أمل بوشارب كاتبة ومترجمة جزائرية من مواليد دمشق 1984، تُعد اليوم أحد الوجوه الأدبية البارزة، التي بزغ نجمها خلال السنوات القليلة الماضية، ومكنها عشقها الخاص والحميمي للغة إلى الكتابة بالإيطالية، من دون أن تنسلخ عن هويتها العربية التي تتبدى بشكل واضح داخل منجزها الأدبي، وهي تقوم على مناهضة مبدأ الكولونيالية والتبعية العمياء للغرب، محاولة التعبير عن هواجسها باللغتين العربية والإيطالية داخل كتابة فسيفسائية تحل في الآخر، لكن دون أن تنتمي إليه، وهذا الأمر ساعدها بشكل كبير ومُكثف على تشرب ثقافة الحضارتين معًا، وفهم الخصوصيات الجمالية والتاريخية والمحلية والكونية التي يشتركان فيها منذ زمن طويل. صدرت لها مؤلفات نذكر منها: "عليها ثلاثة عشر"، و"سكرات نجمة"، و"ثابت الظلمة"، و"من كل قلبي". في هذا الحوار الخاص التقينا بأمل بوشارب حول مشروعها القصصي والروائي، وتجربتها في الترجمة، ومدى حضور الخصوصيات الجزائرية داخل الثقافة الإيطالية:
(*) لنستهل هذا الحوار حول بداياتك الأولى في عوالم الكتابة الروائية، ثم الترجمة. متى وأين وكيف بدأت؟
لا يعلم كثيرون بأن بدايتي كانت مع الكتابة المسرحية. شغفي الأول في القراءة كان في المسرح الفرنسي: موليير، كورناي، وراسين. وكان من الطبيعي أن تكون نصوصي الأولى كلها مسرحية بلمسة كلاسكية، "تمثيل"، "ملحمة نيف"، "على هامش البطولة"... هذه الأخيرة تم تحويلها إلى الركح عام 2012. قبلها بحوالي عشر سنوات أذكر أنني كنت في سنواتي الأولي في الجامعة، عندما رآني مُخرجٌ مسرحي أمام قسم الترجمة، وعرض عليّ التمثيل في مسرحية كان لابد أن تُعرض ضمن إطار "سنة الجزائر في فرنسا". كان الدور يقتضي أن ألعب شخصة صامتة: دمية. على الأرجح لم يعجبني الدور… واقترحت عليه أن أكتب أنا المسرحية!
لحظة الرواية في مسيرتي أتت عام 2015، وكانت "سكرات نجمة"، التي تجلى من خلالها شغفي الأول من خلال رسم ووصف الشخصيات على الطريقة المسرحية. في "ثابت الظلمة" (2018)، كان التحدي أيضًا هو أن أوفّق بين ماضيّ السري مع الكتابة المسرحية، من خلال بناء عوالم منفصلة متصلة ضمن فضاءات مكانية محدودة، والحرية المشهدية في حركة السرد الروائي. المتعة كلها تتولد لديّ من المزاوجة بين عوالمي المختلفة، والتي تتجلى أيضًا من خلال لغةٍ هي بالضرورة، في أماكن كثيرة، لغة ترجمة ضمنية، بما أن حضور الآخر في أعمالي مركزي، وهو من يفكّر بالضرورة بلغةٍ غير العربية.
