}

سارة أبو غزال: الخيال أرضٌ خصبة للتغيير

أشرف الحساني 28 أغسطس 2022
حوارات سارة أبو غزال: الخيال أرضٌ خصبة للتغيير
سارة أبو غزال

بوعيّ مُكثّف، ترسم الكاتبة الفلسطينيّة سارة أبو غزال في مُتتاليتها القصصية "احلمي يا سيدي" (2022) سرديّة فلسطينيّة، انطلاقًا من تاريخها الشفوي الشخصي، فهذا النّمط من الكتابة السرديّة مُغيّبٌ بشكلٍ كبير، طالما أنّ هذه المُمارسات الأدبيّة تمتح مَعينها من سراديب التاريخ ومَسالك الذاكرة، وفق زوايا مُختلفة من السرد والتصوير، إذْ غالبًا ما تقف عند حدود الحدث التاريخيّ ومَساره. لكنْ مع سارة أبو غزال تُصبح الذات مرجعًا للكتابة والتخييل، بمعنى أنّه لا يُمكن التعبير عن قضيّة سياسيّة، أو إشكاليّةٍ اجتماعية، من دون العبور من خلال جهاز الجسد، باعتباره مُختبرًا للتفكير والتجريب وتفجير مكنونات الذات في علاقتها بالتاريخ والذاكرة. لذلك، استندت أبو غزال في كتابة متتاليتها على تاريخٍ شفويّ يرصد سيرة حدود حقيقيّة بين فلسطين ولبنان، ووضعها في قالب سرديّ مُتخيّل، لأنّ السرد هنا يغدو أداة فعّالة لكتابة تاريخٍ جديدٍ لا يستند على المصادر والمراجع، وإنّما يبرز بشكلٍ أقوى من خلال تاريخ شفويّ للعائلات والأصدقاء والأقارب وهم ينسجون حكاياتٍ مُتنوّعة، من خلال ما عاينوه في تاريخهم الشخصيّ.
والحقيقة أنّ هذه الطريقة في سرد الواقع تبدو مُختلفة، وتسهُم ولو بدرجاتٍ قليلةٍ في كتابة تاريخ الجسد الإنساني في علاقته بالذاكرة والفضاء، بما يجعل الكتابة غنيّة ومُتنوّعة وتفتح لها آفاقًا رحبة على مُستوى التخييل؛ سيما وأنّ أبو غزال تمزج في تجربتها بين الكتابة الأدبيّة والعمل النسويّ، ما يجعل كتابتها تُفكّر بالفعل، وتروم إلى نسج صداقاتٍ قويّة مع شخصياتٍ واقعيّة تُمكّنها من تقديم متنٍ أدبيّ مُغاير للواقع. ورغم أنّ السرد في هذه الحالة يُصبح أكثر تحرّرًا من الذات ومَباهجها، فإنّ ذلك لا يمنع الأيديولوجي من أنْ يمتزج بالأدبيّ، ليُكوّنا معًا أسلوب كتابة جدلية تجمع بين السرد والحكي والتحليل والنقد والتمحيص.
بمناسبة صدور متتاليتها الجديدة "احلمي يا سيدي"، كان لنا معها هذا الحوار:




المجتمع المدني والكتابة
(*) كيف جئت إلى الكتابة القصصية ومُتخيّلها، بعد قضاء سنواتٍ طويلة من العمل في المجتمع المدني، والدفاع عن المرأة وحقوقها المسلوبة في العالم العربيّ؟
أوّل شكلٍ تنظيمي نسويّ كُنت فيه كان موقع صوت النسوة للكتابة والمحتوى النسوي، لذلك فإنّ الكتابة والنسويّة والسرد تتقاطع حدودهما وتتخذ شكلًا تنظيميًا نسويًّا. لا أعتقد أننا يمكن أن نصل الى الكتابة، أو المُخيّلة، من أماكن أُخرى، لأنّ الكتابة القصصية هي مسألة جهوزية وقدرة على المشاركة، وهي الأداة الأكثر قدرة على تنفيذ ما تريده، كفنّان، أو مُنظّم، أو مُمارسٍ للسياسة، في أيّ مرحلة ما. لكنْ مع تقدّم العمر طبعًا، يُصبح المرء مُستوعبًا لجملةٍ من الملكات التي يمتلكها، وفعل الكتابة كان هو الثابت، وبالتالي الشيء الهامّ والأساس الذي سيبقى في دواخلي. انتقالي من مكان وموقع وخبرة في التنظيم النسوي، وتشكيل خطاب نسوي في بيروت، سمح لي باستيعاب مساري صوب فعل الكتابة، التي أستطيع من خلالها تجميع نظرتي بما يتماشى مع صوتي لحظة الكتابة.


