}

التنوير مشروعًا للراهن العربي

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 12 يناير 2021
آراء التنوير مشروعًا للراهن العربي
نقش لابن رشد يعود إلى 1867 في كاليفورنيا (Getty)
تقديم
نشأت حركة التنوير في الفلسفة، واتخذت منذ بداية تشكلها على أيدي الموسوعيين من الكتَّاب والفلاسفة في فرنسا، شَكلَ الفعالية الاجتماعية الهادفة إلى مواجهة مجموعة من القيم والخيارات الدينية والسياسية. وعكست في نصوص كتابها ما يعبر عن أنماط من المجابهة، بين الوعي الجديد وبين التقاليد الدينية السائدة. وقد تشكلت وتطورت في أوروبا القرن الثامن عشر، وبرزت بوضوح في كل من فرنسا وألمانيا، وإن كانت إرهاصاتها الأولى قد ظهرت قبل ذلك في بريطانيا. ثم تواصل انتشارها واتساعها في جهات أخرى من العالم ابتداء من القرن التاسع عشر.

الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو (1713 - 1784) 

انخرط التنويريون في مشروع فكري يتوخى أولًا، وقبل كل شيء، إنجاز نقد شامل للدين وللمجال الديني، وذلك باعتماد سلطة العقل، كما تبلورت وتطورت في الفلسفة الحديثة. وأصبح الدارسون لا يترددون في مرادفة التنوير بالنقد والنقد بالتنوير، وقد انصبت اهتمامات أغلب فلاسفة الأنوار على مخاصمة مختلف التقاليد، التي بناها اللاهوت المسيحي في مختلف مجالات الحياة في العصور الوسطى، وتعززت خياراتهم في الفلسفة، بفضل ما واكبت من ثورات وتحولات علمية وسياسية في أوروبا الحديثة، حيث اقترن مشروعهم الفلسفي بالإصلاح الديني، وبثورات الفيزياء والفلك والرياضيات، كما اقترن بالتطور الذي عرفته الجامعات والصناعات في الغرب الأوروبي، خلال القرنين الثامن والتاسع عشر.
كان من نتائج الثورات العلمية بدايات التخلص من كثير من التصورات والتقاليد اللاهوتية في مختلف المعارف، في اللغة وفي التاريخ، وفي كيفيات النظر إلى الطبيعة وموضوعاتها. وكذلك مواد الموسوعة التي أُعِدَّت في أفق الأنوار، حيث طلب مدير أحد المكتبات من ديدرو ترجمة موسوعة في الفنون والعلوم، صدرت في بريطانيا عام 1728، فاختار أن يُصْدِر بدلًا من الترجمة موسوعة مماثلة لها. وتعاون في ذلك، مع صديقه العالم الرياضي وعضو أكاديمية العلوم دلامبير، وقد صدر مجلدها الأول عام 1751، بمقدمة لِدلامبير عنوانها: في أصل العلوم وتصنيفها، اعتبرت بمثابة بيانها العام.

الفيلسوف الفرنسي جان لورون دلامبير (1717 - 1783) 

ساهم في تحرير مواد الموسوعة، أزيد من 130 كاتبًا من الأكاديميين والأساتذة والأطباء والمحامين ورجال الصناعة. وكانت تتوخى لعب دور في إصلاح الحياة السياسية والاجتماعية، والمساهمة في التمهيد لميلاد مجتمع جديد، وقد شَكَّلَت إطارًا عامًا لمعرفة المسارات التي عكست أشكال تجاوز المعرفة الجديدة، لمنطق العقائد والممارسات الدينية وانتصارها مقابل ذلك، للعقل والعقلانية. وقد أصبحت فلسفات الأنوار بفضل معاركها وخياراتها المذكورة، من أبرز مرجعيات الفكر الغربي المعاصر.
لم تتبلور فلسفات الأنوار في فكر نسقي على شاكلة فلسفات ومذاهب القرن السادس والسابع عشر، ولم تنتج منظومات مماثلة لما عهدناه في الديكارتية والهوبزية والسبينوزية. ومقابل ذلك، عمل فلاسفة الأنوار على تركيب جملة من المعارف المفتوحة على الحياة والقيم، متوخين من وراء ذلك القيام بدور اجتماعي يروم نشر الأفكار المساعدة في عملية إشاعة قيم العقل والنقد، إشاعة وتعميم التنوير، حيث بُنِيت ورتَّبت كثير من معالم التنوير باعتباره أفقًا في النظر، يتوخّى مواجهة التقاليد والطقوس المهيمنة في المجتمع وفي الثقافة، وذلك بالشكل الذي يُقلِّص من درجات قصور الإنسان أمام ذاته وأمام الطبيعة والتاريخ. وتمثلت فتوحاتها الكبرى في العناية البارزة التي أولتها لقضايا الإنسان والتاريخ والتقدم.



