محمد المشنوق شخصية لبنانية ــ عربية مرموقة. درس العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، ويحمل شهادة ماجستير في الصحافة من جامعة ستراسبورغ في فرنسا. برز في حيثيات الوقائع على المسرح الحياتي، ولعب في كواليس السياسة... كانت له مواقف ومؤلفات وأبحاث. هذا الحوار المُقتضب معه فيه سيرة، وفيه ملامح من مذكرات.
(*) محمد المشنوق المُتربّع على عقود من سنوات ومؤلفات في قضايا الإعلام، والتربية، وشؤون الإدارة، وتأسيس جمعيات، ووزير ذات مرة. المشنوق حاضر في ميدان العمل السياسي في العمق، ويتعاطاها بفاعلية، وإن كان يبدو خلف كواليسها. من أية نافذة تضيئ على تواريخ سنواتك تلك؟
إطلالتي على سنوات خلت، وبنوع من المراقبة، تجعلني أنظر إلى أعمال لها علاقة بالتربية، وبالإعلام طبعًا، وأكثر بالبيئة، لأنها منبع الصورة وجمال الطبيعة. كنت في الثامنة من عمري عندما قدّم لي والدي كاميرا ألمانية الصنع ماركة "زيس" تفتح مثل أكورديون، وما زلت أحتفظ بها. أول مشهد قمت بتصويره كان صخرة الروشة. وحاليًا، عندي خزان من الصور للبنان، والعالم العربي، وأرجاء من مناطق في العالم زرتها، بما يقارب الثلاثمئة ألف صورة، وبالديجيتال ما يفوق المليون، وعملت على أرشفتهم قدر المستطاع.
بدأت من هنا كي أقول في تقييمي للسنوات الماضية أن الحياة علمّتني في كل مرحلة من مراحل العمر، ومنها حضور الوالد المرحوم عبد الله المشنوق، الصحافي والسياسي، كنائب ووزير في حكومة الرئيس الراحل صائب سلام. لا شك أن لكل إنسان حياة يتطور ويتغيّر معها، وأحيانًا يعترف بمتغيراتها، وأحيانا يتفاجأ بها. لكنني أعترف أنني من جيل شهد الهزائم، وانهزم على الصعيدين المحلي والعربي. في لبنان عشنا مرحلة النمو السريع، ولكن من دون خلفية ثقافية، تربوية أهلية قوية، مما أدّى وأودى بنا إلى حالة مجتمعية من ثقافة القبول بالفساد. عندنا إشكاليات بالتربية، وإشكاليات في الإعلام. انتقلت التربية من التعليم إلى التعلُّم، وكانت في حاجة إلى تحصين أكبر في المؤسسات الرسمية والمؤسسات الخاصة، وفي المؤسسات التي أتت مع التبشيريين من الخارج، وأصبحت كليات وجامعات موجودة على الأرض. كل الأمور التي كنا في حاجتها لبناء مواطن صالح ومواطنية سليمة لم تتطور بشكل صحيح. كانت الجامعات الأساسية ست جامعات، والآن نمت كالفطر، مع شُبُهات التزوير. في إحدى المراحل كنّا الخزّان التربوي والتعليمي العربي. حاليًّا الوضع كتير فلتان بالبلد.
(*) ... وفي تقييمك لواقع الإعلام في لبنان، فهل حقيقة كان منارة حرية التعبير وحرية الصحافة كما يُقال؟
نعم، وكلا. للإعلام في لبنان تاريخ قديم، وكان يستند دائمًا إلى مرجعيات في العالم العربي. هنالك أسماء لصحافيين لبنانيين بمثابة مدارس في المهنة، ساهموا في نهضتها، وحرفيتها، وتطورها، منهم والدي الصحافي وصاحب جريدة بيروت المساء عبد الله المشنوق. كان مدرسة في مجاله، ومنه تعلمت كما سواي كثيرًا، واكتشفت أن الصحافة يمكنها أن تكون دولة، وتُسقِط حكومات، ولكن، وكما يقول المثل من أن "الشهية لا تأتي إلا مع مزيد من الأكل". والأكل هنا عندما دخل على الإعلام شيء سميّناه المحيط العربي للإعلام اللبناني. صار يقطف منه، ويساهم فيه ويشجع على انقلابات، ويحارب انقلابات وقيادات وصفناهم تارةً بالخيانة، وطورًا بالعظمة، ثم عملنا على تبديل رأينا الإعلامي بالخائن، فأصبح وطنيًا، أو العكس. أسأل نفسي لماذا أضعنا دورنا الإعلامي، مع احترامي لعدد من المؤسسات التي حافظت على مهنيتها.
