}

سوريون في هولندا

هيفاء بيطار هيفاء بيطار 3 سبتمبر 2021
يوميات سوريون في هولندا
(أحمد معلا)

 

زرت أمستردام وعدة مدن هولندية، مثل إيمين، لألتقي أصدقاء سوريين أعزاء يعيشون لاجئين في هولندا، بعد معاناة طويلة شاقة، يصح بلا مُبالغة أن نسميها رحلة درب الآلام. فكيف يعيش السوريون اللاجئون في هولندا وما حقيقة مشاعرهم؟ وأي مستقبل ينتظرهم؟ وأيه علاقة أصبحت تربطهم بالوطن الأم سورية الذي لم يتخيلوا يومًا أن يضطروا إلى مغادرته بعد أن تحول الوطن إلى ساحة حرب ودمار ومقبرة جماعية.

التقيت عدة أسر سورية في هولندا معظم أفرادها من حلب، وغالبيتهم في عقدهم الخامس (بين 45 و55 سنة) ومعهم أولادهم الذين يقصدون مدارس خاصة لتعلم اللغة الهولندية، تحدثت إلى الأطفال الذين أظهروا تأقلمًا "إيجابيًا" مع ظروفهم الجديدة، إذ شعروا بما افتقدوه في سورية: الإحساس بالأمان، لم يخف عني حنينهم إلى أصدقائهم في سورية وإلى الحارة والمدرسة والجيران، لكن المناخ الحضاري وإحساس الأمان واهتمام المدرسين بهم وبذل كل جهودهم ليندمجوا في المجتمع جعلهم سعداء ويشعرون بطفولتهم ومراهقتهم بشكل صحي. لم أستطع منع نفسي من الإحساس بغصة قهر وأنا أرى أن أطفال سورية وتلامذتها ما عادوا ينتمون إليها، بل أصبحوا كمن يغير جلده بالتدريج ليصير إنسانًا آخر، والكثير من كتبهم ودفاترهم المدرسية مزينة بعلم هولندا. وحين سألتهم عن سورية واشتياقهم لوطنهم، نظروا إليّ نظرة شاردة حزينة، دون أن يقولوا شيئًا، نظرة تعني أنه لم يعد بإمكانهم العيش في سورية وذاكرتهم مزدحمة بكل أشكال العنف الوحشي والإجرام الذي يعجز طفل عن تصوره.

سيكون جيل أبناء السوريين هولنديا بامتياز، فالمدارس مجانية، والرعاية الصحية ممتازة ومجانية، كذلك النشاطات الثقافية والاجتماعية، والفنية، طفل سوري لا يتجاوز عمره تسع سنوات حكى لي السيرة الكاملة للرسام الهولندي فان غوخ، وأراني ألبوم الصور البديعة له. لم يكن ابن السنوات التسع السوري مجرد معجب برسوم فان غوخ بل كان يشعر أيضًا بالانتماء إلى وطن بديل أعطاه الإحساس بالأمان وأمن له المدرسة التي حُرم منها أكثر من 60 بالمئة من أطفال سورية، وإحدى المراهقات السوريات من حلب حين سألتها: ألا تشتاقين إلى حلب؟ قالت: أشتاق إليها كما كانت آمنة وجميلة، أما الآن فلا أفكر بها أبدًا، بل أحاول أن أنسى كل صور الدمار والقتل فيها. من يمكنه أن يلوم تلك الصبية على أحاسيسها.

أما جيل الآباء، جيل منتصف العمر، فيدفنون الجرح عميقًا في قلوبهم ويتظاهرون بالتأقلم مع الواقع الجديد من أجل أولادهم، هم بدورهم تحولوا إلى طلاب، رجال ونساء في الخمسينات أو الستينات من عمرهم، كانوا يعملون في سورية أطباء ومهندسين ومدرسين، وكانوا يشعرون بذاتهم وبمتعة المساهمة في بناء وطن، وجدوا أنفسهم وهم على أعتاب سن التقاعد طلابًا عليهم رغما عنهم أن يصيروا طلابًا ويتقنوا لغة بلد النزوح الذي استقبلهم، الحكومة الهولندية أعطتهم سنتين لإتقان اللغة، اندماجهم مع المجتمع سطحي وشكلي، إحدى السوريات قالت لي إن الشعب الهولندي لطيف جدًا وبأنه متعاطف مع السوريين وبأن بعض الهولنديين يبكون تأثرًا حين تقول لهم أنا من سورية، إذ أصبحت سورية مثال النكبة والوجع والألم، أصبح السوري يثير الشفقة والدموع لدى الغرباء الآمنين في بلادهم.

أي وجع مُهين وبالغ الصعوبة أن يجد إنسان في منتصف العمر نفسه مطرودًا من بيته الذي غالبًا تحول حطامًا، ومن عمله ومن شغفه بالمقهى الذي كان يرتاده مع أصدقائه في مدينته، أي وجع أن يجلس هؤلاء السوريون النازحون مع بعضهم ينفثون مع دخان الأركيلة أشواقهم وأوجاع روحهم إلى وطن طردهم من جنته لأن الشياطين استوطنته وحولته جحيمًا، كل أحاديثهم تدور حول حياتهم وحنينهم للوطن، يحاولون عبثًا تعزية أنفسهم بشتى أنواع الأوهام والآمال، يتأملون أن تهدأ الحرب والإرهاب في سورية، عارفين أن آمالهم صعبة التحقيق، يعزون أنفسهم أنهم نجحوا في اختيار حياة آمنة لأولادهم وتأمين مستقبل لهم، لأن لا أمان ولا مستقبل في سورية، بل دمار يومي وقتل يومي ونزيف مستمر حتى تحولت أرض سورية إلى بحيرة من دماء وجثث أبنائها.. كل محاولات اندماجهم في المجتمع الغريب الجديد تنتهي بدموع يبتلعونها للداخل وحرقة شوق لوطن ما عاد بالإمكان العيش فيه، إحساس الأمان الذي يعزون نفسهم به ومستوى المعيشة الراقي حيث لا تنقطع الكهرباء ولا الماء والطبابة المجانية، حتى توفر الأطباء النفسانيين لمساعدتهم على الاندماج في المجتمع، كل تلك المُعطيات تتلاشى أمام عاصفة حنين وشوق لوطن، لأن الوطن هو أبناؤه، لأننا نحن الوطن. بعض النازحين عجزوا عن تحمل الحنين اللاذع للوطن والابتعاد عنه فقرروا الرجوع رغم الجحيم السوري. كيف يمكن أن يعيش الإنسان خارج جلده؟ كيف يمكنه أن يزرع نفسه في تربة ليست تربته؟ كمن يريد أن يزرع ورده في صحراء! يكفي تفصيل صغير كي يبكي أصدقائي السوريون النازحون، بكت صديقتي حين قلت لها إن موسم العناب كان رائعا هذا العام، تجسد الوطن للحظة في ثمرة العناب الشهية التي لها لون دماء الشهداء والسوريين الذين يموتون يوميًا بكل أشكال القتل الوحشي من الساطور والسكين والبراميل المتفجرة حتى الموت غرقًا وغيظًا.

تركت أمستردام ساحرة الجمال وتركت هولندا الآمنة بقلب ثقيل من الألم والقهر على أصدقائي السوريين النازحين، فحالهم صعب وغربتهم قاتلة، والأمان الذي يشعرون به يعوم على بحيرة من دموع الشوق والحنين للوطن الأم، سورية الأم الثكلى. سورية الوطن الاستثنائي الذي صار قربه عذاب وبعده عذاب كأنه ابن مُعاق.


مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.