مع العمل الفني أولا قبل البدء في التحليل. بالطبع هذه طريقة لا يحبها دكاترة الجامعات الذين يتعاملون مع النص الفني (كتابة أو تشكيلا أو موسيقى) بعجرفة تشريحية تجعلهم لا ينفذون أبدا إلى عمقه.

 (*) هل في نظرك استطاعت الرواية العربية أن تتحرر شيئا فشيئا من رومانسيتها الفجة، لتقترب أكثر من جسد الواقع وما شهده من تغيرات سياسية واجتماعية بعد موجة الربيع العربي (أو الربيع الديمقراطي حسب بعض الأدبيات الصحافية) حيث أصبح الواقع أكثر التحاما بالإنسان وليس منفصلا عنه حسب بعض الأعمال الأدبية الكلاسيكية؟

- يجب أن تعرف أن مشكلة الأدب العربي كانت دائما هي الواقع، وأن النقد عند العرب كان ولا يزال إلى حدود اليوم يقرأ الأدب بارتباط مع الواقع ويبحث في ثنايا النص عن الواقع. إن النقد الأدبي الذي كان يأتينا من مصر والشام والعراق كان شغوفا بالواقع، بل وكان يدفع الكتاب إلى الكتابة عن الواقع. كان هذا قبل أن تنتعش البنيوية انطلاقا من المغرب في بداية الثمانينيات.

لكن ملاحظتك صحيحة، بحيث أن الواقع الذي كان يتجلى داخل الرواية العربية كان واقعا إيديولوجيا، لذا كان يغلفه الوهم أكثر من الخيال، لأن بلزاك عندما كان يكتب الرواية كان يتحدث عن واقع معاش لم يكن يصنعه على طريقته أو كما كان يتمناه. عندما صدرت روايتي "مدارج الليلة الموعودة" في بداية التسعينيات وجدت هناك من النقاد المشرقيين الذين عابوا عليّ انهزامية بطل الرواية أمام الحب، ولم يفهموا عمق السؤال الفلسفي الذي كان يؤسس النص ككل.

لكن العودة إلى الواقع اليوم قد تعتريها بعض المشاكل على مستوى التصور. فهَبَّة الشباب في بلاد المشرق والمغرب الكبير لم تُفهم في بعدها العميق. لأنه حيث يتعلق الأمر بانتفاضة ضد الأبوية والبطريركية ظن الكتاب أن الأمر يتعلق بمشكل سياسي ظرفي. والسبب في ذلك يعود إلى أن من يكتبون اليوم، سواء تعلق الأمر بالرواية أو المقالة التحليلية، لم يرتبطوا بالحراك بالشكل الكافي، كانوا يسمعون الشعارات ويحللونها ولم يكونوا داخل أروقة تنظيم المظاهرات. من كان في الداخل فَهِمَ أن الأمر يتعلق بإعادة النظر في السلطات جميعها، الدينية، السياسية، العائلية. لكن الحراك أجهض ربما لأنه لم يكن ناضجا بما فيه الكفاية لذا أعتقد أنه سوف يعود. الذين يكتبون في غالبيتهم لا يفهمون أن الشباب سئم من أولئك الذين يتحدثون باسمه ومنهم عدد كبير من الكتاب.

لا فرق عندي بين

أصناف الكتابة

(*) في نفس الطرح، إلى أي حد يمكن اعتبار الكتابة الأدبية امتدادا فلسفيا للمشروع النظري الذي يجترحه الباحث أو المفكر؟

- هي كذلك، ولا فرق عندي بين أصناف الكتابة، الروائي والشاعر والفيلسوف والمؤرخ والفنان التشكيلي والموسيقي والسينمائي... كلهم يفكرون. ولهذا السؤال ارتباط بسؤالك الأول. عملية سجن أصناف التعبير في خانات معزولة عن بعضها ووضعها في بعض الحالات في وضعية التناقض لا تستقيم. هل يمكننا اعتبار محاورات أفلاطون نصوصا فلسفية جافة أم أنها نصوص أدبية وميثولوجية... وسياسية؟  وحتى تأملات ديكارت، ونصوص نيتشه، وهايدغر...؟

الأمر عندي يتعلق بنفس المشروع، ولعلك تنتبه إلى حضور الكتابة سواء في ما يسميه النشر رواية أو ما يسميه فلسفة. في هذا الصدد، عمد الشاعر الرقيق والصديق العزيز إدريس الملياني إلى تقطيع مقطع من أحد نصوصي حول النور في الفن صادر ضمن كتابي "الفضاء والجسد" تقطيعا شعريا ونشره في أحد دواوينه. والصراحة أنني لما كتبت هذا النص أو غيره لم أفكر في عمق أعماقي في الفرق الممكن بين الكتابة الأدبية والكتابة الفلسفية.

