}

يذهب القيد إلى المصهر ويمضي الإنسان نحو الحرية

عبدالزهرة زكي 11 نوفمبر 2016

لم تكد تمضي أيام قليلة على السقوط الشهير للتمثال البرونزي الضخم لصدام حسين في ساحة الفردوس بجانب الرصافة من بغداد عام 2003 حتى نهض مكانه تمثالٌ آخر كان مختلفاً تماماً؛ إنه تمثال جبسي تطوّع من أجل تنفيذه مجموعة شبان من نحاتين ورسامين وسينمائيين وأدباء. لم ينتظر هؤلاء، ولم يطلبوا إذناً أو عوناً من أحد. لقد وفروا مبلغاً زهيداً يكفي لتأمين المواد الفقيرة التي تطلّبها العمل النحتي. وخلال أسبوع وقف التمثال الجبسي الجديد في الساحة، وعلى القاعدة نفسها التي كان يقف عليها التمثال البروزنزي. حاول النصب الجديد أن يكون تعبيرياً وقد جرى تصميمه وتنفيذه على عجل. استعاض عن الشخص الواحد بأكثر من شخص وبتفاصيل أخرى وضعها النحات الشاب الراحل باسم حمد واراد بها الرمز لحضارات رافدينية قديمة. لقد منح النصب تسمية (العائلة)، ربما أُريد بهذه التسمية إيجاد مقابلٍ لتمثال سابق حمل اسم فرد وقدمه على قاعدة ترتفع به على الجميع.

يمكن فهمُ هذا التمثال الجديد، بتواضع إمكاناته، على أنه تعبير رمزي عن إرادة شعبية كانت تريد بعفوية أن تجد لها مكاناً، وأن تقدّم تصوّرها لعراق ما بعد 2003، وهو تصوّر تزاحم مع إرادات أخرى كثيرة تصارعت وتعاونت ما بينها بكل ما تملكه من قوة وبما تقاربت عليه وتناءت بموجبه من أهداف.. تواضعُ إمكاناتِ نصب (العائلة)، ومعها تواضع فرص تلك الإرادة دفع بذلك التمثال إلى أن ينتهي إلى المصير الذي أنتهى إليه، لم يصمد طويلاً فبعد سنوات قليلة اختفى من الساحة.. وتكرّس بهذا شعورٌ غامض بأن هذه الساحة لا يقرّ لتمثال أو نصبٍ فيها قرار.


الجندي المجهول سابقاً

لم تكن الساحةُ من قبل (ساحةَ الفردوس)؛ كانت تسميتُها الأولى هي (ساحة الجندي المجهول)، كان ذلك حين احتضنت أول نصب للجندي المجهول، وضعه أحد أبرز معماريي بغداد رفعت الجادرجي بطلب من عبدالكريم قاسم رئيس وزراء ثورة 14 تموز 1958 وذلك بعد عام على الثورة، قبل أن تزيله في 1982 جرّافات الحكومة حيث جرى تشييد نصبٌ آخر للجندي المجهول صمّمه هذه المرّة النحات العراقي خالد الرحال بأمر من صدام حسين. لقد نُفذ هذا النصب الجديد في ساحة أخرى هي ساحة الاحتفالات قريباً من القصر الجمهوري في جانب الكرخ.

ارتفع نصبٌ عظيم لصدام حسين على أنقاضِ نصب رفعت الجادرجي، وتغيّر اسم الساحة إلى ساحة الفردوس. لكن نصب صدام هو الآخر لم يصمد في هذه الساحة، فقد أطاحت به رافعة أمريكية في التاسع من نيسان 2003، فتوارى كما توارى عن الساحةِ نفسها بعد ذلك بسنوات قليلة نصب العائلة الذي أراده شبان فنانون من بغداد بديلاً ومعبّراً عن رؤيتهم وتصوّرهم لعراق ما بعد 2003.

لقد كان كلّ نصب من النصب الثلاثة التي ظهرت وتهدمت في الساحة نفسها تعبيراً نحتياً ومعمارياً عن مرحلة سياسية مختلفة تماماً عن قرينتيها. لم يطل البقاء بعبدالكريم قاسم راعي نصب الجندي المجهول بنسخة رفعت الجادرجي، لقد قتل الزعيم وبعده بسنوات أطيح بنصب الجادرجي، فيما انتهت حقبة صدام بسقوط تمثاله في نهار تجمّعت فيه كبريات فضائيات العالم في الساحة وهي تنقل السقوط المدوي، لكن نصب (العائلة) الذي ورث الساحة بعيداً عن الإرادة الحكومية وعن إرادة الجيش الأمريكي أُسقط هو أيضاً بعد أقل من أربع سنوات مضت على ارتفاعه في الساحة، ومات نحاته باسم حمد في حادث مروري حين كان في الطريق إلى بغداد.

