خارج الوقت
عدنية شبلي
12 يناير 2015
إنها ساعتي الصغيرة هي أولُ مَن يلمس التغييرَ الناجمَ عن الخروج من فلسطين أو الدخول إليها. في الطريق إلى هناك، ألمحها في رسغي تحصي الوقت بالثانية، بانتظار اللحظة التي تطأ فيها عجلاتُ الطائرة مدرجَ المطار، فأضبطها حسب التوقيت المحلي وتنطلق هي تعدّه بأُلفة متناهية. وما إن أخرج من فلسطين، حتى أجدها تتقدّم من غير لهفة، تتأنّى في وداعها إياه، ذلك الوقت الذي سينتهي لحظةَ هبوط الطائرة فوق أرض مطار غريبة.
قد يبدو للبعض أنني أبالغ قليلًا في ما أروي عن ساعتي، خاصّة أنها ساعة صغيرة، كثيرًا ما يستغرب الناس كيف يمكنها أن تدلّني على الوقت بالأساس، لشدّة ما هي صغيرة. بل أمكنني، أنا أيضًا، مشاركتهم شكوكهم لولا أنني لم أعرف كلّ ما بتّ أعرفه عن الساعات وما لديها من قدرات.
كان ذلك في فترة دراستي الابتدائية، خلال إحدى حصص الأدب العربي. كان منهاج التدريس آنذاك، كما لا يزال حتى هذه اللحظة، خاضعًا لمكتب الرقابة الإسرائيلي، فكانت تدرّس نصوص أدبية من شتّى الدول العربية ما عدا فلسطين، تحسبًا لما فيها من إشارات أو حتى إيحاءات قد تثير وعي الطالب بقضية فلسطين. وهكذا تمّ عدّ الأدب الفلسطيني أنه من المحظورات، إن لم يكن من المحرّمات، مثله مثل الأدب الإباحي، ما عدا قصة واحدة : قصّة "الساعة والإنسان" للكاتبة سميرة عزّام، التي يبدو أن مكتب الرقابة عدّها قصّة "غير ضارّة".
تحكي القصة (1963) عن شابٍ يستعدّ للنوم قبل أوّل يوم عملٍ له على الإطلاق، فيضبط منبه ساعته عند الساعة الرابعة صباحًا كي يصحو في الوقت المناسب ليلحقَ بالقطار الذي سيوصله إلى مكان عمله في الموعد المحدّد. وما يكاد ينطلق رنين جرس المنبه في فجر اليوم التالي، حتّى يسمع صوت قرعٍ على باب بيته. حين يفتحه الشاب يجد أمامه رجلًا مسنًا لم تسبق له رؤيته؛ كما لا تسنح له الفرصة لسؤاله عمّن يكون، إذ إن الأخير سرعان ما يستدير مبتعدًا ليختفي في عتمة الفجر. ويتكرّر الموقف ذاته يوميًا لدرجة يتوقف معها الموظف الشاب عن ضبط ساعته. وليس إلا بعد مرور أشهر عديدة حين يكتشف هوية الطارق، بعد أن يخبره زميل له في العمل بأن ذلك الطارق يدور يوميًا على جميع الموظفين في الشركة ليوقظهم في الوقت المناسب، كي لا يتأخّر أي منهم عن موعد انطلاق القطار، فيلقى المصير الذي لقيه ابنه حين بلغ المحطة ذات صباح متأخرًا، بينما كان القطار يوشك على التحرك، فتعلّق ببابه، لكن يده خذلته وسقط بين عجلات القطار.
للوهلة الأولى قد تبدو هذه القصّة عادية و"آمنة"، خاصّة للرقيب. إلا أنها، في الواقع، ساهمت في بلورة وعيي بما يتعلّق بمسألة فلسطين كما لم يفعل أي نصّ آخر في حياتي. أكان هنالك ذات يوم موظفون فلسطينيون ينطلقون كلّ صباح إلى محطة القطار للذهاب إلى أماكن عملهم؟ أكانت هنالك محطة قطار؟ أكان هنالك قطار يصفر؟ أكان هنالك حياة "عادية" ذات يوم في فلسطين؟ وأين هي اليوم؟
راح النصّ يومها يحفر في نفسي إحساسًا عميقًا بالفقدان لكلّ ما هو - بما فيه المأساوي- عادي وسويّ، لم أعد قادرةً معه على تقبّل الحياة المهمّشة والثانوية التي نفينا إليها بعد العام 1948، حيث لم يعد وجودنا يعدو كونه "مشكلة".
