}

عصر "الضجر الجذري"

حبيب سروري 6 أكتوبر 2016
آراء عصر "الضجر الجذري"
لوحة للفنان الأردني محمد العامري (بإذن خاص)
لكل ثقافة قطبان متضادّان؛ آليّة مرور التيار بينهما تحدِّد قوة الطاقات الإبداعية لتلك الثقافة، ومداها. سجالهما وجدلهما وتكاملهما وعناقهما ضروري لحيوية الثقافة وإشعاعها.

تعود هذه الفكرة للفيلسوف نيتشه الذي رأى، في كتابه الأول: "ولادة التراجيديا"، أن للثقافة الإغريقية القديمة منبعين جوهريين، اختزلهما رمزاً بإلهين إغريقيين لهما طبيعتان مختلفتان، "يسيران جنباً إلى جنب، ولكن في صراعٍ لا نهاية له": أبولو وديونيزوس.

 أبولو إلهٌ شمسي، إله النظام والقياس والرؤية والوضوح والعقل، وملَكات عديدة أخرى. كل الظواهر القابلة للإدراك والتنظير تنسب له.

ديونيزوس إله شرقي آسيوي، من مواليد جبل ميروس في باكستان حاليًا. إله الثمالة والنشوة واللامرئي والانزياح وتجاوز الحدود، إله النبيذ والمسرح والرقص والتراجيديات والجنون.


القوة رمز للأول، والحرية رمز للثاني. لكل عمل إبداعي جذراه الأبولوي والديونيزوسي:

موسيقى أبولو فن معماريّ هندسي صوتي، لحن قيثاريّ جبار جميل. وموسيقى ديونيزوس عبور لكل نبرات الروح، تفجير لكل غرائزه الربيعية، تعبير عن ألغاز وقلق العالم، وعن التفكير الحميمي للطبيعة؛ كما يقول نيتشه في كتابه: "الرؤية الديونيزوسية للعالَم".

 في كتابه "الحقيقة والأكذوبة، خارج نطاق المعنى الأخلاقي"، يؤنسن نيتشه هذين الوجهين الإلهيين للثقافة، عبر مفهومي: "الإنسان العقلاني"، و"الإنسان الحدسي"، ويجلي العلاقة بينهما.

"ثمّة عصور كان الإنسان العقلاني والإنسان الحدسي يتماسكان فيها وجهاً بوجه، الأول خائفاً من الحدس، والثاني محتقراً للتجريد؛ لا عقلانيّةُ الثاني تضاهي كراهية الأول للفن".

 يشير نيتشه إلى أن عناق الإلهين الأخوين المتصارعين أبداً (الإنسان العقلاني والإنسان الحدسي) تجاوز حالة الاستقطاب والتمترس مرّة واحدة في تاريخ البشرية، في العصر ما قبل السقراطي. تناغما حينها، وتبلور ذلك في إبداع التراجيديات الإغريقية.

 تنافرُ هذين الأخوين وتنازعهما ومحاولة سيادة أحدهما على الآخر، متأصل في طبيعتهما، كما يرى الفيلسوف. يمارس الأول سيادته عبر الإجابة عن ضروريات الحياة بالتصور الهندسي والعبقرية والقواعد المنتظمة. أما الثاني، "ذي الأبطال المتدفّقين فرحاً"، فلا يحتاج إلى رؤية تلك الضرورات، إذ لا تهمه إلا جماليات المشهد.

 لعلّ رواية الفرنسي العَدمي الشهير، ميشيل ويلبيك: "الجسيمات الأوليّة" (فلاماريون، 1998)، التي كانت على وشك نيل جائزة الغونكور حينها، وأُخرِج منها أخيراً فيلم مثّل فيه الروائي نفسه، تُجلي بؤس الإنسان عندما يعيش بشكلٍ متطرِّف أعمى، معزولاً في إحدى ضفتي الحياة الأبولوية فقط، أو الديونيزوسية فقط.

