}

لنفقأ عيون الخوف

هيفاء بيطار هيفاء بيطار 22 يناير 2020
آراء لنفقأ عيون الخوف
لوحة "رعب الحرب" للرسام الهولندي بيتر بول روبنز(Getty)
بعد تسع سنوات من المأساة السورية المُروعة والتي اتفق الجميع على أن يُطلقوا عليها اسم مأساة القرن أحاول أن أنظر نظرة بانورامية محايدة للوضع الحالي في سورية، وبما أنني أعيش في اللاذقية حيث قوة النظام تتجلى بأقوى مظاهرها فقد لفتتني ظواهر عديدة مُخيبة للآمال فعلاً كما لو أن البعض تناسى كم من الدم السوري أريق على أرض سورية! وتناسوا كيف نزح أكثر من ثلث الشعب السوري إلى بلاد الله الواسعة، وسأسرد بعض الشهادات بمصداقية وشفافية دون أن أعلق عليها بل أترك للقارئ التعليق.

1-    في تصفح لصفحة الفيسبوك وصفحات التواصل الاجتماعي نجد أن أكثر من 90 بالمئة من الأشخاص (خاصة من يعيشون في الساحل السوري وتحت سيطرة النظام) يكررون كل يوم كالببغاء انتقادهم لوزير الكهرباء، ويشكون من شح الكهرباء وبالتالي الغلاء الفاحش للبطاريات والشواحن التي يضطر البعض (من يملك مالاً) لشرائها، وحتى هذه البطاريات باهظة الثمن لا تشحن بسبب الانقطاع المديد والطويل لساعات للكهرباء. سقف الحرية لمعظم السوريين في الساحل السوري تحديداً هو تنويعات الشتائم لوزير الكهرباء. لدرجة لو جمعنا كتابات هؤلاء الأشبه بالردح والشتائم على وزير الكهرباء لحصلنا على كتاب.

لا يجرؤ أحد من هؤلاء على انتقاد ضابط أمن، حتى أن كلمة (أمن) بدل أن تشيع الأمان والطمأنينة في النفوس تجعل الفرائص تتقصف ذعراً. والمُريع أن يبلغ الخوف والذل حداً مُهيناً لدرجة مقرفة للكرامة الإنسانية، وواجبي الأخلاقي أن أحكي عن معلمة في إحدى مدارس اللاذقية غير متزوجة ولكنها مولعة بابن أخيها الشاب الذي مات تحت التعذيب في المعتقلات في سورية، يومها انهارت وصارت تشدّ شعرها بقوة وتضرب على صدرها متفجعة وهي تصرخ: أخذوا مني روحي!! يا لروعة الفعل المبني للمجهول في اللغة العربية! فهي في قمة تفجعها وانهيارها لم تجرؤ أن تقول من القتلة! بل حمت نفسها لاشعورياً من أذى مُحتمل أو مؤكد بالأمان الذي يؤمنه لها الفعل المبني للمجهول. كان ألمها عاصفاً ومُروعاً وقد فقدت الوعي عدة مرات من شدة حزنها على الشاب (ابن أخيها) الذي مات تحت التعذيب. وتوقعت أن تفقد عقلها، لكن الأغلب أنني أنا من سأفقد عقلي في وطن اللامعقول سورية، إذ أن المعلمة إياها وبعد أشهر من وفاة الشاب ابن أخيها تحت التعذيب في معتقلات النظام شاركت في احتفال في ساحة المدرسة وانهمكت بالدبكة (رقصات الولاء الإلزامية) بمناسبة إحدى المناسبات الوطنية (أظن الحركة التصحيحية)!!! يومها وقفت مذهولة أحاول فهم سلوك تلك الإنسانة التي مُسخت إنسانيتها وكرامتها، كيف استطاعت أن تدبك وترقص وتزغرد ربما وهي تدرك بكل خلية في جسدها بأن ابن أخيها الشاب (الذي تقول عنه ابني) قد مات تحت التعذيب في معتقلات النظام!!! أظن أن علم النفس سيتمكن بعد جهد وتحليل نفسي عميق من تفسير تلك الظاهرة. لعلها خافت إن لم تشارك في رقصات الولاء الإلزامية (وهو تعبير استعرته من رواية ’بجعات برية’ التي تحكي عن الصين وديكتاتورية ماو تسي تونغ)، أن تفقد وظيفتها أو أن يكتبوا فيها تقريراً يقدمونه لأحد فروع الأمن وتتهم بالخيانة.

2-    رغم أن اللاذقية صارت مُروعة بقذارتها وبهضاب القمامة في كل شوارعها وما يعني ذلك من أمراض وأوبئة، حتى أنني نشرت صوراً عديدة لهضاب القمامة في عدة شوارع في اللاذقية، فإن الخوف يجعل الكثيرين يضعون صوراً لبعض الشوارع (متقصدين ألا تظهر هضاب القمامة فيها) ويكتبون تحت الصور: اللاذقية الجميلة، وهذه العبارة مبطنة تماماً بعبارة الولاء للنظام ولا يُمكن فهمها إلا بتلك الطريقة، كما لو أنهم غضوا النظر عن جبال الزبالة وإهمال البلدية وأخذوا يتغنون بجمال اللاذقية الآمنة لأن النظام يحميها بمساعدة روسيا. لا أنكر أن اللاذقية كانت جميلة وثمة مناطق فيها جميلة جداً، ويكفي بحرها الوحيد الذي لم يُعتقل ولم يصبه الأذى هو سر جمالها، لكن الإصرار على وضع عدة صور كل يوم على صفحات التواصل الاجتماعي وكتابة عبارة (اللاذقية الجميلة) هو يعني تماماً إعلان الولاء التام للنظام كأنه هو من وهبنا اللاذقية الجميلة!!! فعلينا أن نشكره.

