ليست مهنة التدريس بالمهنة السهلة، إنها مهنة مركبة وشاقة، ولا يدرك الأساتذة هذا الأمر إلا بعد مرور سنوات. ويمكن أن نضيف إلى ما سبق، أن تدريس الفلسفة في الجامعة المغربية في سبعينيات القرن الماضي، يرتبط بشروط مهنية وتاريخية ساهمت في تلوين هذا الدرس بسمات خاصة، حيث كنا نعلم ونتعلم في الآن نفسه، كنا نمارس التدريس والبحث ضمن شروط لا تتجاوز الحدود الدنيا لعمليتي التأطير والبحث. أمر واحد كان يشجعنا على الاستمرار، وبذل أقصى جهد ممكن، يتعلق الأمر بحماسنا المضاعف لمهنة الأستاذية، وحماسنا الكبير لدرس الفلسفة، وأهميته في بناء ثقافة جديدة في مجتمعنا. ثقافة كنا نتطلع إليها ونحلم بإمكانية غرسها في مجتمعنا.
(2)
استمعت في جلسة الاحتفاء إلى الزميلين اللذين تحدثا عن جوانب من سيرتي ومساري في البحث والتدريس، الصديق والزميل سعيد بنسعيد العلوي، والصديق الأستاذ عبد السلام طويل، استمعت إليهما يتحدثان عن بعض اهتماماتي وأعمالي، وأريد بداية أن أشكرهما جزيل الشكر على ما تفضلا به من مواقف تشير إلى بعض أوجه ما أنتجت خلال سنوات البحث والعمل، التي مرت بسرعة، مُخَلِّفَةً بصماتها البارزة في جسدي، وفي مختلف ما كتبت. وأنا أستمع إليهما، كنت أحيانًا أشعر بأنهما يتحدثان عني، وأحيانًا أخرى أشعر أنهما يتحدثان عن شخص يشبهني، شخص كتب كتبًا تحمل عناوين كتبي، وتستوعب فصول هذه الكتب محتويات قريبة من القضايا والأسئلة التي أفكر فيها. ومن أجل أن أشاركههما في الحديث عني وعن الآخر الذي يشبهني، سأحاول بعد استئذانهما الاقتراب من مسألتين اثنتين، الأولى تتعلق بمهنة التدريس، والثانية تتصل بالكتابة والبحث، وهي المهمة التي أواصل القيام بها رغم صعوباتها، ورغم المتاعب العديدة التي تلحقها بي، والمُتع التي لا توصف التي أنعم بها كلما أتممت نصًا، أو أعددت بحثًا، أو كتابًا.
أريد في البداية أن أتحدث عن مهنة الأستاذية، فقد اخترت أن أكون أستاذًا، اخترت أن أكون مدرسًا وباحثًا، وقضيت أزيد من أربعين سنة أستاذًا في القاعات والمدرجات، داخل كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، درّست مواد عديدة، درّست بعضها بكثير من الرغبة وكثير من التفاني، كنت كما سبق أن أشرت أتعلم مثل باقي الزملاء، وأعلم في الآن نفسه، ولا يمكنني أن أنسى أبدًا أنني أعتقد أن هذه المسألة ترتبط بجيل كامل تلقى تعليمه في شروط الكَفَاف، المرتبطة بالسنوات الأولى لتعليم الفلسفة في الجامعة المغربية في بداياتها الأولى، ستينيات وسبعينيات القرن الماضي... كنا نُمهّد الطريق لتعميم وتطوير تعليم الفلسفة في الجامعة المغربية الفتية.
(3)
كنت أجد متعة كبيرة وأنا أقرأ النصوص الفلسفية وأفكر فيها، كما كنت أغتبط بنوعية المشاركة التي تتيحها صُوَّر تفاعل الطلبة مع النصوص، والأسئلة والمواقف المرتبطة بالدروس وأسئلتها ومفاهيمها. وكان للدروس في حياتي المهنية وَقْعٌ يمنحني متعًا لا تُعَدُّ ولا تحصى، متع البدايات، ومتع التحليل والمراجعة، ثم متع النتائج والخلاصات والأسئلة المتواصلة. رَقْصٌ متواصل ومن دون انقطاع، مقطوعةٌ موسيقية بلا نهاية... مقطوعة موسيقية بإيقاعات متنوعة... تبدأ معزوفة الدرس في القاعة، أو في المدرج، بتقديم عنوانه، وتقديم خطوطه العريضة، ثم تنطلق عمليات التحليل والتركيب، عمليات التوقف أمام إشكالات ونصوص، أمام تصوّرات وفرضيات ومفاهيم... يتصاعد إيقاع الدرس، ثم ينخفض، وتَتَخَلَّلُ هذه العملية لحظات بناء الأسئلة، ولحظات تركيب بعض النتائج والخلاصات، تحكمها جدلية تركيب الدرس الذي نكون في صدده. هكذا كنت أمارس عملية التدريس، وقد تمكنت خلال سنوات العمل من ترتيب طريقة، تحولت إلى نظام مُحكم وقابل للتطوير باستمرار، نظام من الإجراءات المساعدة على كثير من النجاعة في الأداء وفي النتائج.