(*) صدرت لك هذه الأيام متتالية قصصية بعنوان "احلمي يا سيدي" (2022). ما الذي تقولينه للقارئ العربيّ عن خصوصية هذا الكتاب؟ وما علاقته بالراهن الفلسطيني سياسيًا واجتماعيًا؟
المتتالية القصصية بعنوان "إحلمي يا سيدي" تروي حياة الفلسطينيين ما بعد رحيل منظمة التحرير الفلسطينية في 1982 عن بيروت، وفي الوقت نفسه لحظة الوصول إلى بيروت ولبنان عام 1948. وذلك من خلال حبلٍ زمنيّ غير مستقيم، ولكنّه مُترابط من خلال شخصيات عائلة أبو سكر. والزمن فيها مرن يعود إلى الوراء والمستقبل ثمّ إلى الحاضر. وقد عكس ذلك فهمنا مرات للزمن بالسردية التاريخية للنكبة، والتي تُشكّل بالنسبة لي نقطة أساس يقف عليها الزمن، لكنّها مع ذلك مُستمرّة باستمرار وجودنا كشعب على هذا الشكل.




تروي المتتالية عن حدود لبنانية ـ فلسطينية موجودة في لبنان، لكنْ غير الحدود الجغرافية. وتتّخذ من جهة شكل المخيم الفلسطيني، والتجربة الفردية والجماعية الفلسطينية من جهةٍ أخرى. كما تعمل على تقديم سردٍ آخر للقصّة المركزيّة الموجودة عن الفلسطينيين في لبنان، والتي تحدّ من وجودهم ودورهم في الحرب الأهلية، وترسم صورة نقيضة لصور الفلسطينيين المركزية والسائدة والمنتجة من الحلفاء، أو الأعداء، بعدما تتخطّى المواقع التي نزج فيها كضحايا، أو قنابل موقوتة، ولا تسمح لنا بأنْ نكون فلسطينيين. لذلك تقترح المتتالية للقارئ/ ة حرية كاملة في الأخذ بها، أو لا. أمّا الأهمّ بالنسبة لي فيتمثّل في إبراز الصوت الفلسطينيّ كما هو، من دون الأخذ بعين الاعتبار التعريفات التي يسقطها الآخر.
هكذا استعملت التاريخ والمعرفة الشفوية غير المركزيّة وغير المحورية البعيدة عن الرسميّة، كنوعٍ من إضفاء الشكّ على ما هو مُتداولٌ عن التجربة الفلسطينيّة في لبنان. أمّا في الراهن الفلسطيني، فأتمنى أنْ تتحقّق في الحالة التي يعيشها الفلسطينيون أينما كانوا، وهي عودتهم إلى الذات الفلسطينيّة، حيث نرى في آخر سنتين موجات منها وفي صُوَر جديدة، سواء انتفاضة الكرامة، أو انتفاضة العمل في المخيمات الفلسطينية، التي تدعونا إلى اجتراح مُخيّلة جديدة في العمل السياسي، وكسر الصور المتداولة عن الراهن الفلسطيني.


