بلا شكّ أن جميع البشر يقعون في الحبّ، على الأقل مرّة واحدة في حياتهم، ويخوضون تجربة خليط المشاعر غير المفهوم، الذي يولد في داخل الإنسان لأول مرّة، كطيران الفراشات في المعدة، وقفز القلب من مكانه، وكأنه يريد الفرار أو الغرق في وحل الارتباك والغزل، لكن هل سألنا أنفسنا إذا ما كان الذي عشناه حبًّا فعلًا أم شعورًا عابرًا، يستخرجه العقل الباطني من بين كهوفه المظلمة وصناديقه الموصدة المغبرّة خلف غبار السنوات؟ ماذا تعني كلمة حبّ؟ وهل هناك حبّ حقيقي فعلًا؟
لو بحثنا في تعريف الحبّ لقرأنا أن الحبّ هو شدّة التعلّق والولع، وهو مجموعة من المشاعر المعقّدة، التي تنتج عنها العديد من التصرّفات والأفكار المنسوجة بعواطف قوية تحكم المرء، وتسيطر على كيانه وإحساسه.
ولكن إلى أيّ مدى قد يمتدّ هذا التعلّق، وهذه المشاعر غير المبرّرة، والتصرّفات التي توقع بنا في فخاخ العثرات الروحية والعاطفية أحيانًا؟!
الحبّ منذ القدم كان متعارفًا عليه كموضوع محوري، يعبّر عن الجوانب الإنسانية الأكثر عمقًا، وقد تم التعبير عنه في مختلف الحضارات القديمة من خلال الأدب، الفلسفة، الفنّ، والدين. وعلى الرغم من اختلاف الثقافات والتصوّرات، فإن الحبّ كان دائمًا قوّة تربط بين الجنسين، وكان الشعراء قديمًا، مثل الشاعر الكردي جيكرخون في الثقافة الكردية، يعبّرون عن الحبّ بشكل عميق وعاطفي، ويكتبون قصائد الحبّ، التي لا تزال تُقرأ وتُدرس حتى اليوم.
الحبّ في الثقافة الشرقية كان يُعبّر عنه بمشاعر العشق والتضحية، وغالبًا ما كان الشاعر يتغنّى بجمال المحبوبة وحسن أخلاقها. وفي الفلسفة يتّخذ أشكالًا متعدّدة، بدءًا من الرغبة الجسدية والعاطفية وصولًا إلى الحبّ الروحي والأخلاقي، فكلّ فيلسوف لديه رؤيته الخاصة حول الحبّ، ولكن الكثير منهم يتفقون على أنه ليس مجرّد شعور عابر، بل قوّة عميقة تؤثّر على العلاقات الإنسانية والوجودية.
يرى إريك فروم في كتابه "فنّ الحبّ" أن الحبّ فعل إرادي، يتطلّب الجهد والمعرفة، وليس مجرّد شعور، بل هو حالة نفسية وعقلية، تتطلّب من الشخص العمل على تطويرها باستمرار، مما يضمن الرعاية والمسؤولية والاحترام والمعرفة. يميّز فروم بين حبّ الذات وحبّ الآخر، مؤكّدًا أن الحبّ الحقيقي يتطلّب توازنًا بين الاثنين.
نيتشه يرى أن الحبّ قد يكون تعبيرًا عن القوة والإرادة، ففي فلسفته يتحدّث عن كيف أن الحبّ قد يكون مدفوعًا بالرغبة في التفوّق أو السيطرة. لكنه أيضًا يتحدّث عن أهمية الحبّ بين الأصدقاء كعلاقة تبادلية مبنية على الاحترام المتبادل. ينتقد نيتشه الأشكال التقليدية للحبّ، التي يعتبرها ضعيفة، مفضّلًا مفهوم القوّة والعزيمة، وعلى العكس من المفكّرة والفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار، فهي ترى أن الحبّ، في كثير من الأحيان، يمثّل أداة للسيطرة على المرأة في العلاقات التقليدية، وتدعو إلى تحرير المرأة من الأدوار النمطية المرتبطة بالحبّ والزواج. لكنها في نفس الوقت تؤكّد أن الحبّ يمكن أن يكون علاقة متساوية إذا تمّ بناؤه على الاحترام المتبادل والحرّية.