(*) تكتب الرواية.. ثم تمارس في لحظة ما شغبك المعقلن وأنت تفجر وتشرح جسد العمل الفني، ليس من منطلق التعريف به ولكن من أجل التفكير في جوهره وكيانه وطرائق تشكله لنجد أنفسنا بكتابة مخاتلة تتأرجح بين النقد والفكر أو فيما سميته في كتابي "الحساسية الجمالية" بالخطاب المركب، الذي هو أشبه بنهر تصب فيه جميع المعارف، خطاب مراوغ يربك القارئ ويجعله يتساءل دوما عن طبيعة النص (سوسيولوجي، أنثروبولوجي، تاريخي..). الأستاذ موليم العروسي، هل أنت راض اليوم عن الكتابات "النقدية" التي تقوم بالتعريف بالمنتوج التشكيلي المغربي؟

- يجب أن نعرف أن أنواع الكتابة عن الفن التشكيلي بالمغرب متعددة بتعدد القراء ومتلقي هذا الفن. في ما مضى من الزمن كان الذين يكتبون عن الفن التشكيلي ينتمون إلى حقل الصحافة أو الأدب وقليل من النقاد الذين يعترف لهم المجتمع بهذه الصفة. في مقابل ذلك كانت الساحة الفنية المغربية محددة المعالم. كانت هناك قاعتان يعترف لهما هواة الفن ومحترفوه بالجدية، قاعة الأتيلييه بالرباط وقاعة نظر بالدار البيضاء، ولم يكن صعبا على الذي أراد معرفة ما يجري فنيا في المغرب أن يحصل على ما يريد. كذلك كان النقد. كان مرتبطا بهاته المجموعات التي تدور حول هاتين القاعتين. كان هناك ما يشبه التنظيم المنضبط. أتذكر أنه في عام 1981 عندما أصدرت أول نص نقدي بالعربية حول تجربة أحد الفنانين أحسست بتوجس صاحبتي القاعتين، سيما وأنني كنت باحثا جامعيا، بمعنى أنني مطالب بقول الحقيقة وهذا يعني أنه لا تمكن مساومتي أو التفاوض معي حول التنازل عن أفكاري.

وفعلا حدث ما كانتا تتوجسان منه خيفة؛ في عام 1985 خلال ندوة حول الفن التشكيلي المغربي بمدينة كرونوبل الفرنسية كنت استدعيت كصوت جديد، شاب، في ميدان النقد ولم يكن أحد يعرف ما سوف أقوله. بعد محاضرتي أحاط بي جيش من الغاضبين ومثله من الساخطين وعدد كبير من الفضوليين. أتذكر حينها نصيحة أحد الأساتذة الفرنسيين الذين دعاني للعشاء بعد ما لاحظه من هجوم علي؛ قال لي بالحرف "تريد أن تتحدث عن الفن، وتريد أن تستمر، أكتب دون أن تذكر الأسماء، الأمر يتعلق بسوق وبالمال وقد يتجاوزك بل وقد يسيء إليك...".

منذ ذلك الحين قررت أن أتحدث عما يعجبني وما يهمني وأن أنسى ما لا يهمني. الذي لا يهمني قد يكون هو المشكل وهو الذي يدفع لكي يكتب عنه الناس وهذا هو ما تسميه عدم رضاك أو رضاي عما يكتب عن الفن التشكيلي.

(*) كنت دوما مثار نقد من لدن بعض الأصدقاء عن نقدي للموجة الشبابية التي تقود التشكيل المغربي اليوم، التي اعتبرت بعض تجاربها قاصرة على أن تمثل جوهر الثقافة المغربية المعاصرة بتحولاتها العميقة وما تتميز به من ثورات فنية، خاصة التجارب التي ظلت أسيرة اللوحة المسندية، والتي لم تفتح لنفسها آفاقا فنية وتخييلية من خلال معانقتها لمفهوم الفضاء العمومي كما تبلور عند هابرماس، ثم لكونها تجارب لم تغذ وعيي الفني، لأنها لا ترقى إلى الدرجة التي تجعلني أقارب مفهوما فلسفيا كالألم أو الجسد أو القبح، كما هو الشأن في تجربة محمد القاسمي أو عباس الصلادي مثلا. ما موقفك من هذا الطرح؟

- أنصحك إذًا كما نصحني أستاذي الفرنسي أن تتجه إلى الأسماء التي تفيدك وتجيب على أسئلتك وأترك عنك الآخرين لأن هناك سوقا لا زالت تطلب هذا النوع من الفن ومن النقد.