وأحب أن أذكر حادثة ذات دلالة مُخزية، فمنذ أيام كنت في التاكسي لأزور صديقة غالية وتوجب على سائق التاكسي أن يمر في منطقة فقيرة للغاية ومُهملة للغاية اسمها قنينص، وروعني منظر طابور من الشبان والأطفال والكهول يقفون تحت المطر الغزير والبرد القارس وبجانب كل منهم جرة غاز، كانوا ينتظرون أن يأتي دورهم ليحصلوا على جرة غاز وأصررت على السائق أن يتوقف لأصورهم فرفض!! فغضبت منه وسألته: بأي حق لا تتوقف وتمنعني من تصوير هؤلاء السوريين الذليلين! فرد ببرود وهو يكمل القيادة: شو بدك من هالصور. فصرخت: ’لتكون مخابرات’!! فضحك وقال: لا أنا أمن عسكري. ومنعني من تصوير الحشد الشعبي السوري الذي ينتظر أياماً للحصول على جرة غاز والجائع حتى نخاع عظامه أمام الغلاء الفاحش وانهيار الليرة، لكنني تمكنت من التقاط صور لهضاب القمامة في منطقة قنينص، وعرضتها على صفحتي على الفيسبوك وكانت تعليقات الكثيرين (هيدا شعب زبالة !!!، وهيدا شعب تعود على الزبالة!!!). روعتني تلك التعليقات الجبانة الخائنة، وكتبت: عيب أن تقولوا عن أي شعب أنه زبالة، لأن الزبالة الحقيقية هم المسؤولون في البلدية، وحتى حاويات الزبالة التي تطفح دوماً بمحتوياتها لا تفي حاجة المواطنين، وهي غير مبطنة بأكياس نايلون سميكة لذا بعد إفراغها تبقى طبقة سميكة جداً من سخام الزبالة التي تعتبر مستودع جراثيم وأمراض، وأصبح مؤكداً ارتفاع نسبة السرطانات في الساحل السوري، بسبب الزبالة وبسبب الكيماوي والفوسفوري والسماوي الذي تلقته الأرض السورية والمزروعات فيها وتأثيرها على الناس فهي مواد مُشعة شديدة الخطورة.

3-    بعد عبارة (اللاذقية الجميلة) التي تتكرر يومياً كتحية الصباح، أصبح العديد من ذوي الأحوال المادية الجيدة (الأغنياء خاصة) يتجاهلون عمداً الواقع المزري الوحشي القسوة الذي يعيش فيه معظم الشعب السوري فيقيمون حفلات غداء فاحشة البذخ ورحلات إلى مناطق عديدة في سورية وخاصة دمشق وينزلون في أفخم الفنادق ويتباهون بأطايب الطعام والحلويات والتباهي باللباس الأنيق المُهرب من تركيا ويعيشون نشاطات مفرطة الترف وبدون ذرة إحساس بآلام الآخرين، من يطلع على صفحاتهم يجد صور البذخ والترف الفاحش وبين تلك الصور عدة شتائم ناعمة لوزير الكهرباء ينتهي أغلبها بعبارة: حسبي الله ونعم الوكيل!!!!

4-     هذا الخنوع وانعدام الكرامة وشعار الحياة (الحيط الحيط ويا رب السترة) وتبلد الأحاسيس تجاه الشعب السوري (إخوتنا في الإنسانية والمأساة) واختيار السكوت عن الظلم الفاقع، هو هزيمة الثورة السورية وهزيمة شعب تاق للحرية والكرامة والعيش الكريم وبناء مستقبل لأولادهم.

الهزيمة الحقيقية ألا يشعر السوري بمأساة أخيه السوري وفي الإنسانية بل يدير له ظهره ويتعامل معه كأنه وباء، خاصة إذا كان الآخر السوري عالي الصوت في الجهر بالحق ويملك ضميراً، وكم يوقفني أناس لا أعرفهم في الطريق يقولون لي: أعذرينا نحب ما تكتبين لكن لا نجرؤ أن نضع لك لايك. أضحك وأؤكد لهم أنني أعذرهم، لأن كلمة لايك على عبارة تمس ما يسمونه هيبة الدولة كافية لُيشحط صاحب اللايك إلى أجهزة الأمن وربما لعقوبات أخرى. المؤلم والمخزي أكثر أن يتحول قسم من الشعب السوري إلى يهوذا الخائن الذي سلم المسيح للصلب، وأن يقول هؤلاء اليهوذا: الشعب السوري زبالة بدل أن يقولوا المسؤولين عن نظافة المدينة زبالة. وأخيراً ثمة من يسألني دوماً: "أنت مش بتخافي مم تكتبين!!!"، أرد: طبعاً أخاف لكنني وصلت إلى مرحلة القرف من الخوف. وأريد أن أفقأ عيون الخوف وهو ما أتمنى أن يفعله شعبي السوري كله.. وأنوه أن هذه العبارة كانت عنوان محاضرتي في هولندا، السنة الماضية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.