(*) لكنْ ما الدوافع الخفيّة التي تجعل من ناشطة سياسيّة ومجتمعية تطرق باب الكتابة السرديّة القصصية ومُتخيّلها؟
لا توجد أيّ دوافع خفيّة. رغبتي واضحة جدًا في إمكانية إظهار ما كان خفيًا عن الأعين، ومُحاولة إبرازه على السطح. على هذا الأساس، أطرح السؤال على نفسي أوّلًا: لماذا الكتابة السردية بمثابة حقل مفصول عن ممارساتنا السياسية والاجتماعية والرومنسية والذاتية واليومية؟ إذْ لا وجود لفرد أو جماعة بلا سرد، أو قصّة.
لكنْ وفق هذا المنظور نطرح سؤالًا آخر: هل القصّة هنا مُتشابكة مع الواقع أم لا؟ وهل هي أيضًا بمثابة قصّة ثانية تُستخدم لإخفاء قصّة أخرى؟ لذلك، كلّما استعملت الكتابة السردية الخيالية، فإنّي دائمًا أظهرها على أساس أنّه لديّ قصّة أخرى، تتوازى مع السردية المحورية اللبنانية، وأحيانًا كثيرة تكون فلسطينيّة في لبنان. وذلك بما يجعلنا نقوم بفحص الماضي اللبناني من وجهة نظرٍ فلسطينيّة أيضًا، وبالتّوازي مع "التخطي" اللبناني للحرب الأهلية، نجد أيضًا تخطّيًا فلسطينيًّا.
السرديّة القصصية جزءٌ أساسي من السياسة، أيْ ما تقوله أيُ جماعةٍ عن نفسها وغيرها. ثمّ ما هي القصّة المحورية، وما الذي تتمحور حوله، وعمّن تدور، ومن تُظهر، ومن تُخفي. كما أنّ استعمال الخيال كأداةٍ للشكّ في ما هو سائد يُعدّ جزءًا من السياسة والتنظيم السياسي ككلّ. لذلك أعتقد أنّ المُمارسة النسويّة علّمتني أن الخيال هو أرضٌ خصبة للتغيير، ولكنْ أيضًا الكتابة الأدبيّة هي أيضًا ممارسة جذرية، لأنها تقدم قصّة معينة مختلفة عن كلّ شيءٍ طاغٍ.


التاريخ الشفوي مصدرًا للتخييل




(*) إلى أيّ حدّ يُشكّل التاريخ الشفوي الفلسطيني، بثقله التاريخيّ، مصدرًا هامًّا في فعل الكتابة لديك؟ وما حدود التقاطع والتلاقي بين الكتابة القصصية والرواية الشفهية، بوصفها سردًا يستند على حكاية؟

شخصيًا، لا أرى التاريخ الشفويّ ثقيلًا، بل أراه خاصًا ومُميّزًا، من ثمّ أرى قوّة استعماله العام في فحص وفهم وربط ما يسقط من التاريخ الرسمي. لذلك أرى أنّ كتابة المتتالية قامت على أساس كيف نتعلمّ ونستشفّ تاريخ بيروت وتاريخ الفلسطينيين من خلال العائلة والأصدقاء. وهذا الأمر علّمني أنْ أرسم كارطوغرافية دقيقة للحيّز الفلسطيني في بيروت، وطوْرت عبر تاريخي الخاصّ هذه الكارطوغرافية وطرق استعمالها.




التاريخ الشفوي الفلسطيني، والنسوي، وغيره، يُعد مخزونًا هامًا، ومساحة مهمّة لاكتشاف ما يسقط وما يقمع وما يختفي في السرديّة المركزيّة، خصوصًا السرديّة الأبويّة القامعة بشكلٍ عامّ. إنّ التاريخ الشفوي الفلسطيني مصدر هام كي نُعيد خصوصية القصّة، بدل الاكتفاء بعموميتها، فالتقاطع بين التاريخ الشفوي وأسلوب الكتابة هو أرض تخصّ الأرشيف والذاكرة، وكلّ الحقول المُنشغلة بالتأريخ.


(*) بوصفك مُنشغلة بالحركة النسويّة، ما الصورة التي ترسمينها ككاتبة ومنظمة للحركة النسويّة العربيّة؟ وما الذي تغيّر على جغرافية المشهد السياسيّ، وما الذي تطمحون إلى تغييره داخل فلسطين ولبنان؟
لا أعلم إذا كُنت مُنشغلة حقًا بالحركة النسوية، فمُنذ عام 2019 وأنا في حالة استبصارٍ سياسيّ نسويّ. فهل الاستبصار هو وجهٌ آخر من أوجه التأمّل في صمت، وذلك في سبيل فهم التغيّرات الكثيرة التي شهدتها الحركات النسوية بأشكالها واستعمالاتها المُختلفة. وأيضًا التفكير في ما الذي تعلمته، وما أتعلمه، من خلال الاستبصار.
أحيانًا، أفكّر أنّه لو سلّطنا الضوء على المنطقة التي نعيش فيها سنرى مظاهر وأشكالًا كبيرة من العمل النسوي شديدة التنوّع، وتُرافق بندّية رهيبة كلّ الهبّات والثورات الشعبية، سواء زمنيًا (السودان)، أو قبلها. فقد طالعنا انتفاضة الكرامة مثلًا في فلسطين، أو صمود الخطاب النسويّ المصري، والذي يتعرّض لتفتيت ممنهج وقصدي من الدولة المصرية، وكيف ألهم المنطقة في فتح نقاشاتٍ صعبة وحقيقية عن العنف الجنسي، والممارسات الذكورية السامّة، والأماكن السياسية بشكل عام. وضمن هذه الأشكال والحركات، نعثر على مليون صوت ووجه ورأي، وذلك في تحد رهيب لنموذج النجومية الذي كان سائدًا منذ 10 سنوات. الأمر نفسه يتكرّر حاليًا، بعدما أصبحنا نرى خطابات وممارسات نسوية من منطقتنا موائمة أكثر للنظرة النسوية عن السلطة والقوة، وغيرها.