يصعب تقويم عمل الشباب اليوم،

يجب أن ننتظر قليلا

(*) كيف يرى ويقيم موليم العروسي إرث التشكيليين المغاربة مقارنة مع الموجة الجديدة التي تكتسح مخيالنا تارة بالفجيعة وتارة بالفرح، والسفر في تخوم عوالمهما ومجاهلهما؟

- الموجة الجديدة؟ هذا مفهوم لم أسمع به من قبل في ميدان الفن التشكيلي المغربي. أعتقد أنك تقصد ما يسمى بالفن المعاصر. أنت تعرف أنني مارست التدريس وكنت بمعية صديقي ورفيقي الفنان عبد الكبير ربيع مسؤولا عن الهندسة البيداغوجية لمدرسة الفنون الجميلة بمدينة الدار البيضاء. جئنا إلى هذه المدرسة في عام 1989، كان عامًا مفصليًا على جميع المستويات. عندما تسلمنا أمورها وجدنا أن التعليم فيها قديم جدا، أي أن الطلبة كانوا يتدربون على الحرف الفنية: الصباغة، الطين، النسيج، الرسم الواقعي... ولم يكن لديهم أي اطلاع على ما يجري في العالم. كانت كل أوروبا قد غيرت معالم تعليمها الفني وجدار برلين كان سيسقط في نفس العام لكن مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء كانت بعيدة عن كل هذه الضوضاء. غيرنا التعليم بهذه المدرسة كليا. الشباب الذين تسميهم اليوم الموجة الجديدة انطلقوا من هذه النقطة، على اعتبار أن المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان سوف يتحول أيضا لكن ثلاثة أو أربعة أعوام بعد ذلك.

كنا حريصين على أن يتشبع الطلبة بالتقليد الفني وخصوصا الإرث المغربي. كنا ننظم حلقات يلتقي فيها الفنانون المكرسون بالطلبة ويتبادلون الرأي ويستفيدون من تجارب من سبقوهم. لكن هناك المدرسة وهناك المحيط، ومحيط الصورة سوف يتحول رأسا على عقب في بداية التسعينيات. سوف تفتح باب السماء على الصور بفضل الفضائيات ثم الإنترنت بعد ذلك وسوف يصبح التعليم مُكمّلا فقط وليس مؤسسا. شبابنا اليوم ينخرط في ما هو عالمي ويصعب علينا تقويم عمله اليوم، يجب أن ننتظر قليلا، لأنه إذا كان البعض يعتبر أن ما يقدم اليوم ضعيفا أو غير ذي جدوى فهذه البداية فقط، يجب أن نضع القدم في المد العالمي أولا. وعلى الرغم من ذلك هناك أسماء درست هنا بالمدرسة المغربية ولها حضور عالمي متميز.

(*) شخصيا اعتبرت دوما كتابات موليم العروسي وفريد الزاهي نموذجا للكتابة الفنية، التي تحاول أن تتحرر من التنميطات الأدبية والصحافية، التي تلجم أفق التشكيل المغربي عبر معانقة فضاء أرحب وهو الفكر، لكن مع ذلك يظل هاجس الفكر ضربا من العشق المؤجل في غياب معاهد وجامعات وأسواق فنية ومؤسسات خاصة ومراكز ترعى الفكر الفني وتعرف بالتجارب التشكيلية من خلال ندوات ولقاءات ومعارض. ما هو في نظرك الدور الذي يمكن أن تلعبه الدولة ومؤسساتها للرقي بالفن التشكيلي والفكر الفني عموما؟

- يجب أن تقتنع الدولة أن للفن دورًا في بناء إنسان المستقبل. كل ما يمكن للدولة أن تفعله هو أن تضع قوانين مشجعة للقطاع الخاص حتى يمكنه أن يستثمر في الفن، ثم تعمد هي إلى التكوين لأن هناك ضعفًا كبير في هذا الميدان وخصوصًا على المستوى الجامعي.

