}

التنوير وتحرير الدين

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 23 فبراير 2021

القرآن، في منحاه العام، ترجيعة متجددة، متسارعة، متنامية لنغمة واحدة، ردَّة عنيفة على صدمة مروِّعة وكشفٍ مذهلٍ (..)
الألفاظ، المُثُل، المجازات والتشبيهات، كل ألوان الخطاب المستعملة في القرآن، وما أكثرها، لا تخرج عن هذا المنحى. القاموس متجانس واحد.                                                                                                                    عبد الله العروي

المفكر عبد الله العروي 


في الحاجة إلى مواصلة التنوير
لا نعثر في فلسفة الأنوار، كما تبلورت وتطورت منذ القرن الثامن عشر، وإلى يومنا هذا، سواء في الغرب الأوروبي، أو في صور ومستويات تَلَقِّيها في الفكر العربي المعاصر، على موقف واحد من الدين والعقائد والطقوس الدينية. وإذا كانت ثقافة الأنوار، على وجه العموم، كما نشأت في الفلسفة الحديثة، قد حَرِصَت على نقد الدين، ونقد اللاهوتي المسيحي، ومختلف النزعات السكولائية الموروثة عن العصور الوسطى، فإن موقف الكتَّاب والفلاسفة الموسوعيين الفرنسيين لم يكن واحدًا من الدين، ومن الدين المسيحي الذي كان موضوع مراجعتهم ونقدهم. وينطبق الأمر نفسه، على مختلف التنويريين الألمان. صحيح أنه كان يجمعهم الدفاع القوي عن العقل وقيَمه، وأن هذا الأخير شَكَّل الخلفية النظرية الناظمة لمشروعهم في التغيير والتنوير.

انصب اهتمام التنويريين على مخاصمة مختلف التقاليد، التي بناها اللاّهوت المسيحي في مختلف مجالات الحياة في العصور الوسطى. وتعززت خياراتهم في بناء مفاصل هذا النقد، بفضل ما واكبت من ثورات وتحولات علمية وسياسية في أوروبا الحديثة، حيث اقترن مشروعهم في التنوير بالإصلاح الديني، وبثورات العلم، كما اقترن بالتطور الذي عرفته الجامعات والصناعات في الغرب الأوروبي، خلال القرنين الثامن والتاسع عشر. أما التنويريون العرب الذين دافعوا عن تيارات العقل والتنوير، تحت تأثير رياح التأورب التي هبت زمن المدّ الاستعماري، فقد اتسمت أعمالهم بدعواتها الهادفة إلى الانخراط في التاريخ العالمي الجديد، الذي أصبح عنوانًا لحقبة تاريخية كاملة. فتبلورت تيارات في الفكر تدعو إلى استقلال المجال السياسي عن الدين. نحن نشير هنا إلى أعمال فرح أنطون، ولطفي السيد، وعلي عبد الرازق، وسلامة موسى، وطه حسين، وإسماعيل مظهر. فقد كان في ذهن كل من فرح أنطون، وسلامة موسى، على سبيل المثال، أن المعركة واحدة هنا وهناك، وأدوات المواجهة واحدة، كما أن المستقبل واحد. ونعثر في نصوص "المنتخبات" (1937) للطفي السيد على كثير من ملامح عقلانية التنوير، أثناء نقده للتقليد ودفاعه عن العقل والحرية.
يتجه اليوم جيل من الأنواريين الجدد، وقد استعانوا بالمكاسب الجديدة لدروس الفلسفة والاجتماع، إلى قَبُول فكرةِ حيويةِ الدين في المجال العمومي. كما يتجه آخرون للدعوة إلى ضرورة تطوير منظومة الأنوار، ومواصلة التفكير والبحث في الحرية والعدالة بأدوات عقلانية، الأمر الذي نتصوَّر أنه يساهم بقوة في تطوير عقلانية الأنوار ومنظومتها القِيَمِيَّة. ويمكن أن نُدرج ضمن هذا السياق، خيارات هابرماس ورولز، حيث شَكَّلت عقلانية هابرماس التواصلية بديلًا من العقلانية الأداتية، التي تعرضت لكثير من النقد في القرنين الأخيرين.