أولًا: التنوير مشروع في الفكر ما يفتأ يتأسس
عندما نتحدث عن قيم التنوير ونعتبرها اليوم مشروعًا للحاضر العربي الكوني، فإننا لا نتحدث عن قيم جاهزة وتامة، قيم تبلورت واكتملت في زمن مضى، قدر ما نشير إلى أفق في الفكر

والتاريخ وجملة من المبادئ النظرية العامة التي تخص البشر. صحيح أن مفهوم الأنوار يحيل إلى مرجعية فلسفية محدَّدة، إلا أنه لا أحد يستطيع أن يقطع باكتمال هذا المشروع في أوروبا موطن تبلوره الأول، ولا في باقي مجتمعات المعمورة، وقد سعت في أغلبها وفي أزمنة مختلفة إلى امتحان قيم الأنوار في سياقات تاريخها الخاص، الأمر الذي أنتج خلال مراحل التاريخ الحديث والمعاصر، جملة من التصوُّرات المركِّبة لعمليات الاستيعاب المتعدِّد والمطوّر لقيم التنوير. إن مفاهيم وقيم الأنوار كما نتصورها ونفكر فيها، تستوعب ذلك وتتجاوزه، وذلك بناء على معطيات التاريخ الذي ساهم في تبلورها، وَتَبَلْوُرِ مختلف المكوِّنات المتناقضة والمتصارعة، التي نشأت وما فتئت تنشأ في سياقات صيرورتها.
نتصوَّر أن التنوير في الفكر والسياسة، كما رُكِّبت أسئلته ومفاهيمه ونصوصه الكبرى، في الغرب الأوروبي خلال القرون الأربعة الماضية، وإن أفضى إلى جملة من النتائج المتناقضة، إلا أنه ساهم في خلخلة كثير من اليقينيات. لقد ظل في روحه العامة مجرد أفق في النظر، مستوعب لجوانب من تحولات الفكر والسياسة كما حصلت في التاريخ. إنه ليس عقيدة، رغم أن فلسفات التنوير بلورت جهودًا في النظر إلى الطبيعة والإنسان والدين، مختلفة في كثير من أوجُهها عن تلك التي رسخت أنماطها أشكال الفكر السكولائي، التي سادت فلسفات العصور الوسطى.
وُسِم القرن الثامن عشر بعصر النقد، بحكم انخراط فلاسفته وكُتَّابه في مشروع نقدي شامل، وخاصة في المجالين الديني والسياسي. وإذا كنا نعرف الهيمنة التي كانت للدين في أوروبا العصور الوسطى، وإلى حدود مرحلة الإصلاح الديني في عصر النهضة، أدركنا اتساع مجالات النقد في مشروع الأنوار، كما عكستها وعبرت عنها أعمال ﭭﻭلتير (1694-1778)، وديدرو (1713-1784)، ولسنج (1729)-1781)، ودلامبير (1712-1778)، وروسو (1712-1778)، وكانط (1724-1804)، وغيرهم.

الفيلسوف السويسري/ الفرنسي جان جاك روسو (1712 - 1778) 

استوعبت مقالة ديدرو عن الكتاب المقدس المنشورة في الموسوعة، جردًا لأبرز خطوات النقد الضرورية لفحص الوحي وسياقاته التاريخية واللفظية، وشكلت أحد أوجُه مواقف التنوير من الدين وخطاباته ومؤسساته. إلا أنه يجب الانتباه إلى أن النقد في مدونات الأنوار، لم يقتصر على الوحي وعلى الفكر الديني والمؤسسات الراعية له، والسلطة السياسية المستبدة، بل ذهب أبعد من ذلك، فبرزت المعالم الكبرى لحقوق ومواثيق خارج دائرة الحق الإلهي للملوك ووصاياه رجال الكنيسة، كما تبلورت أخلاق لا علاقة لها باللاّهوت، وسياسة تتوخَّى تحويل الرعايا إلى مواطنين، إضافة إلى خطوات أخرى، تُعْنَى ببناء مبادئ جديدة في مجالات التربية والتعليم.
ساهمت جهود الفلاسفة في الغرب الأوروبي ابتداء من القرن السابع عشر، في رسم بعض