(*) تكتبين بالعربية والإيطالية، كيف تستطيعين الانتقال بين لغتين من دون صعوبة؟ وأيضًا، لماذا الكتابة بالإيطالية؟ هل للأمر علاقة بـ"الكونية"؟
أنا أعيش يومياتي الحميمة باللغتين. لا أعرف حقيقة إن كنت أتحدث في المنزل بالإيطالية، أو
بالعربية. أو إن كنت أتنقل بين اللغتين، أو أتحدث بهما سويًا معًا! أن تكون جزائريًا هي أن تكون أيضًا كائنًا متعدد اللغات/ متداخل اللغات بالضرورة. في العاصمة الجزائرية، نحن نتحدث لغة أشبه بـ" Sabir سابير" معاصر (لغة الموانئ في البحر الأبيض المتوسط إلى غاية القرن التاسع عشر، وأصل التسمية في اللاتينية (Sapere المعرفة)، وهي خليط من اللغات العربية، والفرنسية، والاسبانية، كلمات إيطالية، وأخرى تركية. كلها لغات تتدفق على لسان الشارع العاصمي اليوم بانسيابية وأريحية، وكأننا نحتفي كل يوم بإرث مدينتنا المتوسطية "العارف" والجامع. وهكذا أتت الكتابة باللغة الإيطالية بالنسبة لي بتلقائية. ببساطة، هي تجلٍّ "سابيري" فطري. وهكذا أتى عملي الأخير l’anticonformista، الذي كتبته ربما مصداقًا لقول إحدى شخصيات Bourgeois Gentilhomme لموليير الذي نطق بلغة "السابير": Se ti sabir, Ti respondir ; Se non sabir, Tazir, tazir (إن كنت تعرف sabir أجب، إن كنت لا تعلم non sabir إخرس). عمل لم يكن يصلح لأن يُكتب بغير اللغة الإيطالية، كونه يتقاطع نصيًا بشكل شبه كامل مع رواية لألبيرتو موارفيا، في محاولة إسقاط لعلاقة اللغة بالمعرفة الثقافية الكاملة للآخر، وهي فكرة العمل المحورية.
(*) يتوزع اشتغالك بين الكتابة الروائية والترجمة لجملة من النصوص الشعرية. في نظرك، ما العلاقة التي يُمكن أن تُنتسج بين الرواية والترجمة، علمًا أن الرواية اليوم غدت وكأنها أشبه بموضة الكتابة الأدبية على حساب الشعر مثلًا؟
لا أدري إن كانت الرواية ليست سوى موضة، وأن الشعر هو ضحية الساحة الأدبية. في اعتقادي، كل جنس أدبي له حيز حيوي يتطور وينمو في داخله. الرواية ببساطة خُلقت للورق، أما الشعر فخلق للإلقاء. علينا ألا ننسى ذلك ونحن نخوض في ثنائية الشعر/ الرواية. جدلية الشفاهة والكتابة أزلية، وفي اعتقادي هي ما يُشعل من حين لآخر الصراع بين الروائيين والشعراء. ففي الوقت الذي يستطيع فيه الروائيون الامساك بلحظة اهتمام دور النشر والقراء بأعمالهم التي تمر جميعها عبر قناة مكتوبة، فإن الشعراء يجدون صعوبة في القبض على هذا الاهتمام والاعتراف، الذي تحتاجه نرجسية أي مبدع، كونه يتطاير في جزئه الأكبر مع الشق الصوتي المباشر للحظة الشعرية. وأنا من خلال ترجمة الشعر أجدني أستمتع بالتعامل مع القرينة المكتوبة للحظةٍ أدبية معقدة في جوهرها، كالشعر، ومحاولة نقل كل ما تحمله من زخم وصراع داخلي بين أجزائها إلى لغة أخرى، فأجدني أمارس هواية المصالحة بين الثنائيات المتصارعة في الكون، وليكن ذلك من خلال كوني روائية تترجم الشعر.
(*) لك اهتمام كبير باللغة الإيطالية وثقافتها وهي لغة لا تقل أهمية عن الفرنسية والإنكليزية. ما مدى حضور الثقافة العربية المعاصرة في تجلياتها الأدبية، ضمن ثقافة وفكر المثقف الإيطالي؟
هذا السؤال على مطلقه قد يبدو معقدًا، لأن المضامين الثقافية التي تتغلغل في اللاوعي لتأخذ
تمظهرات فكرية مختلفة في نِتاجات المثقفين هي مسألة يصعب عادة تتبع مساراتها. وحديثي هنا إذا ما عدنا إلى الوراء قد يأخذنا إلى أبلغ تجليات المثاقفة العربية الإيطالية التي ظهرت في أعمال أعظم شعراء إيطاليا دانتي أليغييري، "الكوميديا الإلهية". فبالرغم من أن دانتي كان تلميذًا ـ كما هو معروف ـ لبرونيتو لاتيني، الذي زار وعرف مدارس الترجمة في إشبيلية وطليطلة، إلا أن هناك من لا يود السماع عن أي تأثير عربي إسلامي عليه في إيطاليا. في المقابل، الجميع قد يبدو حاليًا مستعدًا لإبداء شيء من الاهتمام ببعض منتجات الأدب العربي المعاصر الذي يتحدث عن الحروب الأهلية، واضطهاد النساء. فالاهتمام هنا لا يصبح ذا علاقة بالثقافة العربية المعاصرة من حيث أنها منظومة خلاقة، وإنماعلاقة تعاطف انساني ينم عن شعور بالشفقة مع الشعوب المستضعفة.