لذلك، فإنّ الأشكال المُتنوّعة من العمل النسوي الموجودة من الخليج إلى المُحيط أراها أيضًا بصورة مقاومة لأنظمة القمع في منطقتنا، وأعتقد حاليًا أنّ العمل النسوي مُقبل على تحدّيات يتقاطع فيها العنف، بين المجتمع والعائلة وعنف الدولة. وأرى أنّ الدولة والمؤسسات الدينية استوعبت أنّ الخطاب النسوي لن يترك منطقتنا، ولم تنجح معه أيّ محاولات "تغريب" الخطاب عن الثقافة. وبالتالي، هنالك عنف ممأسس أكثر، حيث غدا يظهر في تعامل الدولة مع النسويات، وأصبحنا نرى تكتيكات، مثل معاقبة أصوات نسوية معينة (رشا عزب في مصر، أو سلمى الطرزي) على دعمهن للناجيات من العنف الجنسي، في الوقت نفسه الذي تُحدّد فيه الدولة من خلال مؤسساتها الأجندة النسوية الجيدة، بالتوازي مع ظهور العنف المجتمعي على النساء كما هو، من دون خوفٍ حقيقي من "النسويات" يبث ويربط بالعائلة والذكورية. كل هذا على الأقل نراه أونلاين في مواجهات وخطابات ومعارك وتنظيم.


(*) في الكتابة الأدبيّة تتحرّر الذات عادة من كلّ شوائب الأيديولوجيا، من خلال الإعلاء من الجانب التخييلي لفعل الكتابة، مقارنة بالعمل الميداني، سيما في مجال يفرض رأيًا ونقدًا وجدلًا. كيف تعيشين هذا التعدّد في ذاتك بين الكتابة والعمل الميداني؟
يمكن أنْ ينطبق ما ذكرت على التوتر بين الأخلاق والأدب، بين الأيديولوجيا والأدب. أمّا كنسويّة، فلا أفترض أنّها هويّة، أو أيديولوجيا، بل هي مُمارسةٌ يومية وسياسيّة، وطريق تحرّري عبر ممارسة وبناء مساحات حرّة. وأعتقد أنّ المُمارسة النسويّة ساعدتني، كما كثير من النسويات، على استكشاف الطريق للتحرّر من كلّ شوائب الأبويّة، أو على الأقلّ فحصها وفهم وجودها وأشكالها في حياتي وجسدي. لذلك أفترض أنّ التعدّد بين ما يحصل في الحياة، وما يحصل في الكتابة، هو ممارسة غير مُتناقضة بين العمل السياسي وفعل الكتابة. إنّ الكتابة القصصية، أو الروائية، تمتلك قدرة على خلق نوعٍ من المُواجهة مع الأيديولوجيا، حتى "تنفخ" فيها الروح وتحييها من خلال خلق صورة حيّة عنها.


(*) كيف تفهمين وتُقيّمين طبيعة العلاقة بين الأيديولوجيا والكتابة؟ وهل يُمكن للأيديولوجيا أنْ تغني هاجس الكتابة وتجعله أكثر ذيوعًا والتصاقًا بالقضايا المُلتزمة؟
سؤال صعب ومُربكٌ كثيرًا. لأنّه يضعني على واجهة الشك في معنى "القضية الملتزمة". ففي كثير من المرّات أشعر أنّ الرقيب يأخذ القناع الذي اسمه الملتزم ليحد من استكشاف طرق أخرى لمناصرة قضية، سيما وأنّ فرض الذوق العامّ يُعد إشكالية كبيرة. لذلك أرى فرقًا كبيرًا بين "تحيّز سياسي"، و"فنّ مقاوم"، و"تحيّز أخلاقي"، حتى في قضية تحديد أوجه التعبير: هل نُقاوم أم نُعبّر؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.