ينتمي الكاتب والروائي الجزائري سعيد خطيبي (1984) إلى فئة قليلة من الروائيين الجدد داخل العالم العربي ممن يمتلكون وعيًا بالصّناعة الروائية وعوالمها التخييلية. فقد قاده الاشتغال بالصّحافة العربيّة إلى تشرّب المهنة وقراءة عشرات من المتون الروائية، تختلف في الحجم وتتباين في الأساليب الفنيّة والمُنطلقات الجماليّة والمعرفية، ما جعله يبحث عن أسلوبه الأدبيّ الخاصّ والقائم على كتابة رواية عَالمة وجادّة بشروطها ومواضعاتها وسياقاتها ومنهجها الأركيولوجي في إعادة توليف سياقات وقضايا وتواريخ وجعلها تحتل ناصية كبيرة من سيرة التخييل الروائي. روايات خطيبي ذات علاقة قويّة بالذاكرة ومثالبها، فهو لا يكتفي بنقل الواقع الجافّ، فهذه مُهمّة المُؤرّخ المُستند على حقائق واقعيّة للوصول إلى كتابة علمية أقرب إلى "الحقيقة". أمّا الروائيّ خطيبي فهو معنيٌّ بسيرة المُتخيّل وكتابة الذاكرة، لأنّ كتاباته قائمة على هذه المُزاوجة الفعليّة بين الواقع والخيال وتتحكّم في صناعتها اللّغة الأدبيّة، بوصفها خيطًا ناظمًا بين الخيال والواقع، إنّه أشبه بستار رقيق يحجب الواقع، لكنّه يُظهره في آن واحد، بل يجعل معرفته رهينة بالتفكير والبحث والتقصّي. في رواية الأخيرة "حطب سراييفو" مفهوم الكتابة الروائية لديه قائم على وعي مُسبق بهذا التاريخ، لا بطريقة تجعله يُعيد كتابته تاريخيًا، وإنّما الاكتفاء به كخلفية معرفية أو سياسية، تُوجّه فعل الكتابة نحو صياغة صورة أدبيّة عن مجتمع في مرحلة مُعيّنة يسرق من خلالها صوت السلاطين والسياسيين ويُعطي الكلمة للمُهاجرين والمُهمّشين والمنبوذين سياسيًا واجتماعيًا.
بمناسبة صدور الترجمة الإنكليزية لروايته "حطب سراييفو"، كان لنا هذا الحوار معه حول الترجمة والرواية والتاريخ وصورة الأدب المغاربي داخل الثقافة الفرنسيّة وغيرها:
(*) صدرت قبل أيام قليلة ترجمة إنكليزية لروايتك "حطب سراييفو" (اللائحة القصيرة/ البوكر) ما الذي تعنيه لك هذه الترجمة، لا سيما وأنّك تنتمي مغاربيًّا إلى جغرافيا عربية ذات تأثير ثقافيّ فرنسيّ؟
التّرجمة جزء من صناعة الكتاب، لم تعد هذه الصّناعة حكرًا على النّشر والطّباعة، بل التّرجمة من ضروراتها، كما أن التّرجمة مكمّل إبداعي، لا يتمّ الأدب دورته من دونها، فهي تحيلنا إلى قراءات جديدة ومختلفة للنصّ الأصلي. كما أن علاقة النّاس مع الأدب لا تتأتى من مجرّد القراءة، بل أولًا من عملية سابقة لها، وهي التّرجمة، والتي ترفع النصّ الأدبي (سردًا أو شعرًا) إلى مقامه الإنساني، وتؤكّد أن الأدب ليس صنعة محلية، محصورة في جغرافيا واحدة، بل في مقدوره تخطّي الحدود. كيف كان سيكون حالنا لو لم نقرأ ميشيما أو كافكا أو سيبولفيدا وغيرهم من الكتّاب الذين وصلوا إلينا مترجمين؟ التّرجمة نقيض الانغلاق، هي ما يمنح كتابًا حياة أخرى. الكاتب ينشغل بكتابه، بتحريره، بينما المترجم يؤدي واجبًا أخلاقيًا إزاء الأدب، أن يخرج الكتاب من بيئة إلى أخرى، أن يهبه سيرة ثانيّة. برأيي أن الرّواية هي النّوع الأدبي الأكثر معاصرة لزمانه، هي المعنيّة بمسايرة ما حدث وما لم يحدث، بالتّالي فإن ترجمتها إنمّا توسع من رقعة النّقاش بشأنها. صحيح قولك أنه حين يأتي ذكر كاتب جزائري، سيتبادر إلى أذهان البعض أنّه قادم من فضاء فرنكفوني، مع أنّها فكرة تشمل الكثير من الاختصار والتّجني أحيانًا، كما لا ننكر أن الجزائر – على رغم كونها ليست عضوًا في منظمة الفرنكفونية – هي من أكثر الدّول استخدامًا للغة الفرنسية (على الصّعيدين الرّسمي والشّعبي)، لكن الأدب الذي يُكتب، في الجزائر، لا يعنى بمخاطبة شريحة واحدة من القرّاء، ليس أدبًا موجّهًا بل مفتوحًا، إنّما هو أدب بمفهومه الأوسع، يُخاطب من يعرفهم ومن لا يعرفهم. فكرة حصر الكاتب الجزائري في زاوية ضيّقة، وأنّه تحت تأثير ثقافة واحدة، الغرض منها الحطّ من شأنه، لا معاملته مثلما يُعامل كتّاب من أصقاع أخرى.
(*) في الآونة الأخيرة، حظي الأدب العربي شعرًا ورواية بترجمات كثيرة بالنظر إلى المُؤلّفات المُترجمة إبان الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. رغم ما يطبع بعض الترجمات إلى الفرنسية من ركاكة وارتباك في نقل النصّ الأصلي، إلاّ أنّها تظلّ مُهمّة لتحقيق نوع من التراكم الأدبي داخل أوروبا وخارجها. كيف ترى وتُقيّم المُنجز الأدبي الجزائري الجديد المُترجم إلى لغات أجنبية؟
لست أتّفق معك في الرّأي، فقد شهد الأدب العربي ترجمات إلى لغات أخرى، في السّتينيات والسّبعينيات من القرن الماضي، أكثر مما هو عليه اليوم، ويعود الفضل في ذلك إلى ما يُطلق عليه "حركة دول عدم الانحياز"، هذا التّنظيم السّياسي كانت له مهام ثقافيّة أيضًا، ففي ذلك الوقت كانت ترجمات الأدب العربي إلى اللغات الصّربو – كرواتية أو الرّوسية أو الصّينية تصدر كلّ عام، كانت دول تلك المنظّمة تعنى بالتّبادل الثّقافي فيما بينها، في الأدب والسّينما والمسرح، لكن منذ نهاية السّبعينيات بدأ هذا التّنظيم في التصدّع، وتكرّست نهايته مع سقوط جدار برلين حيث لم يعد يوجد سبب في استمراره، فتوقّفت عجلة التّرجمة النشطة، ثم دخلنا مرحلة من الرّكود، باتت ترجمة الأدب العربي محصورة في مبادرات أفراد أو مؤسّسات في الغرب. في هذه العتمة هناك نقاط ضوء، مثل "أكت سود" بالفرنسيّة أو «بانيبال» التي تختصّ في ترجمة الأدب العربي إلى الإنكليزية، بالإضافة إلى دور نشر أخرى في أميركا وكندا ودول أوروبية أخرى تستميت في مواصلة عملها، مع ذلك هل يجب دائمًا أن ننتظر مبادرة من الآخر؟ لفت انتباهي أن بلدًا صغيرًا مثل أيسلندا لا يتعدى تعداده 300 ألف نسمة إلا بقليل، بينما أعمال كتّابه تطوف العالم بمختلف اللغات! والسّبب أن الحكومة هناك تدعم ترجمة أدب بلدها، كما هو الحال في غالبية الدّول الأوروبية، حيث أن الوزارات الوصيّة تضع نصب أعينها التّرويج لثقافتها المحلية، لا سيما دعم ترجمات الأدب. لقد بادرت دول عربية قليلة إلى هذا المسعى، لكن في بلد مثل الجزائر الثّقافة ليست من الأولويات، بل إن دعم نشر الكتاب محليًا يظلّ محتشمًا، لم يحصل – في السّنوات الماضية – أن فكّرت الوزارة في دعم ترجمات الكتّاب الجزائريين في الخارج. ننتظر دائمًا من الكاتب أن يقوم بكلّ شيء، أن يكتب وينشر وينجح وإن فشل فسوف نجعل منه شماعة نعلّق عليها وزر الفشل. ترجمات الأدب الجزائري، المكتوب بالعربية، ضئيلة جدًا في العقد الأخير، تكاد تحصى على أصابع اليد الواحدة، بحكم أن القارئ في الغرب مكتفٍ بما يكتبه الرّوائيون الجزائريون الفرنكفونيون، بينما الكاتب الجزائري بالعربيّة – على الرّغم من اختلافاته الجوهرية مع مواطنه الفرنكفوني في الكتابة – وحيدًا في عزلته. تكرّست في الغرب فكرة أن الأدب الجزائري يُكتب بالفرنسيّة وكفى، مما ألقى بظلاله على الأدب الجزائري بالعربية وجعله بالكاد مرئيًا.
هناك أدب وفقط!
(*) ماذا عن حضور الأدب العربيّ داخل فرنسا وغيرها، هل في نظرك استطاع الأدب المَغاربي أنْ يغدو مُؤثّرًا في الآداب العالمية الأخرى؟ أم أنّ الأمر يتعلّق بأدب أجنبي مُترجم إلى لغة أخرى لا أكثر؟
ما زلنا نسمع، من حين لآخر، ذلك السّؤال الشّائك: هل ما يكتبه روائيون مغاربة بالفرنسية أدب فرنسي أم أجنبي؟ شخصيًا أتفادى الخوض في تصنيفات الأدب، هناك أدب وفقط، بغض النّظر عن جنسية صاحبه أو مسقط رأسه أو اللغة التي يكتب بها. هذا السّؤال يكاد يخصّ الفضاء الفرنكفوني وحده، مثلًا نجد كتّابًا من آسيا أو من أفريقيا يكتبون – مباشرة – بالإنكليزية، ولا نلزمهم بتصنيف أدبهم. لا يمكن الحكم بأنه مؤثّر عالميًا أم لا، بالنّظر لانعدام مقياس ثابت في نعت عمل أدبي بالعالمي أم العكس، لكن يمكن القول إنّه أدب يحظى بمكانة مرموقة، له قراء وله اهتمام نقديّ لا بأس به. هذا الأدب المغاربي، المكتوب بالفرنسية، استفاد من شروط الصّناعة الثّقافية في فرنسا، خلف كلّ كاتب دار نشر لها سمعتها وثقلها، لكن لم يكتف بذلك وفقط، بل استطاع أن يجدّد نفسه، كلّ سنة، بمناسبة الدّخول الأدبي في الخريف، نصادف أسماء جديدة، هذا التّعدّد والتّنوع يطيل في عمره، ويوسع من قاعدة قرّائه. من جهة أخرى، من المبكر أن نحكم على الأدب الجزائري المكتوب بالعربيّة، والمترجم إلى الفرنسية، كونه ما يزال حديث العهد بالتّرجمات، على الرّغم من توافر مترجمين أدبيين جيّدين، من العربية إلى الفرنسيّة، في الجزائر، فإن روح المبادرة تكاد تكون منعدمة.