هل هذا الشعور إزاء الثقافة العربية المعاصرة يعتبر شعورًا صحيًا قد يؤدي إلى أي شكل من أشكال المثاقفة؟ الجواب: قطعًا لا. فالثقافة من خلال تجلياتها الفنية والأدبية يفترض أن تخاطب مراكز الدهشة لدى الآخر، لا أن تستثير مجرى الدمع في عينه. لذلك فإننا إن كنا لا نجد أي تأثير ينتمي إلى مناطق الإعجاب، للثقافة العربية المعاصرة في النتاج الابداعي الإيطالي، فهو أمر غير مستغرب، لأن الكائن البشري يحصّن نفسه بالفطرة من التورط مع العليلين و"الموبوئين"، حتى لا يصاب بأي عدوى. أما المثقافة فهي عملية مختلفة كليًا تتم في إقليم الإعجاب والانجذاب الكلي للآخر، لتبدأ بعدها عملية التلاقح الثقافي. الأمر يتعلق بفعل غريزي كفعل التزاوج، نمارسه لنؤكد على خصوبتنا الفكرية، وقدرتنا على توليد أنساق ثقافية حية وخلاقة ضمن إطار حضاري صحي وحيوي.
(*) تلعب الترجمة دورًا كبيرًا في نقل ثقافة الشعوب والتعريف بأعلامها، بالرغم من أن الثقافة العربية المعاصرة لم تساير ذلك بالشكل الكبير والمُكثف، بسبب قلة الإمكانيات التي تعترض سير وتقدم هذا النوع من المُثاقفة. لماذا في نظرك ظلت الثقافة العربية اليوم متقوقعة في مجال الترجمة من الإيطالية إلى العربية على الأعمال الأدبية من دون الأعمال التشكيلية والسينمائية، خاصة أن إيطاليا ازدهر فيها الدرس الفني أكثر من الأدبي، منذ عصر النهضة إلى اليوم؟
مبدئيًا، علينا أن ندرك بأن التعبير الأدبي يعكس أبلغ تجليات تطور التعبير الفني ضمن أي ثقافة. وطبعًا علينا أن لا نسقط من ذهننا أنه وفي سياقنا الحضاري الحالي، فإن التفاعلات
الثقافية التي تنعكس من خلال الترجمة تكاد تحددها مركزية واحدة هي المعيارية الأميركية. فهل سألنا أنفسنا كم هو عدد الأعمال التي تُرجمت عن الإيطالية إلى العربية قبل الحصول على تأشيرة الموافقة الأميركية؟ (ولا أقصد هنا عملية الترجمة عن الإيطالية مباشرة على الصعيد اللغوي، ولكن مباشرة إلى العربية قبل أن تحظى بالتسويق العالمي، الأميركي بالضرورة) والعكس أيضًا بالنسبة للأعمال العربية المترجمة إلى الإيطالية، والتي نادرًا ما تتم مباشرة إلى الإيطالية قبل المرور على لغات المركز الكبرى: الإنكليزية، أو الفرنسية، أو الألمانية. أزمة التواصل الترجمي الحقيقية بين العربية والإيطالية في رأيي هي ما يبدو وكأنه حالة التوجس من مدى أهلية الأعمال المكتوبة على الجهتين، بغض النظر عن التاريخ الحضاري لأي ثقافة، وهو ما ينسحب على بقية المنتجات الإبداعية. وهنا في رأيي يظهر وعي المترجم والفاعلين في الحقل الثقافي على الضفتين لتفعيل التواصل المباشر والفاعل بين الثقافتين خارج حسابات سوق العولمة.