بطلا الرواية أخوَان يفرّقهما كلّ شيء. الأول، ميشيل، عالم بيولوجي كبير جدًا، يعيش حياة رمادية قاحلة بين بيته ومختبر أبحاثه الباريسية الذي يجري فيه تجارب طليعية في استنساخ الحيوانات. الثاني، برونو، مدرِّسٌ للأدب، يعيش حياة كلها هوس جنسي، ويحلم بأن يكون كاتباً كبيرًا. هما، مع ذلك، وجهان لنفس التراجيديا التي يسببها خلو حضارة اليوم من عمودٍ فقريٍّ يربط الميثولوجيا بالتكنولوجيا.

 
ثمّة مأزق وخطورات، في الحقيقة، كما يكشف نيتشه، في سيادة أحد الإلهين على الآخر بشكل كلي. السيادة الفائضة لديونيزوس تقود إلى التفجير العنيف للطاقات والغرائز، وإلى نوعٍ من الفوضى الهمجية. والسيادة الفائضة لأبولو تقود إلى حبس الطاقات الإبداعية، تحت طغيان الصِيغ الشكلية والنظم المقوننة، ووباء تيبُّس الغرائز واضمحلال القوى التي تسمح بتجاوز الذاتِ وإنجازاتها الإبداعية.

 يرى نيتشه أن هذا الطغيان العقلاني حلّ في الحضارة اليونانية منذ عصر سقراط، وفي عصرنا الحديث كذلك (الذي لم يعشه نيتشه إلا عند بدء اكتشاف التلغراف!).

ماذا كان سيقول، "رحمه الله"، لو عاش مثلنا اليوم، عصر "الضجر الجذري" الذي صارت فيه التكنولوجيا، وأتمتة الحياة وديكتاتورية الخوارزميات وهذا المحيط المتلاطم من التطبيقات الكمبيوترية على الهواتف المحمولة، تشتغل جميعها لتوجيه حركة عصبونات دماغ الإنسان، وطريقة تفكيره ورؤيته وعيشه؟

ماذا كان سيقول اليوم في عصرٍ تتربّع فيه على قمة الأولمب آلهةٌ جديدة اسمها: غوغل، فيسبوك، تويتر، أمازون...؛ عصر "السيارات المتصلة" وروبوتات الذكاء الاصطناعي التي تحوّل الإنسان شيئاً فشيئاً إلى روبوتها المطيع؟!

 ومع ذلك، لا شك أن أبولو يحتاج إلى ديونيزوس، كما يحتاج ديونيزوس إلى أبولو؛ وإن فضّل نيتشه سيادةً نسبية لديونيزوس، على أبولو، يقود فيها حركة إبداعية دائمة ترفض التقوقع والنهايات.

"يمكن أن تتشكّل حضارة ذات تباشير بهيّة، يسود فيها الفن على الحياة، كما هو حال الحضارة الإغريقية القديمة، عندما يوجّهُ الإنسان الحدسي ضربات أقوى وأنجح من خصمه العقلاني"، يقول نيتشه.

 بعيداً عن تفضيل هذا أو ذاك، لِنقُلْ إن تناغم الإنسان العقلاني والحدسي، وذوبانهما هو "نهاية التاريخ" الذي نتمناه لحضارة بشرية جديدة تنتج وتعيش وتتكامل على نحوٍ ينسجم مع إيقاع الطبيعة البدائي، بعيداً عن المصالح الأنانية لقوى المال؛ وليست هذه النهاية الإلكترونية الصقيعية الموحشة التي يقودها تحالف قوى المال والتكنولوجيا وفق هوى ومصالح الليبرالية الاقتصادية المعولَمة الوحشيّة.

 أين هي ثقافتنا العربية اليوم من هذا السجال والتكامل الديونيزوسي الأبولوي، ورفدِ هرموناته للإبداع والحضارة؟ لا شك أننا نعيش اليوم عصر انحطاط عميق، لا يخلو مع ذلك من أصوات مخلصة مقاوِمة كثيرة. فسبات العقل من ناحية، وكبح جماح الحرية والخيال بالتكفير والفتاوى والقتل من ناحية أخرى، أصابا "الإنسان العقلاني" و"الإنسان الحدسي" العربيين، بالشلل الكلي معًا.

 ثمّة حيث تلتقي التكنولوجيا بالميثولوجيا، العقل بالخيال، الثقافة والفن بالكمبيوتر، والعشق بالمقاومة من أجل انتصار الإنسان والحرية والحياة.

(اللوحة للفنان الأردني محمد العامري)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.