(*) في رواية "حطب سراييفو" استعدت حقبة هامّة من تاريخ البوسنة والهرسك أو على الأقل كخلفية لأحداث تدفع السارد إلى الكشف عن مآزق الذات وتمزّقات الحرب وموقع المنكوبين داخلها. كيف استطعت واقعيًا وتخييليًا إيجاد علاقة بين الجزائر وحرب البوسنة والهرسك؟
الجزائر والبوسنة والهرسك عرفا قساوة الاحتلال في تاريخهما القديم، هذا الاحتلال لعب دورًا في تشكيل شخصية الإنسان في كلاّ الطّرفين، كما أن البلدين – كما ذكرنا سلفًا – كانا جزءًا مما يسمى "دول عدم الانحياز". في حقبة يوغسلافيا، كانت العلاقات مع الجزائر جدّ متينة، البلدان كانا اشتراكيين ويسيران في وجهة واحدة، حصل بينهما تبادل ثقافيّ وآخر اقتصادي عمّر طويلًا، ثم وجدا نفسيهما إزاء حربين، في وقت واحد في تسعينيات القرن الماضي، فمن نظرة خارجية سريعة، سيبدو لنا أنهما مختلفان، لكن نظرة فاحصة، وتعمّقًا في فهم ما جرى ستثبت حجم التّشابهات بينهما، هذا على الصّعيد النّظري، بينما في الكتابة، فأنا لم أخض فقط في رواية تبحث عن المشتركات الملموسة بين الجزائر والبوسنة، الرّواية تتّكأ على التّخييل، بل غرضي، بالأساس، كان البحث عن المشتركات الإنسانية بين أفراد يعيشون تحت رحمة الحرب، بغض النّظر عن تسمية تلك الحرب أو موقعها، انشغلت في محاولة فهم طبائع النّاس وهم يستيقظون كلّ صباح، بينما العالم من حولهم يتهاوى، لم تعنني الحرب في حدّ ذاتها، بل سبيل النّجاة منها، لم أهتم بكرونولوجيا الوقائع، بل انشغلت بسؤال كيف يستطيع شخص أن يحمي نفسه من التّورّط في حرب تقف على عتبة باب داره. في الحروب، دائمًا ما ننحاز إلى تدوين أسماء الأبطال أو في إحصاء الضّحايا، ننصب تماثيل لمحاربين أو نضع ورودًا على شواهد قبور، وننسى شريحة وسطى، هم النّاجون، أولئك الذين لم يكونوا لا أبطالًا ولا ضحايا، أولئك الذين جرفهم التّاريخ، مزّقتهم الحرب ونسيتهم الذّاكرة، أولئك هم الذين حاولت أن أكتب عنهم في "حطب سراييفو".
تعدّد الأصوات يتيح تعدّد النّظر
(*) يطبع الرواية نفس تاريخي محض، يستند على التاريخ مُحرّكًا وموضوعًا، وإنْ تُكسّر من حدّته عن طريق سرد تناوبي بين "سليم" و "إيفانا". كيف اهتديت إلى لعبة السرد التي أقمت عبرها صورة مزدوجة مذهلة ترصد حياة كل من الجزائري سليم والفتاة إيفانا القادمة من سراييفو؟
كلّ واحد من بطلي الرّواية ينتقل بين مكانين، والاثنان يعيشان بين حياتين، بين واقع ومتخيّل، بين حقيقة وزيف، سليم صحافيّ والصّحافة تفترض الاستماع إلى أكثر من شخص، بينما إيفانا مسرحيّة والمسرح يميل إلى تعدّد الأصوات، فبات من الطّبيعي أن يحكي الرّواية أكثر من شخص، لأننا بصدد الحكي عن عالمين متقاطعين فيما بينهما، وكلّ واحد من السّاردين يزج بأصوات الثّانوية ضمن صوته، هذا التّعدّد هو الذي يصنع الصّراعات، والصّراع من محرّكات الرّواية، كما أن تعدّد الأصوات يتيح لنا تعدّد النّظر إلى العالم، من زوايا مختلفة، ويسمح باستيعاب الحكايات الفرعية.