(*) كأنما الثورة الرقمية المتمثلة بالفضائيات ووسائل الإعلام ووسائطه المتعددة والمتنوعة، والتي وصلت لكافة الشرائح الاجتماعية، وبأيدي كل مستويات شرائح المتعلمين وحتى الأميين، فهل أنها وعلى أهميتها، كأنها أطاحت "برصانة" مهمة الإعلام كرسالة ذات أفق حضاري؟
من مؤلفاتي كتاب اسمه "ثقوب الغربال" (2025 ــ 500 صفحة)، صدر قبل 24 عامًا، وقد ركّزت على التغييرات التي ستحصل. صدقيني لقد وصلنا اليوم إلى هذه الأمور التي حكيت عنها. لقد أعطيت فيه دورًا للإعلام والفضائيات في التأثير علينا، ولكن على هويتنا العروبية، وعلى ثقافتنا، وعقولنا، ومشاعرنا، وعلى فهمنا للأمور إن كانت فنية، أو اقتصادية، وفي كل الجوانب الجمالية أيضًا.
(*) وحاليًا، كيف تنظر إلى دور الإعلام اللبناني؟
في رأيي أن مشكلة الإعلام اللبناني هذه الأيام تكمن في صِغَر دوره. يعيش حالة التنافس على تأمين الإعلانات، وهذا عمل شعبوي. أما الانتشار الورقي فقد تراجع وبعضها أغلق، أو على الطريق.
(*) هل تشعر بالحنين إلى صحافة العصر الورقي أكثر؟
كلا. فأنا واكبت التطور التكنولوجي الرقمي بكل وسائله. أنا أقرأ على هاتفي كل الصحف والأخبار. والتطور الإلكتروني أجبر الصحف الورقية على أن تنشئ مواقع إلكترونية لمواكبة الخبر وآخر المستجدات، وهذا لا يحصل مع المطبوعة الورقية. أما عن إطاحة الثورة الرقمية برصانة الورقية فهذا يعود لانفلاش استخدامات الوسائل والوسائط الإعلامية والاجتماعية، وغياب القوانين الناظمة.
(*) أعود إلى السؤال عن الواقع الصحافي في لبنان خلال الخمسينيات وما بعدها من القرن الماضي، وعما إذا كان في مقدور ذاك الواقع تجنُّب أن يكون بعيدًا عما كان يحصل من تصادم في محيطه العربي؟
كلا، لم يكن في مقدوره الانعزال عما حوله. نحن جزء من هذا العالم العربي وقضاياه. المشكلة كانت في الذين كانوا يكتبون بقلمين متناقضين، وأنا أعرف عددًا منهم للأسف. قلم بالاسم الحقيقي، وقلم للاسم المستعار، لأنه كان يخضع للمطلوب منه. كلنا يعرف مقولة الرئيس الراحل شارل الحلو لدى استقباله وفد أصحاب المؤسسات الصحافية اللبنانية مخاطبًا إياهم: أهلًا بكم في وطنكم الثاني لبنان. أتذكر هنا الصحافي الراحل سليم اللوزي عندما زار مع وفد من أصحاب الصحف اللبنانية رئيس إحدى الدول الخليجية الصغيرة والغنية، حينها سألهم هذا الرئيس لماذا أنتم هنا؟ فأجابه اللوزي: جايين ندرس بالجامعات عندكم! هذه كانت إشارة إلى الهدف الأساسي للزيارة، وتتعلق بالدعم المالي. أنا هنا لا أسيئ لأي زميل، لأن أصحاب هذه المؤسسات رغبوا واستطاعوا تأسيس نجاح إعلامي مشهود له. بعضهم استمر، وبعضهم نقل البندقية، وبعضهم التزم الصمت.
العمل الصحافي لا تزال له قيمته
(*) هل كانت التدفقات المالية تلك التي دخلت وأُدخِلت إلى منارة الصحافة وحرية التعبير كبيرة؟!
نعم، كانت كبيرة جدًا. بعضها كان على شكل حسابات شهرية، أو سنوية، وتفوق ملايين الدولارات، وبعضها على شكل اشتراكات بأعداد بالآلاف من نِسَخ هذه المطبوعة أو تلك، وبعضها بالمباشر، أو النقدي.. كبيرة نعم. يمكننا التحدث كثيرًا عن الصحافة، وعن الأشخاص الذين كان لهم وزنهم ووجدوا أنفسهم في الإعلام، ولكن بعضهم كان لا يمكنه التمييز بين فكرة كتابة افتتاحية لبكرا، أو مجرد الكتابة للكتابة. أما النقابات الصحافية فقد كان لها دور أساسي، بالرغم من تعثرها في هذه المرحلة، وكان القرار بهكذا تركيبة من الرئيس سعد الحريري، إضافة إلى أن شهوة التنافس لهذا المركز تراجعت. كانت نقابة الصحافة موئل احتجاجات وخطابات. والإعلام كان فقط بيد الدولة، والأخبار التي يتم نشرها عبره كانت مدوزنة، من هنا لعبت الصحافة المكتوبة دورها، وفتشت عن تمويلها، وكان عربيًا خاصة، ويجب أن لا ننسى أن تأمين أسواق عربية لهذه المطبوعة وتلك كانت بالغة الصعوبة، وتخضع لشروط الدولة العربية التي تريد هذه المطبوعة الانتشار عند قرائها. هنا حصل الالتزام، وكان التزامًا دائمًا، لكنه أدى في بعض الأحيان إلى استزلام لهذا النظام، أو ذاك. كان يحصل اشتباكات بين الصحف نفسها وفقًا لانتماءاتها. فهذه مطبوعة ذات ميول ناصرية، وتلك بعثية عراقية، أو بعثية سورية، وهذه بتوجهات فلسطينية، أو بارتباطات غربية أجنبية. كانت الصحف أحيانًا تتأخر بالطباعة ربما لنقص في التمويل، أو لأسباب معينة، فكان الموزعون يتجمهرون أمام مكاتب هذه الجريدة وتلك في انتظار الحصول على النسخ لبيعها، لأنها كانت مصدر رزقهم. اليوم تراجعت مبيعات الصحف المطبوعة، وكلنا يعرف أزماتها.
