وتمكّن هذه الهواجس بدورها جميع المعنيين من متابعة ما ورائيات تجارب الكتابة الأدبية التي تشكل في المعتاد خلفية ثرّة لقراءة النصوص، سواء أكان القارئ على علم بها، أم لم يكن.
وتتعدّد الهواجس برسم التجارب المُعاشة المتعدّدة، وتعكس كل منها جدلًا غير متناه بين الخاص والعام، بين مسارات الحياة والمفترقات التي تستلزم استنباط الأدوات.
في حال ضيفة حوار العدد الحالي، الكاتبة العراقية إنعام كجي جي، فإن هذا الجدل يتبدّى في أفق العلاقة القائمة بين الكتابة الصحافية والكتابة الروائية، بقدر ما يحيل إلى الجوهر الواقف في صُلـب هذه الكتابة الأخيرة، الذي تقول إنه بالنسبة إليها محاورة مع النفس، تضيء لك بعض زواياها العصيّة حينًا، وقد تأمرك بالسوء أحياناً. وتضيف: "حين انتقلتُ إلى الرواية، بعد أربعين سنة من العمل في الصحافة، وجدتُ يدي تكتب روحي بيُسر".
كما تعكس هذه التجارب مقاربة كل مبدع حيال مداليل انشغالاته الرئيسية.
وأشدّ ما لفتني في مجرى حديثها بشأن هذه المقاربة، تأكيد التمسك برؤية مفادها أن الروائي ليس قاضيًا ولا واعظًا، إنما يمارس فن التمرير، وهو- برأيها- لعبة خطرة.
وبذا وضعت يدها على جدل آخر لم يُحسم، ومن غير المتوقع أن يُحسم يومًا ما.
اقرأ أيضًا: توظيف الدلالة
كم من الروائيين العظماء كانوا قضاة أو واعظين؟ وهل ثمة تعارض بين الروائي كفنّـانٍ وكواعظٍ؟
في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت (2015) صادفت الذكرى السنوية الـ115 لوفاة ليو تولستوي أحد أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، الذي يعدّه البعض من أعظم الروائيين على مرّ العصور برغم أنه بدأ مسيرته فنانًا وأنهاها واعظًا.
ويُحكى أنه في سنة 1869، وبعد أن انتهى من كتابة رواية "الحرب والسلام"، مرّ ليو تولستوي (1828- 1910) بأزمة روحية عميقة، نتيجة حادثة حصلت له أثناء رحلة عبر مدينة أرزاماس التي تقع على أحد الأنهر وتبعد حوالى 250 ميلًا إلى الشرق من موسكو. ووصف تلك التجربة في قصّته "مذكّرات رجل مجنون". وقد اختار لها هذا العنوان، كما صرّح بنفسه، لأنه كان مقتنعًا بأن القرّاء سيجدون القصّة غير قابلة للتصديق (أطلق كاتب روسي آخر هو مكسيم غوركي في توصيف هذه التجربة عبارة "رعب تولستوي في أرزاماس").
وبحسب ما تم تناقله، كان فحوى تلك الحادثة ما يلي: بعد ساعات قليلة من منتصف إحدى الليالي استيقظ تولستوي من نومه وقد استولى عليه اليأس والرعب كما لم يحدث له من قبل. وبعد أن سأل نفسه عن سبب خوفه وحيرته، جاءته الإجابة سريعًا: "أنا هنا!". ولم يكن المتحدّث سوى الموت. وقيل في ما بعد إن تولستوي كان يواجه حتمية موته نتيجة أزمة منتصف العمر، ويشعر بالرعب والهلع من سلطة الموت.
اقرأ أيضًا: حصاد فكري
وظلّت ذكرى تلك الليلة المؤرّقة تلازم تولستوي بقيّة حياته، وأصبح مشغولًا بشكل دائم بـ"فكرة الفناء". وعندما كتب اعترافاته بعد ذلك بعشر سنوات تساءل: "هل يبقى لحياتي أيّ معنى في ظلّ حتمية اقتراب الموت؟". وانهمك في تأمّلات طويلة وشاقّة. ووصفت زوجته سونيا التي عانت معه طويلًا ما حدث قائلة: "كثيرًا ما كان يقول إن دماغه يؤلمه. كانت هناك عملية موجعة تجري في داخله، وكان كلّ شيء بالنسبة له قد انتهى، وحان الوقت كي يموت".
تتابع الحكاية أن تلك الأزمة لم تنته إلا بعد أن تحوّل تولستوي جذريًّا عن الديانة المسيحية. وكانت هذه تجربة غيّرت كلّ أفكاره تقريبًا. وأعلن عن تحولّه ذاك سنة 1881 في كتاب أسماه "اعترافات". وضمن مقطع من يوميّاته التي كتبها آنذاك، يقول: "إن الموت الهادئ تحت تأثير طقوس الكنيسة شأنه شأن الموت تحت تأثير المورفين".
رأى بعض النقّـاد أنه بعد ذلك توقّف تولستوي عن النظر إلى نفسه كفنّان وبدأ يكتب عن الدين والسياسة، وأصبح يدعو إلى اللاعنف والحياة البسيطة. كما أخذ مريدوه يتردّدون عليه لسماع آرائه عن الحياة وللوقوف على تجاربه في تطبيق أفكاره.
واعتبرت رواية "موت إيفان إيليتش" أوّل عمل أدبيّ مهم كتبه تولستوي بعد تحوّله الديني هذا، وانطوت على مواجهة مع مشكلة الموت ومعنى الحياة، وعلى سخرية حادّة من أسلوب حياة أفراد الطبقة الوسطى الحديثة كما يجسّدها بطل الرواية، معربًا عن الاعتقاد بأن الذين يتبنّون هذا الأسلوب غير قادرين على مواجهة الموت لأنهم لم يفهموا الحياة.
أُعجب البعض بالرواية بسبب رسالتها الأخلاقية القويّة، لكن بعضًا آخر رأى فيها "بداية النهاية" لتولستوي كفنّان، وأنه بمجرّد أن بدأ يؤدي دور الواعظ الأخلاقي، فقدت كتاباته تعقيدها ووهجها وأصبحت "ذات بعد واحد".
وما يزال الجدل بشأن العلاقة بين المبدع كفنّـانٍ وكواعظٍ مستمرًا إلى يومنا.