(*) على مستوى الترجمة، ما إسهاماتك في هذا الباب، سواء نقل الثقافة الإيطالية إلى لغة الضاد، أو العكس؟ وما الصعوبات التي قد تُواجه المرء وهو مُقبل على الترجمة، التي تتطلب من المرء ثقافة معرفية كبيرة؟
الترجمة كالكتابة، هي عملية تراكمية لا تظهر نتائجها سوى على المدى الطويل. والمنبر الذي أقدم من خلاله حاليًا ترجماتي على الصفحة الثقافية لـ"العربي الجديد" مهم من حيث أنه يفتح نافذة مباشِرة على الأدب الإيطالي، حيث أن اختياري للأعمال المترجمة لا يحكمه كما ذكرت آنفًا أي مرجعيات وسيطة. أما عن الترجمة إلى الإيطالية فهناك مترجمون إيطاليون يقومون بعملهم على أكمل وجه، ودوري يقتصر على ترشيح أعمال عربية شعرية وأدبية منوعة للترجمة والنشر، من خلال تفاعلي واحتكاكي بالساحة الثقافية الإيطالية.
أما عن نصيحتي لمن هو مقبل على الترجمة، فهي تشبه تمامًا نصيحة أي مهندس لمن هو مقبل على تصميم عمارة، أو نصيحة أي محامي لمن يود أن يرافع في المحكمة. الدراسة الأكاديمية. فهذا المجال إن طُرق بأسلوب الهواة، سيبقى المرء فيه متخبطًا بين استراتيجيات ضبابية لن تصقلها سوى تجربة سنوات طويلة في الميدان. لكن الوصفة الأكثر اكتمالًا هي بالطبع القدرة على الموازنة بين الجانب العلمي للترجمة وجانبها الفني، وذلك ليس للقيام بترجمات ابداعية بعيدة عن جمود النظريات العلمية فحسب، لكن حتى لا تبقى كمترجم عالقًا في عقدة إنتاج "سيمولاكر"، وتستمتع أيضًا بلحظة إنتاج/ إعادة إنتاج "الأصل".
(*) "تجليات النيوكولونيالية في سرد أمل بوشارب" عنوان الملتقى الذي نظمته جامعة مرسلي عبدالله في الجزائر. كيف جاء تفاعلك مع هذه الدعوة وأنت أحد الأصوات الأدبية العربية الجديدة، علمًا أن ثقافتنا العربية لا تعمل على تكريس جيل "الرواد"، أو المثقف "النجم"، الذي اكتسح عالم التلفزيون منذ مطالع التسعينيات؟
مبدئيًا، يمكنني أن أؤكد لك بأن الأكاديمي الجزائري، ومن خلال عملي في الجامعة الجزائرية على مدى سنوات، يدرك تمامًا أن الجامعة هي فضاء لإنتاج المعرفة، وليس ذراعًا إعلامية لأي دار نشر من أجل الترويج لنجومها. هنالك مشاريع نقدية جادة لباحثين جزائريين يعملون بعيدًا عن ضوضاء الإعلام، ويحرصون على متابعة الحركة الأدبية عن كثب، ومرافقتها بدراسات رصينة. هؤلاء طبعًا أعتز بهم، وباهتمامهم بأعمالي، وبأعمال غيري من كتاب جيلي.
(*) تتميز أعمالك الروائية بذلك الصراع القديم بين الشرق والغرب، من خلال تفكيك هذه الجدلية سرديًا، فضلًا عن سبر أغوار صُورة العربي المقيمة في المتخيّل الغربي. لماذا هذا الانشغال بقضايا كبيرة في حجم الصراع الكولونيالي، خاصة أن الأسماء الجديدة منشغلة بمشاغل الحياة اليومية البسيطة، وطبيعة العلاقات الإنسانية المعاصرة، سواء في الرواية، أو القصة؟
عمومًا، أي محاولة لافتعال مشروع سردي، في أي اتجاه كان، من شأنه أن يحول كتاباتك
لرُكام من العلامات المتشنجة تجعلك قادرًا على لي ذراع قصصك، وتوجيه مجرى الأحداث كلها لخدمة قضيتك الكبيرة، أو الصغيرة، أيًا كانت. هل هذا ما أفعله؟ قطعًا، لا. في "سكرات نجمة" (2015)، وعندما رسمت شخصية داميا، الفتاة الشابة الواثقة ذات الطاقة المتفجرة، لم أكن أتمنى لها أن تنتهي على النحو الذي خلصت إليه! الشيء نفسه بالنسبة لـ"مهدي" في "ثابت الظلمة"، الذي رسمتُ شخصيته كشاب صادق ذكي وعصامي، وأردته من كل قلبي أن يكون هو بطل الرواية الخارق، لكن مصيره حدده منطق الرواية وتتابع الأحداث، من دون أن أرضى عن نهايته في لحظة الوعي التامة لدي بالمناسبة! ففي النهاية، أن تنصت للحظة اللاوعي عندك هو ما يصنع جوهر الفن. وأن يكون لديك في هذه المنطقة كم من التماسك يجعل كل هواجسك وأفكارك تنصب في إطار واحد، فهذا ربما ما يسمى أن تكون صاحب مشروع إبداعي حقيقي. أن يلتقط هذا الخيط النقاد فهذا دليل على حرفيتهم وتمكنهم من أدواتهم. وإن صنف كثير من النقاد أعمالي في أنها تندرج في إطار كتابة ما بعد الاستعمار، فهناك كثير من الأطروحات التي تتناول كتاباتي أيضًا من المنظور النسوي، أما القراء فيستمتعون بها لأنها تخاطب يومياتهم. هذه التصنيفات، إذن، أتركها للقارئ، بحسب درجات التلقي لديه. أما أنا، فسأواصل الإنصات للصوت الداخلي لدي، والكتابة من دون أجندات مسبقة.