الكاتبة المصرية نوال السعداوي، إحدى أبرز المكافحات النسويات في مجتمعنا الشرقي، كانت تؤمن أن الحبّ يجب أن يكون تحريرًا للإنسان، وليس وسيلة للسيطرة أو التبعية. انتقدت بشدّة التقاليد الاجتماعية، التي تُقيّد المرأة، وتفرض عليها أدوارًا معيّنة باسم الحبّ، ورأت أن التعليم والوعي هما السبيلان لتحرير الحبّ من الجهل والخوف والقيود الاجتماعية.
فالحبّ الحقيقي، بالنسبة للسعداوي، يجب أن يكون قائمًا على الحرّية والمساواة، وهي تنتقد المجتمع، الذي يضع قيودًا صارمة على حرّية المرأة، ويجعل الحبّ وسيلة للسيطرة والتحكّم. ترى أن الحبّ في مجتمعاتنا غائب، ما يُفهم بشكل خاطئ على أنه تملّك أو استحواذ، مما يؤدّي إلى علاقات غير متكافئة بين الرجال والنساء، واستخدمت تعبير "مجتمع جاهل" لتصف المجتمعات، التي تُخضع المرأة وتحرّم عليها التعبير عن نفسها وعن رغباتها.
ترى السعداوي أن هذه المجتمعات، تبني مفاهيم الحبّ على الجهل والخوف، حيث يتم تلقين المرأة منذ الصغر أن الحبّ يعني الطاعة والتبعية، بينما يتم تعليم الرجل أن يكون هو السيّد والمتفوّق. هذه الفكرة تُفقد الحبّ جوهره الإنساني، الذي يجب أن يقوم على التفاهم والاحترام المتبادل.
على الرغم من الآراء المتناقضة بين الفلاسفة والمفكّرين، إلا أن الحبّ يمكن تعريفه وتحليله من المنظور الشخصي لكلّ شخص، فدائمًا هناك وجهات نظر متناقضة بين الرجل والمرأة في الحبّ، كمسألة معقّدة تجمع بين رأي كلا الجنسين، وكقضية تمتدّ جذورها إلى المرأة بشكل خاصّ، فلا حياة من دون المرأة، ولا حياة لها من دون الرجل، ولا تتطوّر المجتمعات إلا بتحرير كليهما.
في الكثير من الأحيان، نسمع عن قصص فتيات قاصرات أُجبرن على الزواج، وهن لم يبلغن السبعة عشر ربيعًا، أو عن زيجات توّجن بالطلاق الرحيم؛ نظرًا للفشل العاطفي والاجتماعي، الذي فتك بأرواحهن، ولكثرة الزواج التقليدي الشائع لدى الشرقيين، وعدم تقبّل رأي المرأة، أو أخذه على محمل الجدّ.
لم ترفض المرأة شخصًا، وتوافق عليه لاحقًا؟ هل أعار أحد منّا اهتمامًا للأسباب، التي تدفع المرأة للموافقة على أيّ حال، حتى وإن كانت لا تزال متردّدة في قرارها؟
هل أجهدنا أنفسنا بالتفكير، ولو لمرّة واحدة أن القدر والنصيب في مسألة الزواج تحديدًا ليس إلا هراء نحقنه في ذهننا، لنرضي قناعات المجتمع ونصقل الواجهة الاجتماعية، التي تكون أهم من الأرواح التي تدمّر حياتها بصمت، وعلى حساب سعادة المرأة وبوحها وثورتها الداخلية، التي لا تتجرأ على الاندلاع، خوفًا من الفضيحة، أو وصمة العار، التي تلتحق باسم العائلة؟!
