جلس الخيميائي، بعد ظهر المحاولة،
يتأمل في مخلوقاته العجيبة: كانت مصفوفة من دون ترتيب، كما في الصناديق الخلفية قبل العرض المتحفي.
ليست لها سيرة ليعرفها، ليبسطها فوق طاولة المجالسة، مثل وثيقة الخبرات، وثمار الوعد. مع ذلك، يقوى على الوقوف، على التجوال، من دون إرباك أحد.
كان ما يتحسسه معها، بمجرد وقوع نظره عليها،
أقرب إلى لقاء أول، بالصدفة، من دون إشارات لازمة تدله على هذا، أو ذاك.
ما جرى بينه وبينها كان من قبيل الملاطفة، ما توددَ به إليها، ما رأى في أصابعه من امتداد الملامسة.
يقوى الخيميائي، أحيانًا، على التذكر، على التنبه إلى ما كان يقع في طرف العين، في البريق الخفي.
قد يجدها في المقهى، قد تبتسم له، قد تَقبل بمجالسته، لكنها لم تكن لتواعده، لا هو ولا غيره، إذ تكون، في صمتها، تنفرد بحيوات الكِتاب الذي بين يديها، بتصفح الوجوه المتدافعة التي تبصرها في لمعان القطار المسرع في جذوة الحروف.
هذه ليست بمخلوقات. لعلها أشكال. لعلها صور من بريق. لعلها ما يطير، من دون أن يلتفت إلى خلف. لعلها تحطّ هنا وهناك، لكنها لا تلبث أن تطير من جديد أمام نظر الخيميائي الملتاع.
ما كان في متناوله،
ما بات في مستطاعه،
في تلك الرغبة التي له،
أدرك أنه يشعّ في العناصر المتباعدة:
تتقارب، تتباغض،
بقوة المغناطيس التي تجعل البعيد يعدو، والمختلف يتجانس في باقته،
في تلك الزحمة التي يستفرد بها، أو يخلطها، أو يؤالف بينها: الخيميائي.
لا الأصفر يستكين في ابتعاده،
ولا الوبر ينزع الضجر من كنزة الوقت...
بينما يتردد الكريه على الفاتر، وتتودد السلحفاةُ من أرجوحة الاستعارة، في اصطفاق النجوم بالنجوم، في ذلك الشرر الباهر من بعيد.
يا هذا الجَمَلُ القابل للعبور في ثقب إبرة،
تمهلْ في رفع الهودج والحداء وما نساه امرؤ القيس قرب غدير القصيدة...
تَقدمْ مِما يصعب قبوله،
من الهاوية أو من المقعد الهزاز في شرفة الهاوية،
تقدمٌ بذات الالتماعة التي تزهر في أصابع: الخيميائي.
ما ينتظرُه الخيميائي، يوافيه في مشغله.
ما لا يخيطه الخيميائي، ترتديه العبارة من تلقاء نفسها.
يتباسط في الكلام مع من لم يألف زيارته،
من دون أن يصبح جارًا له.
الخيميائي وحيد، لا يأنس بما تَكوّر بين يديه، مثل نحات في حفيف الملامسة.
الخيميائي لا يُحسن كتابة مذكراته، ولم يُعدّ دفاتر خبرته في أمثولات متتابعة،
إذ إنه ممتد، سائل، خفيف، لا ينشغل بغير ما بين يديه: مستغرق فيه، حتى إنه يبصر الإبرة الملقاة في قش المحاولة.
لا شاهدَ عمّا جرى بينه وبينها. لا تسجيل، ولا وثيقة.
بل قد ينتهي الخيميائي إلى أن يكون شاهدَ زور على فعلته؛ يدّعي بما ليس له، وينافح من دون صدى: التي خرجت بوردتها، مثل قلم النجار خلف أذنه، لم تلتفت إليه عندما ناداها، عندما رَدّدَ على مسامعها أنه ـ وحده ـ من يعرف سبب إقدام النجار على فعلته هذه...
أبقى السبب في ظنه من دون أن يستمع إليه أحد ممن تدافعوا لتشمم الوردة المختالة خلف أذن تعاليها.
لم تكن خيبة الخيميائي لتثنيه عن هوس التجربة تلو التجربة، عن استعادة الملاطفة التي لأصابعه في إغواء العناصر المتباعدة.
لم تكن له أوانٍ للدموع، إذ إنها أوان الورود التي تأتلق بنضارتها على الرغم من خروجها من حديقتها الحانية.
ليس له أن يندم، ما دام الشغف عينه، الذي لامرئ القيس في وحشته، يشاغلُه في الليل كما في الواحة، في تعقب الهمس الليلي، أو غوايةِ الحركة التي لحصان القصيدة...
ليس له أن ينسى.
أن يدلل على بقاياها من دونها.
أن ينتقم من جحودها.
ليس له أن يشكو منها... لها.
ليس له غير ما يُعلقه فيها،
مثل عصا الترحال
أو غواية الشريد،
ما دام أنه أمير في هيئة صعلوك.
يستنزل الخيميائي القلم، والوردة، ووليمة الغدير، والجَمل، والشرفة، والعبارة، وغوايةَ الشهيةِ في مشيتها... يَنتخبها بنفسه من دون مشورة أحد، من دون تكلفة من أحد.
هي طينُه وألواحُه، عجينُه وخبزُه الطري، شواؤه وطَعمُ الهناءة في غديرها.
هي ما يُديره في فمه، ما يذوقه بطرف لسانه، مثل صانع النبيذ، من دون أن يبلعه.
الخيميائي وحيد، منهك، يناجي الخافي، ويتقرب من البعيد.
إذ يَخرج من مشغله، يقترب ويؤنس ويوشك... ما لا يتاح لغيره في غمار التعالي. ما يبيح له العبث واللعب والتودد من دون إقلاق أحد.
كما لو أنه ـ وحده ـ
يغافل العناصر في سكينتها، يواعدها من دون خيانة، أو توبة، ويتيح لها خفة الفراشة، أو عزم النسر، إذ يقوى الخيميائي ـ وحده ـ على رؤية العناصر من فوق، وعلى المضي بها إلى حيث لم تألف الإقامة أو المساكنة: معها، من دونها، مثل امرئ القيس في هذه القصيدة.