مقابل قصّة تلك الساعة وما أوحت إليّ به عن إمكانية تعدّد أشكال الوجود، هنالك ساعتي الصغيرة. وساعتي هي أشبه ما تكون بالرجل المسنّ في قصّة عزام منها بساعة سويسرية جلّ اهتمامها حساب الوقت بدقّة. فعلى خطى ذلك الرجل الذي تحوّل من إنسان إلى ساعة ليصبح العيش محتملًا، قرّرت ساعتي أن تتحوّل من ساعة إلى إنسان.
في فلسطين، كثيرًا ما أجدها قد توقفت عن الحركة تمامًا. فجأة تدخل في حالة من الغيبوبة لا تعود معها قادرة البتة على حساب الوقت. في آخر مرّة كنتُ هناك في زيارة، ضبطتها كعادتي وفق التوقيت المحلي لحظة مسّت عجلات الطائرة أرض مطار اللد. كانت الساعة عندها الثانية إلا عشر دقائق بعد الظهر. اتجهت نحو نقطة فحص الجوازات، وكان عدد الواقفين في الطوابير قليلًا على غير العادة، وراح طابوري بدوره يتقدم بشيء من الانسياب. وصلت وأعطيت جواز سفري للشرطية، وتأخّرت هي في فحصه، ثم تأخّرت أكثر. فجأة ظهر ثلاثة أشخاص، موزعين بين أجهزة أمن وشرطة ومخابرات، واصطحبوني معهم خارج الطابور، لتبدأ بذلك سلسلة طويلة من التحقيق والتفتيش. وقد جرى كلّ شيء كما هو معتاد في مثل هذه الحالات: تحقيقٌ كامل عن حياتي وتفتيشٌ شامل لأغراضي. بعدها تمّ اصطحابي إلى غرفة جانبية لإجراء تفتيش لجسمي. وبينما أخذت سيدة حذائي وحزامي للفحص بواسطة جهاز الأشعة، بقيت أخرى مع ساعتي، حيث حملتها بين يديها وشرعت في تأملها بتفانٍ وإخلاص. بعد لحظات نظرت إلى ساعتها، ثم عادت تنظر إلى ساعتي. ثم مرّة أخرى إلى ساعتها، ثم إلى ساعتي. عندما عادت السيدة الأولى بصحبة بقية أغراضي، أسرعت هذه نحوها لتخبرها بأن هنالك شيئًا غريباً في الساعة، إنها لا تتحرك. لقد مرّ حسب ساعتها خمس دقائق، بينما ساعتي لم تتقدّم دقيقة واحدة. نادت السيدتان مسؤول الأمن، فيما أخذت دقات قلبي المضطربة تقرع صدري بشدة.
لا أدري كم من الوقت مضى قبل أن تُزال جميع الشبهات حول ساعتي، فحولي، وتمّ إطلاق سراحنا. لكنني حين وصلت إلى البيت اكتشفت أنها كانت التاسعة ليلًا، بينما ساعتي ما زالت تشير إلى أنها الثانية إلا عشر دقائق. هي يبدو مجرد تحاول أن تواسيني عبر إيهامي بأن كلّ ذلك التفتيش والتأخير دام صفرًا من الدقائق. كأن شيئًا لم يكن. أو ربما هي فقط ترفض حساب الوقت المسلوب من حياتي لصالح ما هدفه أن يبعث اليأس في نفسي. نوع من تعليق الوقت كوسيلة للاحتيال على وقت الألم.
وأمام هذا التقاعس عن حساب الوقت في فلسطين، خارجها لم تكفّ عقارب ساعتي ولو مرّة واحدة عن التحرّك. أجدها لا تتأخر عن حساب أي ثانية من الوقت الآخر، بل كثيرًا ما تحسبه أسرع من اللازم، فتروح تبدو وهي تجري مستعجلة كما لو أنها تنفضه عنها لحظة تلو الأخرى، هذا الوقت الآخر، واللحاق بوقت فلسطين.
هكذا، سواء أكانت تلك سبع ساعات أم صفرًا هي التي تُبعدها عن فلسطين، الأمر سيان بالنسبة لساعتي الصغيرة التي ليس إلا لسلواني، تقودني إلى خارج الوقت أينما حللت.