(*) "حطب سراييفو" ليست روايتك الأولى، بل سبقتها رواية أخرى بعنوان "أربعون عامًا في انتظار إيزابيل". وقد حظيت هذه الرواية باحتفاء قويّ من لدن النقّاد، وإنْ كانت "حطب سراييفو" الأكثر حضورًا داخل الإعلام المَغاربي بسبب وصولها اللائحة القصيرة من جائزة البوكر العربيّة. هل تعتقد أنّ الجوائز تُغيّر مسار الروايات للأحسن على مستوى التفاعل النقدي معها سلبًا أو إيجابًا؟
هذا ليس حال العالم العربي وحده، بل في مختلف الآداب الأخرى. ففي فرنسا مثلًا، يترقّب النّقاد الإعلان عن لوائح الجوائز، كلّ خريف، مثل غونكور أو رونودو، قبل الشّروع في القراءات والمراجعات. تلعب الجائزة دورًا مهمًا في التّرويج للأدب وفي إكسابه قراءً، في الدّفع به إلى الأمام، في لفت الانتباه إليه، لكن لا يجب أن نبالغ ونظنّ أن الصّورة جذّابة عربيًا، حيث ما يزال النّقد ليس في أفضل حالاته، الكثير من الجرائد استقالت من الالتزام بمهامها في التّرويج للأدب، كما أن الكثير من النّقاد انكمشوا وتراجعوا إلى الانغلاق في الجامعات، ومن لا يزالون يواظبون على عملهم، ويتيحون النقّد الأدبي في الفضاء العامّ، صار عددهم قليلًا، فرغم ما تقدّمه الجائزة من خدمة، فإن التّفاعل النّقدي معها يعدّ غير كافٍ، قد يفضّل بعض النّقاد العمل بشكل مستقلّ، بعيدًا عن ترشيحات الجوائز، وذلك من حقّهم لكن لسنا نصادف كفاية من القراءات ومن الدّراسات النّقدية التي تساير كمّ النّتاج العربي كلّ عامٍ. نسمع مرّات من يقول إن النّتاج الأدبي في تضاعف، كلّ سنة، مما يعطل القدرة على متابعته، لكن هذا الأمر كان متوقّعًا، مستويات التّعليم تحسنت عربيًا، نظرًا لما كانت عليه في عقود ماضية، كما أن وسائل الطّباعة باتت أريح، النّاقد ليس مطالبًا بمتابعة كلّ ما يصدر، لكن الكثير من الأعمال المهمّة يطويها الإهمال في زحمة النّشر المتزايد.
الروائي والصحافة
(*) إلى جانب الرواية تكتب المقالة الثقافيّة على صفحات جرائد ومجلاّت عربية، إلى أيّ حد تُساهم هذه الفسحة في توسيع ذائقة الروائي وجعلها مُتشابكة ومُتفاعلة مع إشكالات وقضايا يشهدها الاجتماع العربي المعاصر؟
برأيي أن الصّحافة هي الملعب الذي يتحرّك فيه الرّوائي بكلّ حريّة، لا يجد فيه نفسه مقيّدًا بإكراهات. لكننا اليوم حيال "صحافات" وليست صحافة واحدة، وميدان الكاتب هو المقالة أو الاستطلاع، فمنذ ترومان كابوتي وصولًا إلى سفيتلانا ألكسيفيتش وإيمانويل كارير، شهدنا كيف أن الحدود الفاصلة بين الصّحافة والأدب تكاد تمّحى، وفي هذا التّمازج بينهما وُلد الريبورتاج، وليس هناك أفضل من كاتب في الالتزام بالريبورتاج. كما أسلفت الذّكر، بحكم أن الرّواية هي النّوع الأدبي الأكثر معاصرة لزمانه، فمن واجب الرّوائي أن يواظب على الاستماع والتّفاعل مع القضايا الأساسية التي تخصّه أو تخصّ النّاس من حوله، نتذكّر إميل زولا الذي غيّر التّاريخ في قضية دريفوس، بفضل مقاله الشّهير: "إنني أتّهم"، ونتذكّر كاتب ياسين الذي أوصلته الصّحافة إلى الأدب، ونتذكّر رواية "الأحمر والأسود" لستندال التي انطلقت من مجرد مقال صحافيّ، ونتذكّر ألبير كامو الصّحافي والرّوائي أو غارسيا ماركيز الذي سار على النّهج عينه، واعتقلته الشّرطة، ذات مرّة في باريس، وهو يُمارس عمله الصّحافي ظنًّا منها أنّه جزائري، والأمثلة كثيرة في هذا السّياق.