وأكاد أجزم أن أهم شيء يمكننا قوله هو أن الصحافة اللبنانية في العالم العربي فرضت وزنها وقيمتها وأهمية دورها، وما تصفيات واغتيال البعض منهم إلا دليل على هذه الأهمية، وانزعاج الأطراف منهم. كانت كتابة المقالة نتاج ميول، وميول الكاتب كانت تضعه تحت المجهر. فالصحافة لم يكن لديها مرجعيات، وكانوا يبتكرون خططهم. وأعطي هنا مثالًا عن الراحل طلال سلمان، وكيف استطاع تحقيق نجاح جريدة السفير وقد عملت فيها، ونجح بعمل دؤوب ومضنٍ وإبداع، وتعرّض للاغتيال.
العمل الصحافي ما تزال له قيمته، وإن شهد تراجعات فرضتها تغيرات لم يلمسها المجتمع إلا مكرهًا ومتأخرًا. وفي هذه الفقرة، أود أن أشير إلى أنه بعد انقضاء فترة رئاسة شارل الحلو حصل نوع من اندلاق كبير في ضخ الأموال والاستفادة منها. وهذا ما جعل والدي يغلق جريدته بيروت المساء، لأنه رفض عروضًا مالية كانت تنهال على الساحة اللبنانية.
(*) ما هو الخبر الذي هزّك، إن كان على صعيد شخصي، أو على صعيد سياسي؟
عندما تلقيت نبأ وفاة جمال عبد الناصر، شعرت كقومي عربي وناصري أننا فقدنا هذا القائد الكبير. كانت صدمة شخصية وسياسية، ربما لأن الوفاة حصلت وكنّا ما نزال في أجواء هزيمة الـ67. التقيته مرة واحدة في الشام مع والدي. والدي كان من أصدقائه.
(*) وماذا عن فلسطين وقضيتها وشعبها في مواجهة المشروع الصهيوني؟
الشعب الفلسطيني عانى الظلم الفظيع من الاحتلال الإسرائيلي قتلًا ومذابح وتهجير، لكنه عانى الظلم أيضًا من ذوي القربى من إخوانه العرب الذين ساعدوه في البداية، لكنهم راحوا يعملون على كيفية التخلص منه ومن قضيته. أنا أقول ذلك بكل وضوح. وهذا يذكرني بكتاب فرانز كافكا "التحوُّل"، ذاك الذي استفاق صباحًا فوجد نفسه وقد تحوّل إلى صرصور بحجم السرير، مما أخاف أهله، وكيف سيفعلون به بعيدًا عن الأعين، وكيف عليهم التعاطي والتفاهم معه، وكيف سيأكل، ويتكلم، ثم بدأوا يخجلون به، ففكروا بكيفية التخلص منه، ولكن أية وسيلة نقل يمكنها أن تحمله؟ أورد هذا التشبيه ويحز في نفسي ذلك، وكي أقول إننا اليوم نفتش عن طريقة للتخلص من الشعب الفلسطيني، وهؤلاء من الصهاينة، ومن المسيحيين المتصهينين، ومن المسلمين المتصهينين. كلهم يعملون على حماية إسرائيل. في حين تتعرض غزة للإبادة.
(*) ... ولبنان بما يعتوره هذه الأيام من لا تفسير، بماذا تشبهه؟
يشبه بوسطة، لا سائق لها ولا فرامل تلجم "فلتانها"، وركابها بكامل أناقتهم ويعرفون ذلك، ولكن لا يجيدون القيام بمهمة السائق.
(*) للبوسطة في تاريخ لبنان سيرة مشؤومة شكّلت بداية حرب أهلية استمرت 15 عامًا، وأعني بوسطة عين الرمانة.
وهناك أيضًا "ع هدير البوسطة" للسيدة فيروز!
(*) سأختم بسؤال، مع أن الحوار معك يحتاج إلى كتابة سيرتك الغنية: هل كنّا نعيش أوهام حرية في لبنان ممثلة ببيروت. بيروت التي أنْهَضَها أدباء وشعراء عرب مطاردون من بلدانهم لغياب الحريات فيها، وأسبغوا عليها هذا البعد الثقافي المديني/ الحضاري، خاصة في ستينيات القرن الماضي، ومع ما نعيشه اليوم بما لا يغني ولا يثمن من هذا الشوق للجوع الحضاري؟
كتير حلوة. لبيروت في قلبي قصة حب لا تنتهي. كتبت عنها كتابين. بيروت تمثّل كل لبنان، بكل ثقلها الإنساني، وتنوعها الكامل.