المرأة علم، ولفهم هذا العلم على المرء أن يخوض تجربة الإبحار في عمقها وفلسفتها، ويدرك ويقدّر كلّ التضحيات والحروب الداخلية، التي تعيشها في سبيل أن تكون يومًا ما سعيدة في بيت رجل يكرّمها ويساويها في الحقوق والواجبات، وحتى في أبسط التفاصيل، التي ينظر لها المجتمع بنظرة سطحية، ويرتّبها في خانة الأشياء المنتمية للمرأة، كالواجبات المنزلية والطبخ والترتيب والتجميل والاهتمام بالمنظر الخارجي، على عكس الرجل، الذي لا يعيبه شيء، حتى الكسل والاتّكالية والأناقة المنسية الميالة إلى اللامبالاة.
نحن مجتمعات ربما تفتقر للنضوج العاطفي، ولا نمجّد الحبّ، أو نؤمن به، كطاقة يصعب تفسيرها، أو منعها، أو حتى اقتلاعها من أحشاء المحبّ. نحن مجتمعات كلّ ما يهمّها هو لمعان الواجهة الاجتماعية أمام الناس والأقارب على حساب رغبات الأبناء ووجهات نظرهم الجارفة، مع التقلّبات المستمرّة والتقدّم، الذي يطرأ على حياتهم اليومية. تواجد الفرد في مجتمع شرقي رجعي بفكره أشبه بالغرق في بركة من الرمال المتحرّكة، فمهما رفعت رأسك طالبًا للنجاة، تجد الرمال تسحبك إلى القاع في كلّ مرّة.
علميًا قد يعتقد البعض منّا، أن الحبّ فعلًا يندلع في القلب؛ نظرًا لتسارع ضرباته والتوتّر الذي يطرأ عليه، لكن في الواقع- وبحسب دراسات جامعة ألتو الفنلندية على نشاط الدماغ بتقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي FMRI- فإن كلّ المشاعر التي نعيشها في الحبّ تولد في العقل، تحديدًا في المناطق الآتية:
العقدة القاعدية، وخطّ الوسط من الجبهة، والجزء الأمامي من الفصّ الصدغي الجداري على جانبي مؤخّرة الرأس (1)، هذا يعني أن القلب فقط عضلة وظيفتها الأساسية هي ضخّ الدم إلى كلّ أنحاء الجسم، وكلّ المشاعر التي تراودنا أثناء الوقوع في الحبّ تكون تحت رحمة العقل والتفاعلات الهرمونية للغدد الصماء.
نظرًا لتوسّع مفهوم الحبّ في يومنا هذا، وتجرّده من الحرمان في الثقافات الغربية، هناك فئة كبيرة من الشبّان والشابّات الشرقيين بين عمر العشرين والثلاثين عامًا، يجبرون تحت تأثير الضغط الاجتماعي والقولبة العائلية على تجميد عقولهم وقلوبهم، وفقًا لما يناسب العقلية الشرقية، ودائمًا ما تكون نتائج هذا الفرط غير الطبيعي من الكبت العاطفي والشوق وقمع الرغبة بالتواجد مع الحبيب مؤسّسة فاشلة تدعى الزواج تقليديًا، وغالبًا ما ينتهي المطاف بعدم التوافق الفكري والانسجام العاطفي والعائلي، ومن ثم الانفصال بعد شهور قليلة، أو العيش بمرارة المشاكل والكوارث الاجتماعية طوال العمر، وفي هذه الحالة تكون الخيانة من الطرفين، خاصة إذا كانتِ المشاعر ما تزال متعلّقة ومتيّمة بالحبيب، الذي لم يحالفه الحظّ.
الغريب والأقسى في مجتمعاتنا الجاهلة، هي أننا لا نرى زواج القاصرات مشكلة، أو قضية يجب الحدّ منها، لكن الزواج من إنسان فقير أو ذوي الاحتياجات الخاصة تكون نقصًا ومشكلة كبيرة يتناقش فيها كلّ كبير وصغير، وفجأة تصبح كلّ الأنوف مغطّسة في أمورك الشخصية وقراراتك المصيرية.