(*) قمت شخصيا بالإشراف على معرض معهد العالم العربي في باريس وفيه نسبة كبيرة من الفنانين الشباب مقارنة مع بعض التجارب الأخرى الغائبة، التي أسست وأرست دعائم الحداثة التشكيلية المغربية، وأكتفي بذكر تجربة الصديق الفنان التشكيلي فؤاد بلامين. ما هو المنطلق المعرفي الذي انطلقت منه في اختياراتك، علما أن التجارب التي اخترتها جد مهمة ليس في المغرب فقط، بل في حوض البحر الأبيض المتوسط ككل؟

- أظن أن الكلام عن غياب بلامين أصله صحافي، والحقيقة شيء آخر. أنا وجان هوبير مارتان لم نغيّب بلامين. حاشا أن نكون فعلنا ذلك. وفؤاد بلامين أكبر من أن يُرفض في معرض من حجم المعرض الذي نظمناه. عندما زرنا فؤاد في بيته ومحترفه تناقشنا مطولا حول المعرض وبسطنا له المفهوم الذي نسير عليه، لكنه أبلغنا أنه كان قد قرر قبل أن نأتي عنده عدم المشاركة. احترمنا رأيه وتأسفنا كثيرا لكونه لم ينضم إلى المجموعة الفنية التي قدمناها. وحدث أن زار المعرض والتقيته، وهنأنا على ما قمنا به. أعيد التأكيد أنه لا يمكن لأي كان أن يُقصي فنانًا مثل فؤاد بلامين. كنا نتمنى أن نعرضه مع المجموعة المؤسسة للفن المغربي الحالي والتي لا يمكن للشباب مهما بلغوا من شأو أن يتنكروا لها وكان من بينها بلكاهية ولمليحي وربيع... لكننا لم نحظ بهذا، ربما تأتي فرصة أخرى للتعامل معه. عمل بلامين والآخرين كان بإمكانه أن يظهر لزوار المعرض أن أعمال الشباب التي كانت هي المقصودة بالتظاهرة لم تأت من فراغ بل أسست على أعمال فنانين كبار.

(*) من بين المفاهيم التي لم أقتنع بها بعد والتي تشتغل وتقيم داخل إطارها الفكري، نجد مفهوم "ما بعد الحداثة". هل في نظرك نتوفر على تلك الشروط التاريخية والمعرفية، التي أنجبت هذا الفكر في الغرب، وأيضا أمام هذا الخراب والدمار والتشرذم والضياع والتنكيل، الذي يطبع حياتنا اليوم، حتى نتشبث بهذا الحلم عربيا؟

- أظن أن ما بعد الحداثة هي طريقة التفكير التي تلائمنا اليوم. ولا أظن أنه من الضروري أن ننتظر حتى نتقدم على جميع المستويات. ما بعد الحداثة غير موجودة عندنا في السياسة فقط. لكنها موجودة في عدد كبير من مناحي حياتنا اليومية. عندما تتعامل مع الذكاء الاصطناعي لا يمكنك أن تبقى حبيس فكر أنتج في العصر الميكانيكي عصر البخار والبنزين. إذا قررنا أن نوائم بين ما وصلنا إليه من الناحية السياسية وما نفكر فيه فيجدر بنا أن نفكر بفكر ابن خلدون وابن رشد.

هذه الفكرة دافع عنها المفكر التاريخي عبد الله العروي وانتقدته كما انتقده غيري كل على طريقته، ولكن انتقادي له كان بحضوره خلال ندوة بكلية آداب بنمسيك بالدار البيضاء. وكنت ركزت خصوصا على فكرته القائلة إن المغاربة ولجوا باب التصوير التجريدي قبل أن يمروا من مرحلة الرسم التشخيصي؛ وله فكرة متخلفة عن الرسم بصفة عامة. العروي يظن أنه لا بد من أن نمر من جميع المراحل التاريخية حتى يستطيع المؤرخ أن يحقب التاريخ بشكل صحيح، وكأن الأحداث هي التي يجب أن تكون على صورة فكر التاريخاني الذي هو عبد الله العروي. ولذا قلت له إنه إذا كان يطلب من الرسامين المغاربة أن يتوقفوا عند الكلاسيكية الجديدة حتى يتوافقوا مع عصرهم، فلماذا لا يتوقف هو في كتابة التاريخ عند مونتسكيو؟ ولماذا يحاول الانتساب إلى هيغل أو ماركس؟

*باحث جمالي مغربي

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.