ولا أريد أن تفوتني هذه المناسبة من دون أن أقول كلمة في تمجيد مهنة الأستاذ، تمجيد الأجيال الأولى من أساتذة الفلسفة في المدرسة وفي الجامعة المغربية، حيث ارتبط حماسهم وإخلاصهم في العمل، بنوع من الرغبة في أن يكون للفلسفة في المدرسة، وفي الجامعة المغربية، مكانة خاصة في التعليم، فقد كنت وما زلت أعتقد مثل أغلب الزملاء داخل أول وأكبر شعبة للفلسفة في أول جامعة مغربية في الرباط، بأن تدريس الفلسفة يُعَدُّ أكثر من مناسبة تربوية، إنه، أولًا وقبل كل شيء، موقف من الحياة، ومناسبة ثمينة للتفكير في التاريخ والتقدم، إنه مناسبة تمكننا من الإسهام في بناء فكر مغربي جديد.
كان عدد طلبة الفلسفة في الجامعة المغربية في سبعينيات القرن الماضي كبيرًا، الأمر الذي ضاعف حماسنا، وكنا نواجه مختلف صعوباتنا بانخراطنا، ومن دون تردد، في تدريس مواد ومقررات عديدة، كنا نحرص على التكوين المتواصل الذي يؤهلنا للقيام بالأدوار المنوطة بنا، داخل مدرجات مليئة بمئات الطلبة. ونعتقد بأن حرصنا على ترسيخ هذا الدرس في جامعتنا، كان يلعب دور العنصر المحفز على بذل كل الجهود المطلوبة.
(4)
أريد أن أتوقف هنا لأتحدث عن درسين قمت بتدريسهما طيلة عقدين من الزمن، الأول موضوعه الفلسفة اليونانية، والثاني موضوعه الفلسفة السياسية الحديثة. درست هذين الموضوعين، كما درست مادة الفكر العربي المعاصر أزيد من عقدين من الزمان، كنت في موضوع الفلسفة اليونانية أقف أمام شذرات الحكماء السابقين على سقراط، أقف متأملًا فجر العقلانية اليونانية في إشراقاتها الأولى... أتأمل الحدوس والكلمات في ترجمتها العربية. لم يكن الأمر سهلًا، كما أن قصيدة بارمنيد في الوجود كانت تحملني مع طلبتي إلى عالم آخر... وكان يحصل الأمر نفسه، مع آثار وشذرات باقي الحكماء، حيث يختلط الشعر بالأسطورة بسحر بدايات النظر العقلي، كنا نستعين بقراءات متعددة في عملية الاقتراب، من عوالم العقل والأسطورة واللغة، في الحكمة اليونانية وكنت قد استعنت على وجه الخصوص بقراءة جون بيير ﭬﺮنان لأصول العقلانية اليونانية في علاقتها بالأسطورة وبالحكمة، وفي علاقتها بالمدينة اليونانية. أما في الفلسفة الحديثة فقد درست بعض أصول الفكر السياسي الليبرالي، نص الأمير لماكياﭬﻴلي، ونص في الحكم المدني لجون لوك، ونص اﻟﻟﭬياثان لهوبز، إضافة إلى بعض نصوص اسبينوزا، وروسو، ومونتسكيو... وقد أتاح لي اقترابي من هذه النصوص، ومن بعض القراءات التي ساهمت في إضاءة جوانب منها، ما مكنني مع أجيال من الطلبة من الوقوف على أسئلة الفلسفة والحداثة والتاريخ... كنت أستعين في قراءة النصوص، وفي عمليات تأويلها بمختلف القراءات، التي تساعد في عمليات إبراز أهميتها في بناء أصول ومقدمات الحداثة والسياسة.
(5)
أعود للحديث عن اهتمامي بموضوع الحداثة والتحديث، لأتمم بعض ما سمعت الزملاء يتحدثون عنه. وأتصوّر أن عنايتي بهذا الموضوع ترتبط بالأسئلة ذات الصلة بالحاضر المغربي والعربي. ولا بد من التوضيح هنا، بكوني أنطلق في النظر إلى هذا الموضوع من مقدمات كبرى وضّحت بعضها في كتبي الأخيرة، أسئلة الحداثة في الفكر العربي، من إدراك الفارق إلى وعي الذات (2009)، العرب في زمن المراجعات الكبرى (2015)، ثم كتاب في الحداثة والتنوير والشبكات (2020)، فقد حاولت في هذه الأعمال مواجهة أسئلة ومعضلات التأخر التاريخي العربي، كما حاولت تشخيص عوائق الحداثة في فكرنا ومجتمعنا... وقد وضّحت أن الحداثة والتحديث يرتبطان بمجال الصراع السياسي داخل المجتمعات العربية، إنهما يرتبطان بمجال التأسيس السياسي، ولا يتعلق الأمر في النظر إلى أسئلتهما بقواعد نهائية، أو مبادئ مُطلقة، أو مغلقة. أما الحديث عن حاجة المجتمعات العربية للحداثة والتحديث فلا علاقة له بمسألة الاستعارة أو النسخ، فلكل مجتمع شروطه، تاريخه وخصوصياته... إلا أن التحديث والحداثة يعدان اليوم من متطلبات الحاضر العربي، وهما قادمان حتى عندما لا نريد... والمتغيرات التي تحملها مقتضيات التعولم والتقنية في عالم جديد، تدعونا أكثر من وقت مضى إلى مغادرة بقايا الأزمنة القديمة والتسلح بالمبادئ الكبرى لعالم جديد في طور النشوء.
هامش:
(*) نصّ الكلمة التي ألقيت في الجلسة التي انعقدت في المعرض الدولي للكتاب والنشر، في دورته التاسعة والعشرين في الرباط يوم السبت 19 أيار/ مايو 2024، وكانت تحمل عنوان: "كمال عبد اللطيف: السيرة والمسار"، شارك فيها كل من الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي، والأستاذ عبد السلام طويل، وقام بتسييرها الأستاذ محمد الطوزي.