إن الضغط العائلي، الذي يمارس على المرأة في المجتمع، أكبر بكثير من الضغط العائلي على الرجل؛ ببساطة لأننا نعيش في مجتمع ذكوري مريض، يمنح الحرّية الكافية للذكر، ليفرض رأيه على الجميع، ويفعل ما يحلو له، بدون محاسبة أو رقابة على قراراته غير القابلة للنقاش.
عدا هذا كلّه، يلعب دور الأمّ المفصلي محورًا أساسيًا في مسائل الحبّ والزواج لدى الفتيات؛ حيث تكون الابنة المتلقّي الأول لدروس التدبير المنزلي، وفأر التجارب الأول في كلّ نقاش يتضمّن الحبّ كموضوع وقضية، والأمّ كمعلّمة تنقل ما تربّت عليه من الجيل القديم إلى الأبناء، وتتّبع ذات السلسلة التربوية في التعامل، بغض النظر إذا كان يتوافق مع فنون التربية الحديثة أم لا.
تخيّلوا معي الفرق الشاسع بين أسلوب التعامل مع النضوج العاطفي للطفل في الحالتين الآتيتين:
- الحالة الأولى:
مراهقة في السادسة عشر من عمرها، تشعر منذ فترة قصيرة أنها معجبة بزميلها في المدرسة، وتتواصل معه، وتكنّ له مشاعر الألفة والمحبّة، فتخبر أمّها فورًا، فتنهال الأخيرة عليها باللوم والتعصيب والرفض، بل وتتجنّب الحديث معها لأيّام، وتطلب منها قطع علاقتها به كلّيًا، وكأنها ارتكبت جريمة، أو خطأ فادحًا، بل تحاول أن تتستّر على الموضوع، وتخفيه دون تقديم أيّ شرح يتناول هذا الموضوع الحسّاس، في هذه الفترة العمرية المحيّرة والمعقّدة والصعبة، التي يمرّ فيها الطفل، من نمو عقلي وعاطفي وجسدي.
ماذا تتوقعون أن تكون النتائج مثلًا؟!
بالتأكيد سيخلق هذا التصرّف غير السليم في روح الطفلة عقدة نفسية ترافقها مدى الحياة، ولن تستطيع رؤية الحبّ من منظور جميل؛ ففكرة الحبّ تشوّهت مسبقًا في ذهنها، وتركت مخلّفات لا يستطع العقل محوها، مهما كبرت، وبالتالي إن تلك الطفلة المراهقة في نضوجها، إما ستنسحب من العلاقة بشكل غير مبرّر؛ ظنًّا منها أنها ترتكب خطأ، أو ستخفي عن أبويها بما تشعر بها، وتقبل عليها، وبالتالي هذا الإنسان الصغير الكبير لن يؤمن بالحبّ، وسيكون ضحية الزواج التقليدي، بما توافق عليه شروط العائلة.
- الحالة الثانية:
هي نفسها الحالة الأولى، لكن ماذا لو كانت ردّة فعل الأمّ مختلفة، وكانت احتواءً روحيًا وفكريًا للطفلة، وليس رعبًا واتّهامًا بالخطيئة؟! ماذا لو تعاملتِ الأمّ مع الموضوع كأمر طبيعي، وليس كفضيحة أو جريمة؟! ماذا ستكون ردّة فعل الطفلة حينها؟!
الطفل الذي يتلقّى عناية عاطفية من أبويه في صغره، يكبر في بيئة ناضجة عاطفيًا، وبالتالي يكون أقلّ عرضة للتردّد والفشل العاطفي في حياته، وتكون خياراته مبنية على العقلانية والعاطفة في آن واحد. لا يكافح ليرضي المجتمع وعاهاته وشروطه، ويرفض قوالبه، ويكون هو سيّد قراره، ويمنح نفسه فرصة خوض تجربة الحبّ، بما يرضيه ويرتاح له. هكذا إنسان حتى لو عاش تجربة أليمة، سيتعلّم منها، ولن يرتدي ثوب الضحية على عكس غير الناضج عاطفيًا.
