قد نتخيّل أن رصاصة ثقبت القلب وأحدثت فيه ثقبًا، لكن حين انتشرت قصة المُجنّد الشاب الذي فقد عينيه في الحرب السورية، إضافة إلى إعاقات عديدة، أحسست كذلك أن ثمة ثقبًا في القلب أصابني، لأن الشاب الذي أصبح أعمى هو في عمر الورد، مع إعاقات عديدة انتشرت بشكل كبير في سورية وقرأها على وسائل التواصل الإجتماعي ناس كثيرون.
بداية لا بد من التأكيد أن هذا الشاب السوري المُجنّد يُمثّل آلافًا من الشبان السوريين المُجنّدين الذين تحوّلوا إلى معاقين بسبب الحرب، وقد تكون حالتهم الصحية وظروفهم أصعب من الشاب إياه وهو من قرية الدالية. ومن الضروري أن أذكر بأن المُجنّدين ممنوع أن يطلبوا السفر إلى لبنان أو الأردن أو غيرهما من البلدان للعلاج!!! علاجهم حصري في سورية ولا تتوفر كل طرق العلاج في سورية وكذلك الأدوية. زوجة الشاب المنكوبة أخذت على عاتقها أن تستلم المُساعدات التي تُقدّم لزوجها، والمفارقة أنها لن تستلم المساعدات في الدالية (أظن انتقلت وزوجها إلى اللاذقية) بل عليها أن تسافر إلى حمص ذهابًا وإيابًا لتحصل على المساعدات (هدر الوقت المثالي في سورية). تلك الصبية مكسورة القلب (ولديها ثقب في القلب ليس بسبب رصاصة، بل من الذل والقهر والخوف) تجرأت وقالت: والله أنا لا أطمع بالكثير... لا أريد مساعدات سوى سكر وبرغل ورز وزجاجة زيت! لم تجرؤ أن تطلب لحمًا أو سمكًا أو خضارًا أو فاكهة، فهي سلفًا تعرف- في نفسها المسحوقة منذ ولادتها- أنه يستحيل طلب ما تكتفي بالحلم به. وسافرت إلى حمص نيابة عن زوجها لتستلم المساعدات، وطبعًا كان هناك طابور من نساء المعاقين أو من المعاقين أنفسهم ينتظرون المساعدات.
باختصار تخيّلوا المساعدة التي حصلت عليها زوجة المُجنّد الأعمى والمعاق الشاب: بيدون بلاستيكي للماء، لكنه مثقوب!!!- أي لا يحتفظ بالماء - وصدقًا حين قرأت عن البيدون المثقوب أحسست تمامًا بثقب في قلبي، ثقب أحدثته سنوات من القهر والذل والخوف والرعب من، والإحساس بالدونية... ترى هذه الزوجة الشابة التي استلمت مساعدة بيدون ماء بلاستيكي مثقوب لماذا لم تفقد صوابها؟ لماذا لم تصرخ محتجّة وغاضبة حتى تتمزّق حبال حنجرتها؟ لماذا لم تمزّق ثيابها وجنّت!! لأن سفرًا طويلًا للحصول على مساعدة لمجنّد معاق تكون بيدون ماء مثقوب.
هذه الحادثة تصلح لفيلم وثائقي صامت لا تتجاوز مدته دقيقة، لكن هذه الدقيقة كافية لتكثيف وكشف عقود طويلة من الذلّ السوري والقهر والموت النفسي والجسدي. المسيح على الصليب قدّموا له حين قال: أنا عطشان، إسفنجة فيها خلّ وبعض الماء. المُجنّد الذي أهدى عينيه في سبيل وطنه بخلوا عليه واحتقروه بإعطاء زوجته "بيدون مثقوب". كل شيء في حياتنا مثقوب ومعطوب، الفساد ثقب كل مظاهر الشرف والأخلاق. فساد متشرش في كل مؤسسات الدولة؛ أعرف الكثير من الشبان المُجنّدين أهلهم أغنياء، يبقون في البيت عند أهلهم لا يحملون بارودة، لكن الضابط المسؤول عنهم يريد رشوة ضخمة كل شهر، رشوة بالملايين. وهناك الفساد العلمي حيث طُرد أكثر من تسعة عشر أستاذًا جامعيًا من جامعة تشرين في اللاذقية لأنه ثبت عليهم بيع الأسئلة للطلاب (منذ سنوات). العقوبة كانت فقط فصلهم من التدريس في الجامعة، لم يتأثروا إلا قليلًا لأنهم يعملون في عياداتهم الخاصة.
