وكان السكاكي في كتابه "مفتاح العلوم" مثالًا لإقفال مرحلة برمتها، لكأنّه حصيلة جامعة لجهود السابقين. في هذا الكتاب ذي الطابع الموسوعي نجد في الفصل الخاصّ بعلم العَروض العربي مقتطفات من آيات قرآنية، يُخضعها السكاكي لميزان الإيقاع الذهبي، فيجد فيها البحور الستة عشر، لا بصورتها التامّة بالطبع، بل بصورتها مجزوءة ومشطورة ومنهوكة. وما كان ليتمكّن السكاكي من عملٍ مماثِل لولا أن العَروضيين أدخلوا على تعريف العلم النبيل، ميزةً غريبة تقول باشتراط القصد في قول الشعر، وذلك نتيجةً لتلك النقاشات الشهيرة التي كانتْ تدور حول العلاقة بين الشعر والقرآن.
ولعلّه واحد من البحوث النادرة حقًّا التي نظرتْ إلى النصّ القرآني بطريقة بلاغية حديثة. بيد أن ثمّة كتابًا جميلًا ومفيدًا صدر في تسعينيات القرن المنصرم عن دار المشرق التابعة لجامعة القدّيس يوسف في بيروت، عنوانه؛ "طريقة التحليل البلاغي والتفسير: تحليلات نصوص من الكتاب المقدّس والحديث النبوي الشريف"، وشارك في كتابته أربعة من أهمّ الباحثين الأساتذة؛ لويس بوزيه، ورولان مينيه، ونائلة الفاروقي، وأهيف سنّو. ومن عنوان الكتاب يتضح أن النصّ القرآني لم يكن داخِلًا في التحليل.
لم يكن البلجيكي ضليعًا باللغة العربيّة، وطبّق بصورة شبه آلية منهج التحليل على النصّ المقدّس، وحين وصل إلى الشقّ التفسيري من التحليل، أخطأ في غير ما موضع، وقسر "سورة المائدة" على التشابه مع ما ورد في ظنّه في التوراة، وبدا كما لو أنّه يأخذ معاني العهد القديم واستعاراته ويدخلها في سورة المائدة.
كانتْ تلك مناسبة نادرةً لرؤية تفاعل أساتذة علوم الشريعة مع الباحث البلجيكي، إذ تغيّرتْ ألوان وجوههم، ما إن بدأ أحد الباحثين اللامعين السوريين بتصحيح أخطاء البلجيكي في تفسيره للسورة، ها هنا بدأ أساتذة علوم الشريعة بالمشاركة، وبأقلّ من لحظتين فتحوا خزائن علوم اللغة العربية، من نحو وبلاغة، لكأنّ معرفتهم المختزنة طوال سنين وجدتْ طريقها للخروج والتفكير بمسائل كانتْ في ظنهم "حسّاسة" من قبل.
بدأ الإيطالي دفاعًا مكينًا عارِفًا عن النصّ القرآني، فشرح للبلجيكي المعاني، وفسّر له منها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وبدا لدقائق شديد القرب من أساتذة كلية الشريعة، الذين لم يكفّوا عن الابتسام ولا عن التدفّق في سوق الحجج المستندة إلى علوم اللغة العربية وإلى معرفتهم الوافية بالطبع بمعاني القرآن. لا، ليس هذا المقالُ في باب مديح علم العَروض ولا البلاغة ولا الأساتذة المحترمين، هذا المقال لسرد قصّة الرجل الإيطالي. لم يعد الرجل بيننا، ذهب مرّة للحوار مع "المتطرفين" في الرقة، ولم يعد. اسمه الراهب باولو داللوليو.