لقد كان وجود هذا التمثال خلال سنواته القصيرة وجودا مضطرباً وقلقاً؛ من الصحيح أنه ظل طيله حياته القصيرة إيقونةً تلفزيونية تتكرر يومياً على الشاشات كلما كانت بصدد تقديم صورة عن مشهد عراق ما بعد 2003 إلا أنه ظل منتصبا على قلق وكأنه ينتظر هذا المصير الذي أزاحته فيه جرافة من بلدية بغداد. لم يكن الهدم والجرف هذه المرة بدافع سياسي إنما  بعدما تضرر النصب بعوامل الطبيعة القاسية في بغداد وربما طالته بعض شظايا تفجيرات الإرهاب بالسيارات المفخخة التي كثيراً ما تكررت في القرب من هذه الساحة وفي شارع السعدون الذي ينتهي عند ساحة الفردوس. لم يسعَ نحّاته الراحل بما عاش من سنوات قليلة بعد ارتفاع نصبه إلى عمل الكثير ما يتطلبه النصب، ولم تحاول اية جهة أخرى استئناف العمل فيه أو تطويره ليستعاض في الأقل عن مادته الجبسية بمادة البرونز. لقد ظهر النصب واختفى مقدِّماً بهذه السيرة المقتضبة تعبيراً واضحاً عمّا توارى تماماً وراء كوابيس القتل والتفجير وتفشي الفساد وتحلّل الحلم.


عمل باسم حمد

تعرّفت على باسم حمد في أواخر التسعينيات قبل أن ألتقيه؛ كان هذا في سنوات الحصار حين كنت أدير كاليري للفنون التشكيلية أنشأه الصديق الشاعر منصور عبدالناصر في باب المعظم ببغداد. كنا نعدّ لمعرض شامل للتشكيل العراقي لنفتتح به الكاليري حيث جاءني مجموعة شبان يتقدمهم زميلهم المخرج السينمائي عدي رشيد، وهو صديق شاب أعرفه قبل هذا اللقاء، كانت معهم مجموعة من القطع النحتية البرونزية. أوضح لي عدي أنها لصديقهم، نحات شاب غير معروف اسمه (باسم حمد)، كان في السجن حينها مما جعل أصدقاءه يساعدون عائلته ببيع مثل هذه القطع النحتية. كان الشبان يريدون مني عرض الأعمال في الكاليري للغرض نفسه.. وافقت مع وعد مني بأن الكاليري لن يستقطع أية نسبة عن بيعه أية قطعة مما سيعرض للنحات السجين. بعد هذا بسنوات التقيت باسم، وبعد كل هذا، وبعد ارتفاع نصب باسم حمد في ساحة الفردوس، انهمكت المجموعة الشبابية كلها بأول عمل سينمائي ينتج بعد 2003، كان مخرجه عدي رشيد وكان الشاعر فارس حرام هو كاتب السيناريو. كانت بغداد حينها تواجه أتعس حالات انفلات الأمن، كانت التفجيرات والخطف والاغتيالات متوقعة في أي مكان وبأية لحظة، كانت مواقع التصوير ليست بالبعيدة عن كل هذا، فيما كانت فكرة الفيلم هي الأخرى قائمة في جانب منها على وقائع الموت والخوف. لقد نفذ الفيلم بشجاعة على شريط مهمل من أفلام كوداك 35 ملليمتر التي أوقفت شركة كوداك انتاجها قبل زمن الفيلم بسنوات . كان الشريط غير صالح للاستعمال، كان مرمياً في مخازن دائرة السينما والمسرح الحكومية، حتى أن فيلم عدي رشيد حمل عنوان (غير صالح للعرض) وفاز بعدد من الجوائز.

أستذكر هنا ارتفاع نصب باسم حمد وانتاج فيلم عدي رشيد بوصفهما لحظة تلقائية تعبّر بوضوح عن طموحات مثقفين لحرية العمل الثقافي في الخارج من المؤسسة الحكومية الراعية دائما والموجهة والمنظمة للنشاط الثقافي بمختلف فعالياته.


هامش التشيكل

لقد دأبت الفعاليات الثقافية على أن تظل تعيش على مشيمة تربطها بالرحم الحكومي طيلة عقود. لم يكن هذا اختياراً من المثقفين والثقافة، لكنه صار تعوّداً على نظام عيشٍ وحياة أصرت السلطات ما قبل 2003 على أن يكون النظام الوحيد الذي لا بد منه لمواصلة حياة الثقافة وعيشها.

كان التشكيل هو المجال الإبداعي الثقافي الأكثر تخففاً من تبعات هذا الارتباط القسري. ففي التسعينيات شهدت بغداد افتتاح أكثر من كاليري لعرض وبيع الأعمال الفنية المختلفة، كان هذا، ومعه فرص العمل والعرض والبيع في بلدان عربية مجاورة، عقداً كافياً ليتدرب فيه الفنانون التشكيليون على التحرّر من الضرع الحكومي وعلى تنمية إرادة مستقلة من أجل العمل والتفكير والتصرف. هكذا كانت أولى المبادرات العملية للحرية الثقافية قد جاءت من شبان تشكيليين وسينمائيين ممن آوتهم لسنوات مقهى (الجماهير)، آخر المقاهي الثقافية التي تأسست في العراق قبل 2003، وكذلك قاعتا (حوار) و(أثر) للفنون التشكيلية، وهما قاعتان خاصتان غير حكوميتين تأسستا في ذلك العقد قرب أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد.

وكما تحلل الحلم فقد انفرط عقد أولئك الشبان الطامحين وتوزعوا بين العراق وخارجه، بين الأمل واليأس، بين مواصلة العمل الجنوح إلى الاستسلام، لكن ما ترسخ هو مبدأ الحرية وقدرة الفرد المثقف والمجاميع الثقافية الصغيرة على اجتراح فرص الخلق والمبادرة.

يذهب القيد، حين ينكسر، إلى المصهر.. بينما يمضي الإنسان نحو الحرية.

 

 

 * شاعر وكاتب من العراق

(نصب الجندي المجهول القديم)

 

 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.