(*) تقيمين اليوم في إيطاليا. هل استطاع العربي، في نظرك، أن يتنصل من قهر وجرح الغرب سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، ليرسم له آفاقًا أخرى، من خلال تكسير نمطية الصُورة الغرائبيّة التي رسمتها بعض الأدبيات الاستشراقية حول العربي؟
الماكينة الاستشراقية التي عملت على ترسيخ الصورة الغرائبية عن العربي عادت بقوة في السنوات الأخيرة، لمواكبة المستجدات العالمية، حيث لا يزال العربي يقدم كإنسان "عليل"، ضحية تخلفه الحضاري الذي لا سبيل له للتحرر منه، ومن دونيته المزمنة سوى بالمشي على خطى مركزية يصنعها نظيره المتحضر في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، الذي طالما تخصص في إنتاج وصفات الخلاص الحضارية والإنسانية للعالم... الخلاص الذي لا يمكن له سوى أن يهبط علينا من فوق! فوق الذي يعج بالقساوسة على مر الأزمنة... "نحن لدينا اليوم من القساوسة ما يفيض عن الحاجةِ: من جميع الأديان، وحتى خارج الدين"؛ هكذا كتب رولان بارت في رسالة للمخرج الإيطالي ميكل أنجيلو أنطونيوني وهو يحدثه عن دور الفنان في المجتمع مقابل دور القسيس مستندًا لتقسيم نيتشه لتيبولوجية الأفراد، التي يميز فيها بين القسيس (من خارج الدين وداخله) والفنان. أما فكيف لنا أن نكسر كل النمطيات القديمة والجديدة؟ ما على الفنانين والمبدعين، على الضفتين، إلا أن يسعوا لتكريس مفهوم التفاعل الثقافي النِدّي بين الشعوب، بعيدًا عن التورط التراجيدي في دور الضحية العليل، أو المخلّص البطل، لأن لكل الحضارات ضحاياها وأعطابها، وهي ليست في حاجة لاستيراد وُعّاظ، أو أبطال، من أي نوع كان، والانتباه من عدم الوقوع في الثقب الأسود الأيديولوجي، الذي من شأنه أن يبتلع زخم لحظة التبادل الحضاري الحقيقية، وما قد ينشأ عنها من تلاوين ثقافية مثمرة.
(*) على سبيل الختم، ما مدى حضور الثقافة الجزائرية اليوم في السوق الثقافية الإيطالية؟
مؤسسة الثقافة الجزائرية ليس لديها أي خطة أو استراتيجية للترويج لمنتجاتها الإبداعية في الخارج. كما أن الجزائر حاليًا (لحسن الحظ) ليست في مركز الأخبار العالمية، وبالتالي هي خارج مدار اهتمام الجماعات والمؤسسات الأجنبية التي تستثمر في المنتجات الثقافية المشتقة عن الأزمات الإنسانية والحروب. ولكن في المقابل، ثمة فاعلون ثقافيون إيطاليون يهتمون بالنتاجات الإبداعية للشعوب بعيدًا عن الصرعات الإعلامية. وهنالك دور نشر جادة، وأكاديميون ومترجمون وازنون، يحرصون على تقديم الأدب العربي عمومًا، بتفان وصدق، من أجل بناء جسور حقيقية متينة بين الثقافات، قائمة على علاقات صحية بين الشعوب.
*ناقد مغربي.