الفكرة الأساسية هي قبل أن تنجبوا الأطفال إلى الحياة، اقرأوا في علم النفس عن أبعاد الفشل العاطفي وتأثيره السلبي على المراهقين، الذين يولدون في هذه الحياة مع شهادة ضياع مختومة بالتعرّض لجميع أنواع العقد النفسية، والذين إذا ما عاشوا في بيئة متوتّرة أو جاهلة يكون نتاجها الفشل والتبعية والخضوع للسلطة الذكورية.
غالبية الفتيات اللاتي تمّ تلقيح عقولهنّ بالأفكار المرعبة عن الحبّ والزواج، دائمًا ما ينتهي بهنّ الأمر في حلقة زواج فاشل، تحت راية رجل لا يناسبها فكريًا ولا عاطفيًا، وأن الرجل قادر على تلبية حاجاتها المنزلية والزوجية، لا يعني أبدًا أنه يملك قلبها ويحاور فكرها وروحها، وهذا ما يدفعها إلى الصمت والدمار النفسي، يومًا بعد يوم.
كم من امرأة تعيسة في حياتها، كانت ضحية للأمراض النفسية والعقلية؛ لأنها لا تستطيع الرحيل فقط لأجل أولادها! وكم من امرأة تسكب الدمع في حمّام منزلها أو مطبخها في الخفاء؛ لأنها مجبرة على البقاء، لأن الجحيم الذي تعيشه في بيت الرجل أرحم بكثير من الجحيم العائلي، الذي عاشته، وهي في حضن والديها! كم من امرأة تقطب فمها؛ كي لا تصرخ في وجه هذا العالم، خشية الفضيحة! وكم من امرأة رجمت حقوقها؛ كي تبقى مُلكًا معروضًا في الواجهة الاجتماعية!
كم عدد النساء اللاتي، تجرّأن بقول (لا)، وأكملن حياتهنّ مطلّقات، فانهالت عليهنّ نظرات الشفقة والتعسف...!
أهذا هو حقًّا جوهر الحبّ، الذي حلمنا به صغارًا واصطدمنا به كبارًا؟
دعونا نتّفق أيضًا على أن المرأة كيمياؤها معقّدة بالنسبة للرجل، وأحاسيسها الباطنية مغروسة في أرض غير قادرة على البوح متى وأين ما أرادت، ودرجة المزاجية لديها قد تكون عالية جدًا، لكن أليست كلّ هذه الأسباب، التي ذكرت، كافية لنقول إن الضغط الاجتماعي يجعلها خاضعة للسلطة الذكورية، ويخلق كلّ هذا الفشل العاطفي والجحيم، الذي تعيشه وتنقله للأجيال التي تليها؟
لم لا يكون الحبّ الحقيقي حليفًا للجرف الفكري المجتمعي، بطريقة إيجابية، وليست سلبية، ويكون للحبّ مساحة واسعة واقعيًا، كما في الكتب الأدبية والفكرية والفلسفية؟
إن المرأة في الغرب حرّة ومتساوية نوعًا ما مع الرجل في الحقوق والواجبات، وبالتالي لها رأي وحضور أمام أصدقائها وعائلتها والمجتمع، وقلّة ما نجد امرأة أوروبية مجبرة على الزواج من شخص لا تحبّه، أو تختار شريكًا من أقربائها كابن العمّ أو الخال مثلًا.
يكمن تطوّر المجتمعات وانسلاخها من الجهل والغباء، في تحديد مكانة المرأة في المجتمع وطريقة التعامل معها كإنسانة، وليس كعبدة أو جارية أو خادمة، فتثقيف المرأة في الثقافة الشرقية أمر ضروري لا بدّ منه؛ إذ أن المرأة المثقّفة والواعية، لن تتزوّج أبدًا من جاهل يمشي على قدمين، أو توقّع بنفسها في فخاخ العجز والتحمّل، بل ستطالب بحقوقها كامرأة، وتحاول جاهدة أن تعيش حرّة بقراراتها، وترسم لحياتها خطًّا مستقبليًا، يؤمن لها الأمان والحنان والحياة السعيدة الواعدة بها. وبما أن الحبّ عالميًا يعتبر من أجمل التجارب، التي يمكن أن يعيشها الإنسان، إلا أنه في شرقنا المهرول للقاع، هو أداة انتحار، نلوّح بها في العلن، ونتباهى بها أمام بعضنا البعض، دون أن نفكّر مليًا بما تخبّئه البيوت من أسرارٍ وصراعاتٍ.
