}

القراءة من دون شاشة، ليست قراءة

حبيب سروري 25 يناير 2016
آراء القراءة من دون شاشة، ليست قراءة
لوحة للفنان الأميركي جون بنكر (Getty)
"القراءة من دون شاشة ليست قراءة"؛ قالت بهدوء الطالبة الذكيّة التي تقرأ كثيراً كما ألاحظ وهي تشتغل على أطروحة الدكتوراه منذ 3 سنوات، لكنها لا تطيق قراءة كتاب ورقي أو نص مطبوع على ورق. 

لا أبالغ، فقد صار كثير من أبناء هذا الجيل، الذي التصقت عيونه بالشاشات منذ أكثر من عقدين، يعزف عن قراءة الورق، كما لو كانت عادة سحيقة مارسها الأجداد الصالحون في زمن هوموإيبيليس. قراءة النص الورقي تتعبهم، لم تعد متكيّفة مع أعينهم وأدمغتهم، وتصيبهم بالدوخة أو وجع الرأس.

اقرأ أيضًا: قبلة على خد البرمجية

بعد معاينات لأدمغة أطفال الإنترنت أثناء قراءتهم للنص الورقي مرة، وللنص الرقمي على الشاشة مرة أخرى (القراءة الأولى خطيّة، والثانية شذراتيّة)، وبعد دراسات حديثة للتغيّرات التي حصلت في أدمغتهم جراء استخدامهم لألعاب الفيديو ذات الأبعاد الثلاثة ولوحات المفاتيح، يجوز التساؤل إن لم نكن أمام بدايات تغييرات فيزيولوجية، قد تقود بفضل قانون الاصطفاء الطبيعي من جيل لجيل، إلى نوعٍ بشريٍّ جديد: هومو إليكترونوس.

فعندما ترى بعض أطفال اليوم وهم يبعثون سرّاً نُصيصاً هاتفياً (SMS) من هاتفٍ محشورٍ في الجيب، من دون مشاهدة لوحة مفاتيحه، فيما هم يتحدثون معك في الوقت نفسه، ستستوعب أن ثمّة أشياء في بنى أدمغتهم تتغيّر، نحو الأفضل أحياناً، ونحو الأسوأ أحياناً أخرى.

اقرأ أيضًا: خيارات بودلير اليوم؟

فمن ناحية، قادت هذه التغيّرات إلى مَلكة "ذكاء الأصابع" حسب تعبير فريق أبحاث إيف كوبانس، المكتشف الشهير لِجسد جدّتنا لوسي في إثيوبيا، وإلى ما أشاد به من مواهب جديدة، اكتسبها أطفال الإنترنت في العلاقة بين العين واليد، وفي التفاعل مع الفضاء المحيط. ومن ناحية أخرى، فقدوا شيئاً من المقدرة على التركيز والتذكر بسبب إدمانهم الكمبيوتر والإنترنت، إدمانا، أعطى لهذه العبارة: "أحن إلى دماغي الذي سبق الإنترنت" قيمتَها ومحلَّها من الإعراب في عالم اليوم.

لهذا الجيل الجديد: القارئ الإلكتروني، هو كتاب اليوم بامتياز.
إذا ما هاجمْتَهم بمدح الكتاب الورقي والتغنّي برائحة الأوراق، فسيقولون لك إن رائحة الكافور تثير تقزّزهم، وإنك تمارس أشواق المومياءات، لأن الإنسان القديم كان يحنّ أيضاً لرائحة أوراق البردى والألواح الحجرية قبل صناعة الكتاب الورقي أيضاً، لكنها سنّة الحياة.
القارئ الإلكتروني، مثل كندل Kindle، غيّر حياة من له تجربة معه، لصالح القراءة الإلكترونية.

لأقولها من البدء: لا يعني ازدهار هذه الطريقة الجديدة في القراة موت الكتاب الورقي، كما كان يخشى الجميع. لكنها تجربة جديدة، مثلها مثل الهاتف الذكي الذي لم يقض على الهاتف الثابت، ولم يقض على الاتصالات. بل العكس: أدّى دوراً في مضاعفة تواصل الناس ببعضهم البعض، وفي تجديد حياة الهاتف الثابت.