أسس ومبادئ فلسفة الأنوار، ساعدهم في إنجاز هذه المهمة انفتاحهم على مكاسب العلوم الجديدة، التي واكبت ثورات المعرفة والمجتمع منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر. ونفترض أن التحولات التي يعرفها عالمنا اليوم، في المعرفة والتقنية وفي مجال القيم، تستدعي بدورها لزوم إعادة التفكير مجددًا في مبادئ وقيم التنوير، بهدف مزيد من توسيع وتطوير مكاسبه، في ضوء إشكالات الحاضر وتناقضاته وكذا مستجداته.
إن قوة الموقف الفلسفي الذي حمله ويحمله مشروع التنوير، تتمثل أولًا وقبل كل شيء في الوعي بمبدأ المخاطرة الإنسانية، الساعية إلى التغيير استنادًا إلى قيم بديلة لقيم التقليد المتوارثة، حيث فجرت مغامرة البحث الإنساني، ابتداء من عصر النهضة، آفاقًا واسعة أمام العقل البشري، الأمر الذي ترتب عليه تبلور مجموعة من القيم المعرفية والأخلاقية الجديدة، في المسائل المتعلقة بالطبيعة والإنسان والمستقبل. وقد ألَحّ كانط وهو يتحدث عن الأنوار على استقلالية العقل الإنساني، كما ألح على تحليه بالإقدام وتجاوزه لحالة الاعتماد على غيره، وإذا كانت مجتمعات الغرب الأوروبي قد ساهمت منذ ما يزيد عن أربعة قرون، في عملية بناء هذه القيم، فإن هذه المسألة لا ينبغي أن تجعلنا ننسى أهمية التراكمات التاريخية المتعددة، التي أنجزتها مجتمعات أخرى خارج القارة الأوروبية، وهي تحاول تمثل وامتحان هذه القيم، مُسْتَوْعِبَةً مختلف المكاسب التي راكمتها التجربة الأوروبية، وذلك في ضوء الأسئلة والقضايا المرتبطة بشروطها التاريخية والثقافية، الأمر الذي يجعلنا لا نتردَّد في إضفاء الطابع الكوني، على ما أصبحت تمثله اليوم هذه القيم في مختلف أرجاء عالمنا، بعد أن تَمَّ اختبار جوانب عديدة من إجرائيتها، ومعرفة حدودها ومحدوديتها، خلال القرنين الماضيين في ثقافة كثير من المجتمعات.