احتقار وإذلال المواطن السوري ليس صدفة على الإطلاق، إنه نهج مدروس جيدًا يؤكد أن تطبيقه سوف يمسح كرامة المواطن كليًا - كما لو أنك تدوس حشرة بقوة حتى تلتصق بالبلاط. أسمح لنفسي أن أعطي مثالًا؛ ففي 2010 و2011 طلبت مني السيدة الرائعة سمر شمة (كانت مُعتقلة سابقًا) أن أقدم برنامجًا ثقافيًا ويهتم تحديدًا بقضايا النساء، كنت لا زلت موظفة في المشفى الوطني وفي عيادتي الخاصة، كما أنني أسكن اللاذقية، والبرنامج سيُقدّم في الفضائية السورية، لكن سمر التي تتمتع بأخلاق عالية وعناد وتصميم قالت لي: لماذا تلفزيونات مصر تخصص برامج ثقافية يُقدّمها أدباء وشعراء ونحن في التلفزيون السوري لا نملك أي برنامج ثقافي؟ وهي رأت فيّ ما لم أره في نفسي، أقنعتني أنني أملك كل المؤهلات لأقدم هكذا برنامج وأسافر إلى دمشق ليومين، أصور وأجري حوارات مع عدة أشخاص مهمين (أذكر منهم الرسامة المبدعة عتاب حريب، والروائي العراقي علي بدر، والمحامية حنان نجمة، ورجال دين... إلخ). كنت أدخل الأستديو في السابعة مساء وأخرج الثانية فجرًا، ولا أنكر أن سمر كانت تساعدني في إعداد الحلقات، وكان عنوان البرنامج "نون"- أي نون النسوة. سجلت حوالي 12 حلقة عُرضت منها اثنتان فقط، ولم نعرف أبدًا لماذا لم تُعرض بقية الحلقات. أذكر كم كنت متحمّسة لنجاح البرنامج، ولأن التلفزيون السوري سيقدّم برنامجًا ثقافيًا وأنا أعشق وطني، وأحسست بالفخر. لم أكن أعلم أنه ممنوع أن تشعر بالفخر، بل مسموح لك فقط وبالتأكيد أن تشعر بالذل والقهر و"بثقب في القلب".
الأمر نفسه تكرّر في فيلم "هوى" المأخوذ عن روايتي الواقعية "هوى" والتي حكيت فيها بصدق عن الفساد في المؤسسة الطبية وفساد القضاء. فقد اشترت الرواية المؤسسة العامة للسينما ووقّعت عقد بيع الرواية لتتحول إلى فيلم سينمائي رائع بإخراج واحة الراهب... الفيلم كلّف الملايين، خاصة وأن نصفه صُوّر في بيروت. والكل كان مُصرًا على أن تكون البطلة سلاف فواخرجي. غير أن الفيلم لم يُعرض، ولم أترك وسيلة لأعرف لماذا لم يعرض ولم أحصل على جواب، مع أن الفيلم عُرض في دول عديدة ولاقى استحسانًا كبيرًا. الأمر الأهم: لماذا هدر المال العام إذا كنتم- يا "أصحاب القرار"- مصمّمين على ألا يُعرض الفيلم؟ أحسست بقهر فظيع وغضب، حتى أنهم رفضوا إرسال نسخة من الفيلم لي "بحجة أنه لا يجب أن أحضره إلا بعد عرضه"، وأخذ الناس من أصدقاء ومن أشخاص لا أعرفهم يسألون سؤالين لا غير: السؤال الأول، برأيك هل لم يُعرض الفيلم لأن واحة الراهب مُعارضة للنظام؟ والسؤال الثاني، برأيك كيف لم يُعرض الفيلم وسلاف فواخرجي ليست معارضة للنظام؟
كنت أرد: إن الجواب عند رب العالمين.
كلنا نعيش بثقب في القلب لم تحدثه رصاصة، بل الذل والقهر والفقر و... انعدام الحرية.