اقرأ أيضًا: شكسبير إلى الأبد؟

كذلك، رغم اكتساح القراءة الإلكترونية للقراءة الورقية (حوالي 30٪ من مبيعات الكتب في أمبركا إلكترونية)، وأخذ الأولى عموماً نصيب الأسد من حياة الإنسان، لم يختفِ الكتاب الورقي، بل ازداد استخدامه في مجالات معينة مع ازدياد القراءة الإلكترونية في هذه المجالات نفسها. لكنه اختفى تقريباً في مجالات أخرى كالموسوعات، القواميس، معظم الكتب العلمية، وثائق المؤتمرات العلمية.

كلّ ذلك ضمن اتجاه عام لحضارة اليوم هدفه إلغاء الورق في المعاملات، عبر الرقمنة وإجراءتٍ عولمية لتوحيد صيغ وبروتوكولات تبادلها الرقمي، اسمه: Dématerialisation، أو: "الاسترقام"، حسب مقترح ترجمةٍ أنيقةٍ للمصطلح على وزن "الاستسقاء"، اقترحه الأستاذ فاروق مردم بيك.

مثل غيري، كنت من المتعصّبين للقراءة الورقية، ولي مثلهم معها طقوس وشجون وعلاقة غرامية حميمة تصعب خيانتها. لكن "الحياة تجري بما لا أشتهي"، وها أنذا أعيش بعلاقتين متناغمتين متكاملتين: القراءة الورقية والقراءة الإلكترونية على الكندل.

للثانية خصائص مغرية يستحيل عدم الوقوع في أحضان سحرِها. فشاشة القارئ الإلكتروني تستعمل تقنية "المداد الإلكتروني" المدهشة؛ إذ هي تشبه صفحة الكتاب من حيث كونها لا تبعث الضوء كشاشة الكمبيوتر واللهاتف الذكي والحاسوب اللوحي، لكنها تعكسه، تمامًا مثل ورق الكتاب.

ويمكن لذلك أن يصاحبنا القارئ الإلكتروني إلى الساحل تحت الشمس حيث تصعب قراءة كمبيوتر. فضلاً عن كونه خفيف الوزن مثل كتاب الجيب لا غير. ثمّ إن بطاريته، بسبب شاشته التي تكتفي بعكس الضوء وليس بصنعه وبعثه، اقتصادية جداً.

شاشة القارئ الإلكتروني الوردية، بتقنية مدادها الإلكتروني، مريحة جدًا للعين، جذابة جداً، قابلةٌ لتغيير مستوى إضاءتها العاكسة، ناهيك عن أن حجم بنط الحرف فيها يمكنه أن يكبر أو يصغر ليتكيّف مع كل عين، وهذا ما يستحيل عمله مع الكتاب الورقي بالطبع. ومن الخصائص شديدة الإغراء فيه هو أنك لا تحتاج معه إلى قاموس أو موسوعة للبحث عن معنى مفردة، أو تعريف مصطلح. يكفي أن تمس الكلمة بطرف أصبعك لتنفتح لك نوافذ جانبية تقدِّم لك معناها في القاموس، وما تقول عنها الموسوعة.

غير أن ذروة السحر هو أنك ترتبط، بفضل القارئ الإلكتروني، بملايين الكتب، ويمكنك أن تنزّل في الجهاز ما تريد من كتب ومن حيثما كنت، ومجاناً إن كان الكتاب غير خاضع للحقوق الفكرية بسبب أقدميته الزمنية.

في هذا الجهاز الصغير الذي يقل وزنه عن ربع كيلوغرام، يمكن شحن معظم كتب الدنيا والتسكّع معها في البيت والحمام والحدائق العامة والطائرات والمطاعم وسرير النوم!
بعد ارتباطي بالقارئ الإلكتروني تساءلت: بماذا أبدأ؟. اخترت كتاباً كلاسيكيّا مجانياً صغيراً قرأته خلال عدة ساعات قبيل النوم. تكرّرت التجربة اليوم الثاني مع "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست الذي أخذ عدة أيام ولذة فاقت لذة قراءته ورقيّاً، لاسيما وأن البحث عن معنى هذه المفردة الغامضة أو عن بعض التفاصيل الموسوعية لأخرى، بظهر في نافذة مؤقتة فوق المفردة، حال لمسها. تواصلت التجربة أكثر فأكثر، وانفتحت لي أبواب وعوالم جديدة.

ثمّ عاد لي هوَس القراءة بالعربية على الكِندل، والأسباب العميقة لعدم اندماجها في عالمه. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.