ثانيًا: في تَحوُّلات عقلانية الأنوار
لم تكن مواقف فلاسفة الأنوار وخياراتهم النظرية موحدة ولا متشابهة دائمًا، وهذا الأمر بالذات، يُعَدُّ من فضائلها. وعندما نُتابع المنجز النظري لروسو على سبيل المثال، نجد أن كثيرًا من آرائه لا تنسجم مع الاندفاعات التنويرية ذات المنزع الوضعي. وقد شكَّلت دعوته المتعلقة بالعودة إلى الطبيعة كما شَكَّل إعلاؤه من قيمة التربية والفنون، ما يمكن اعتباره بمثابة موقف من حماس كثير من الأنواريين للتقدم. وكان لكثير من عناصر فلسفته صدى واسع في الفكر والتنوير الألمانيين.
عرفت فلسفات التنوير خلال القرون الثلاثة الماضية إشكالات عديدة، سواء في أشكال تطورها أو في صوَّر تمثُّلها، وكذا في مسألة تراجُع درجات الإقناع والاقتناع بالأدوار التي تحملها قيمُها. وقد ساهم تحويل بعض هذه المبادئ والقيم إلى مطلقات داخل الفضاءات المتحمسة والمنفعلة بمآثر التنوير، إلى الابتعاد عن روح التنسيب الْمَقْرُونَة بخياراتها الفلسفية. وإذا كان فعل العقلنة في فلسفة الأنوار يروم تحرير الإنسان، فإن المسار الذي اتخذه الخيار العقلاني في المجتمعات البرجوازية بعد ذلك، حيث تَحَوَّل العقل والعقلنة إلى مجرد أداة لخدمة مصالح بعينها، ساهم في تركيب عبوديات جديدة مختلفة عن عبودية اللاّهوت وعبودية التقاليد.. ويمكن أن ندرج النظرية النقدية الجديدة لهوركهايمر (1895-1973)، وأدورنو (1903-1969)، وهما معًا ينتميان إلى مدرسة فرانكفورت في البحث الاجتماعي، في باب نقد السياسات التي تمارسها الأنظمة الشمولية باسم العقل والتقدم. وقد قاما في كتاب مشترك لهما بعنوان جدلية التنوير بالبحث في أصول الأنظمة الشمولية، ليؤكدا وجود علاقة بين العقل الأداتي وبين جنون الأنظمة المذكورة والتنوير. وهو ما يمكن إدراجه في مجال النقد السلبي للتنوير، مقابل النقد الإيجابي الذي نجده في بعض أعمال كل من ماكس ﭬﻳﺑﺭ وهابرماس، وقد اجتهدا في مواجهة منتقدي عقلانية الأنوار، وبناء حركة تنوير جديدة، أخذت متغيرات عصرنا بعين الاعتبار، لحظة تفكيرهما في صيرورة ومآلات مشروع التنوير.
نجد أثناء متابعتنا لتاريخ التنوير في الفكر الغربي، مجموعة من المواقف النقدية التي اتجهت إلى إبراز حدود ومحدودية قيمه. نعثر في أعمال نيتشه على نقد للتصور الأنواري للتقدم وللتاريخ، وتستوعب الروح الساخرة لأعماله، نقدًا لمفهوم الخلاص كما صاغته الأديان والفلسفات المثالية، ولم تستطع أدبيات الأنوار المادية والمعنية بمختلف مجالات الحياة التخلص منه. وقد حَرِص نيتشه وهو ينتقد فكر الأنوار، على بناء فكر يقوم على تمجيد ورطة الإنسان في الوجود. كما أن هناك من اتجه للدفاع عن الطابع المتفائل لعقلها الأداتي، ولاندفاعاته التي كشفت جوانب معينة من صلاته بالأنظمة الشمولية وبالاستعمار، حيث تَمَّ الربط بين الأنوار وبين الطابع المدمِّر للعلم والتقنية، وقد وضَّح هؤلاء أن مسار الأنوار جعلنا ننتقل من مبدأ التسامي بالعقل إلى توظيفه النفعي، في الصراعات والحروب.
تصاعدت وتيرة نقد الحداثة والتنوير في فلسفات ما بعد الحداثة، وإذا كان البعض قد تحدث عن خسوف العقل وانطفائه، فإن الانتقادات الصادرة عن الفلسفات المذكورة،  حاولت إبراز محدودية نقد الأنوار، وبناء بدائل له تقوم على مفردات أخرى تسمح بأداء أدواره، مثل الهدم والتقويض والتفكيك، أي محاصرة مركزية العقل والانفتاح على أدوات فكرية جديدة توسِّع أنماط اشتغاله. ويمكن أن نوضح هنا، أن بعض هذه المواقف تنطلق من صوَّر التوظيف والتوجيه، التي عَمِلَت في فلسفات أخرى على ربط صورة العقل والعقلانية بخيارات سياسية

