اخترت أن أستشف من سياق الحوار مع الكاتب البحريني حسن مدن، ضيف هذا العدد من "ملحق الثقافة"، قضيتين تبدوان لي بحاجة إلى جدل أو إلى مزيد من توسيع أفقيهما، ارتباطًا بالمشهد العربي الراهن العام.
الأولى، "سيرورة التطوّر" المرافقة للمجتمعات العربية الحديثة في ما يتعلّق بترجمة شعارات التنمية والتطوّر الاقتصادي، والتي أفضت في الممارسة الفعلية إلى حالات إفقار واسع للشعوب، وإلى اتساع الفجوة بين ثراء بذخي فاحش ناجم عن مال حرام تستحوذ عليه حفنة صغيرة من المتنفذين والماسكين بزمام الأمور، وبين فقر يزداد اتساعًا ويطاول أوسع الفئات الشعبية، ويتسبّب بازدياد الفئات الوسطى تآكلًا واضمحلالًا، وتراجع أدوار من يصنفون اليوم في خانة هذه الفئات عن دور تنويري تقدمي اضطلعوا به في مراحل مختلفة إلى دور مُحافظ معيقٍ للتقدّم.
بذا يضع مدن إصبعه على نقطة مهمة للغاية.
فلا شك أن ما آلت إليه الطبقة الوسطى في تلك المجتمعات العربية من تقلّص مُضطرد على مرّ الزمن، موضوع يستحق إخضاعه للدرس، وبصورة رئيسية من خلال تتبع الآثار المترتبة على ذلك بالنسبة إلى طبيعة الأنظمة وأجنداتها، آخذين في الاعتبار المفهوم الذي يعتبر هذه الطبقة مفتاحًا رئيسيًا أو عِمادًا في تشييد مجتمعات بشرية حضارية حرّة، وهو مفهوم صكّه أرسطو منذ فجر التاريخ، ومن ثمّ اكتسب الكثير من الدلالات في العصور اللاحقة عليه وصولًا إلى أيامنا الحالية.
والقضية الثانية، قوله بشأن سمة الحالة الراهنة للقوى المدنية العربية، وهي في قراءته حالة واشية بوقوف تلك القوى أمام استقطاب من طراز جديد غير ما اعتادت عليه في عقود سابقة،
ومع الموافقة على هذا التشخيص، من الصعب عليّ رؤية أن مدن يسعى من خلاله لأن يقودنا نحو وضعية "الانحباس ضمن أقفاص ثنائيات قاتلة" (وهي مقولة لـ عزمي بشارة)، فحسب.
ويصعب ذلك بالاستناد إلى موقفين يعلنهما:
أولًا، موقف يؤكد الرهان الكبير على الجيل العربي الجديد الذي يمتلك، بفضل ما يشهده العالم اليوم من تطورات علمية ومعرفية، مهارات لم تتيسر لجيل القائل، ناهيك عن أن طرقه إلى اكتساب المعرفة أيسر من تلك التي قطعها أبناء الجيل السابق عندما كانوا في أعمار شبان وشابات اليوم.
ثانيًا، موقف يعتبر الطوفان الذي شهدته كثير من البلدان العربية قبل خمسة أعوام (مع بداية ثورات "الربيع العربي") تعبيرًا عن توق الشعوب إلى إنهاء الاستبداد والاستغلال والظفر بالديمقراطية والحرية.
وهو توق كان ذلك الطوفان بمثابة نقطة انطلاقه التي تحيل إلى دلالة انطلاق المارد من القمقم.
يركّز ضيف الحوار كثيرًا على كيفية نقل تجربة جيله إلى الجيل الجديد. وهو يشير إلى أن كتابه "الكتابة بحبرٍ أسود" هو عن القراءة والكتابة، لكنه وجد أن الشريحة الأجدر بمخاطبتها عبره هي الشباب ليقينه أن القراءة والاطلاع والتأسيس الثقافي والفكري المتين كلها عوامل ستمكن هذا الجيل من امتلاك المعرفة والبصيرة.
وفي غمرة ذلك ألمح إلى منظوره إزاء ماهية العلاقة التي ينبغي أن تكون سائدة بين الجيلين. وبدا ملحوظًا أنه يحاذر من أن يتحدث عن "مصلحة" هذا الجيل، لاعتقاده بأنه مدرك لهذه المصلحة ضمن ظروفه وبيئته.
بطبيعة الأمر هذا الحذر لا يجعل الجيل العربي الجديد في حلّ من أن يستوحي تجربة الجيل الذي سبق.
ولا غرو من تكرار أن هذا الجيل السابق حاول أن يفعل شيئًا، وبغض النظر عما أفضى إليه فعله من حصيلة قد يعدّها البعض متواضعة، فإن ما تركه من إرث فكريّ جدير بالتأمل والمراجعة لإدراك الأخطاء والنواقص وتلمس سبيل تجاوزها.
حتى من خيبات هذا الجيل يمكن تعلّم الكثير من الدروس.
وإذ يتذكر مدن تلك الخيبات، فهو في الوقت عينه يذكّر أنه لكي نواجه قضايا العصر الذي نعيش فيه يجب أن نزج بأنفسنا في أتونه لا أن نهرب منه.
وبهذا يعلن الاستئناف على نزعة حصر الحاضر ضمن "الثنائيات القاتلة" السالفة، التي تماثل نزعة تقليص التاريخ الماضي في إطار حدث واحد أو ربما اثنين على الأكثر.