المرأة الصحيحة في البيت الصحيح تخلق جوًا استثنائيًا صحيحًا لأطفالها، وتحيط بهم بالحبّ والاهتمام والتفاهم، أما إذا كانتِ المرأة في بيت صامت منزوع الحياة، تُضرب وتُهان على أبسط الأمور، حينها ينقلب الجوّ العائلي المنتظر إلى جحيم يعاشر كلّ دقيقة.
أخيرًا، الحبّ يعني التوافق الفكري والأخلاقي والانسجام الروحي بين شريكين، يحاولان بناء جسر منطقي، منطلقًا من الأحلام، متّصلًا بالواقع الجميل، وهو السكينة والأمان، الذي نجده في روح مماثلة لروحنا، وكأننا نحن مَن نهاجر أجسادنا، ونقطن أجساد مَن نحبّهم. والحب ليست جريمة اجتماعية نحاسب عليها فقط، لأننا ولدنا في أكثر زمن أصبح فيه الصدق أثرًا قديمًا مغبرًا، ولا ذنب لنا أن ندفع ضريبة تلميع الواجهة الاجتماعية، في سبيل تحسن الشكل الخارجي للعائلة السعيدة، بينما تكون الحقيقة معاكسة تمامًا لما نراها في الوقع.
عزيزي الرجل:
قبل أن تقبل الزواج من حبيبة رجل آخر، تذكّر أن ذاكرة الألم حيّة لا تموت، وأن المرأة التي يكون قلبها مع رجل آخر، هي لعنة حقيقية في حياتك، ومهما كنت إنسانًا صالحًا ومناسبًا لها أمام العائلة والمجتمع، ستستطيع الاستيلاء على حياتها كرجل، لكن ليس كحبيب؛ فالحبّ الحقيقي غير المتكامل يترك دمارًا شاملًا في داخل كلّ امرأة، ويدفعها أحيانًا للخيانة الفكرية بينها وبين نفسها، هذا عدا عن كرهها التدريجي لفكرة إنجاب طفل آخر، أو خوض تجربة الأمومة حتّى.
عزيزتي المرأة:
لا تكوني ساذجة، وتدفعي نفسك للخلاص، بالسقوط في الهاوية وضخّ السمّ في شرايين حياتك، فالنفي هو أحد الأشياء، التي يجب أن تتدرّبي عليها، كي لا يستغبيك ويستصغرك المجتمع إلى هذا الحدّ، ويجعل منك آلة للإنجاب والمتعة فحسب. كوني حكيمة في قرارك وقراراتك، واختاري ما يناسبك؛ فالحبّ ليس حذاءً ترتدينه في قلبك، وترمينه بعيدًا إن لم يناسب مقاسك.
المجتمعات التي تضغط على الأفراد، لقمع مشاعرهم أو التمسّك بقوالب قديمة، لا تترك مجالًا للحبّ الحقيقي. على العكس، تتحوّل إلى أماكن لزرع الفشل العاطفي والنفسي. إن تحرير الحبّ من هذه القيود، يبدأ بتحرير المرأة من دورها التقليدي، وباحترام مشاعر الأفراد وقراراتهم.
الحبّ الحقيقي ليس مجرّد علاقة جسدية أو تقليدية، بل هو التقاء الأرواح وتفاهم العقول. إذا ما نجحنا في جعل الحبّ مبنيًا على الحرّية والاحترام المتبادل، فإننا بذلك نخلق أجيالًا قادرة على تحقيق السعادة والتوازن النفسي في حياتها.
(1) حلمي، جمال حلمي، "خريطة الحبّ في الدماغ، دراسة تكشف أسرارًا جديدة"، مجلة الرجل، 2024م.