محدَّدة، مُغفلةً أن مآثر العقل والعقلنة ومكاسب العلم والتقنية ومختلف مكاسب الأنوار والتنوير، يمكن استخدامها لخدمة السلام والتضامن والتعاون، كما يمكن توظيفها في الحروب والصراعات، حيث نجد أنفسنا أمام إشكالات أخرى لا علاقة لها بالتنوير وقيمه.
يتواصل نقد فلسفة الأنوار في الفكر المعاصر من منظور يتبنى أصحابه بعض مقدمات الأنوار، ويتطلعون إلى ضرورة إعادة النظر في منظومته النظرية، في ضوء ما لَحِق المجتمعات المعاصرة من تحولات وثورات، وهي تواصل التفكير في العقل والحرية والعدالة. وضمن هذا الأفق، تبلور نقد إيجابي لإرث التنوير، فوجدنا هابرماس يحاول في أعماله تعزيز تفاؤلية الأنوار، وذلك بإسنادها بعقلانية الماركسية، معتبرًا أن الكوارث الكبرى الحاصلة في القرن العشرين لا علاقة لها بفلسفة الأنوار، كما ظن مؤسسو النظرية النقدية الجديدة في مدرسة فرانكفورت، بل إنها دليل على غياب العقل. وقد ساهمت أعماله في تطوير عقلانية الأنوار، مستعينًا في ذلك باﻟﭭﻳﺑﻳﺭية والفلسفة النفعية والفلسفة الماركسية.
يرى هابرماس أن العقلانية التواصلية تعد الطريق المناسب لتنوير القرن العشرين، إنها بديل للعقلانية الأداتية، التي انتقدها هوركهايمر وأدورنو في جدلية التنوير، وانتقدها ماركوز في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"، الأمر الذي يفيد، أن النظرية النقدية الجديدة تحولت في النهاية إلى حركة تنوير جديدة، حركة تعكس الملامح الكبرى للتنوير في القرن العشرين.

 

على سبيل الختم: في الدفاع عن مآثر العقل والنقد
انتبهت الثقافات غير الغربية بدورها إلى محدودية بعض خيارات قيم التنوير وتناقضاتها، وحاولت بلورة نقد يتوخى إعادة بناء بعض مبادئه، في ضوء معطيات ثقافية وتاريخية مخالفة للسياقات التاريخية المؤطرة لعمليات تشكُّله، الأمر الذي ساهم في تطوير وتوسيع بعض مبادئه، بالصورة التي منحتها وتمنحها مرونة أكبر وإجرائية أوسع. وقد ساهم ذلك في تحويل الأفق الأنواري إلى أفق كوني، تساهم ثقافات عديدة بامتحانها له في عمليات تصليب مبادئه وتدعيم خياراته.
نحن نشير إلى بعض ردود الفعل التي عكست بعض مستويات تفاعل الثقافة العربية مع فكر الأنوار، في نهاية القرن التاسع عشر، وخاصة مع جمال الدين الأفغاني (1838-1897)

في رسالته التي يرد فيها على الدهريين ويدحض خياراتهم، وذلك مقابل تمجيده لشمولية وسُمُوِّ قيم الإسلام. وقد تمظهر الموقف نفسه، بالمفردات نفسها، مع تلوينات بسيطة من قبِيل الدّهراني بدل الدّهري، في نهاية القرن الماضي ومطالع هذا القرن، في أعمال الباحث المغربي طه عبد الرحمن، التي تناول فيها ما أَطْلَق عليه بؤس الدهرانية وشرود ما بعد الدهرانية، مبرزًا أهمية الأخلاق الروحانية، أخلاق صبوات الذكر والأذكار، في الحياة الإنسانية.
وإذا كان البعض يرى اليوم من منظور عقائدي، أن نموذج التنوير الغربي المحكوم بشروط وسياقات وأسئلة محددة، والمفتوح على أسئلة التاريخ وتحولاته المتواصلة قد استنفد زمانه، حيث يعيش الغرب اليوم مآزقه الأخلاقية والمالية والبيئية والتقنية.. وحيث نقف في كثير من أنماط حضوره على جوانب من بُؤْس عالمنا وإفلاس قِيَمه، إلا أننا نرى أن الفكر الذي يُخاصم الأنوار، لِيَتَحَصَّن بالقيم التقليدية ويُرَكِّب الأصوليات مجدَّدًا، أصوليات الدين والسياسة، متخليًا عن دروس ومآثر التنوير في نقد الدوغمائيات، وفي عمليات التحرر من قيود اللاّهوت القديمة والمستجدَّة، يتناسى أن قيم التنوير كانت وما تزال تشكل عتبة مركزية ضمن مشروع في الحداثة والتحديث، مشروع تاريخي مفتوح ويمتلك القدرة على إبداع وتطوير مساراته المتعدِّدة، كما يمتلك القدرة على المواجهة المستمرة لأعطابه، ولهذا السبب بالذات وضعنا لهذه المقالة العنوان الذي تحمله.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.