إذا كان كانط قد أبرز في كتابه الدين في حدود مجرد العقل، أن المؤسسات الدينية تُعَدُّ بمثابة بُؤرٍ للاستبداد الروحي، وأنها تساهم في تدمير الحرية، فنحن اليوم، جميعًا، مطالبون في ضوء التحولات الجديدة، التي لحقت الدين والمجتمع طيلة القرنين الماضيين، لمواصلة التفكير في حرية العقيدة وفي الدين المدني، من دون إغفال التفكير، أيضًا، في صور العَوْدات الجديدة، الرامية إلى استحضار المُقَدَّس، وتبرير استمراريته في حاضرنا، بصور وأشكال لا حصر لها.
لا يتعلق توظيف المقدس في الحاضر بالمجتمعات العربية وحدها، ذلك أن المنافسة بين المستثمرين في الحقل الديني في أفريقيا قوية، وهي منافسة بين الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام الوهابي والطرقية، وجميعها تكشف تحول الولاءات الدينية. كما تكشف مرونتها، ولعلها في العمق تكشف، أيضًا، هشاشتها، وصلاتها القوية بتطلعات الأفراد والجماعات المادية والرمزية إلى كل ما هو طوباوي، أي إلى كل ما يساهم في لحم الوجود الفردي والعلائق الجمعية، إنها تدعونا في العمق إلى التفكير في كيفيات تحرير الدين.
ما يزال المشهد الديني والثقافي في العالم العربي يقدم الدليل على صور الحصار السياسي والذهني السائدة في أغلب المجتمعات العربية. وما تزال حاجتنا إلى بناء مشروع عربي في باب حرية الاجتهاد، في النصوص الدينية والسنة النبوية، وبخاصة عبر النظر إلى تاريخانية الظاهرة الدينية أينما تجسدت. ذلك أن تحرير المجتمعات من الجمود، وإعادة تكوين القدرة على الخلق والإبداع، لا يمكن أن يتما إلا عبر تعميم النظرة التاريخية المقارنة في الثقافة العامة. لقد استمر الفكر العربي أسيرًا لموقفين متنافسين: التبعية المطلقة والسطحية لنموذج الثقافة الغربية، أو العداء المطلق لها، وفي الموقفين معا كثير من البؤس بلغة هشام جعيط.

في راهنية سؤال العلمانية
نعترض على أشكال التوظيف التي تمارس اليوم على الإسلام في مجتمعاتنا، ونواجه صور البلبلة والخلط التي تزداد اتساعًا في أزمنة المحافظين الجدد، (تيارات الإسلام السياسي) وتابعيهم من الجهاديين والسلفيين، والمقاومين للغطرسة الغربية بأسلحة التجييش الأعمى، ولغات الأزمنة القديمة. ومقابل ذلك، لا نستبعد مكاسب الروحانيات الجديدة الصانعة اليوم لكثير من مزايا عصرنا، في التقنية والمعرفة والفن، وفي الجمال. نحن نشير هنا إلى الجماليات والفنون ومبتكرات التقنية البانية لمآثر العالم الكبرى في عالمنا. وعندما نستحضر مواقف كل من فولتير، وروسو، وكانط، وهابرماس، من أجل مواصلة التفكير في الأنوار في الحاضر الكوني، مع ضرورة التمييز بين مطلب الدين المدني، ومطلب تحرير الدين في ثقافتنا ومجتمعنا. ونستحضر مواقف العروي، وهشام جعيط، في الموضوع نفسه، وفي أسئلة الثقافة والمجتمع العربيين، نكون بصدد مواصلة التفكير انطلاقًا من قناعات متعددة في موضوع التنوير وفي حاجتنا إليه.

لم يترجم عبد الله العروي نص دين الفطرة لروسو (2012) في إطار تمرين في الترجمة، بل إن ترجماته الأخيرة لبعض نصوص روسو ومونتسكيو ترتبط بمشروعه في النهوض العربي، ومساعيه الهادفة إلى الانخراط النقدي في عمليات مواصلة تأسيس الثقافة الكونية، في صور وحدتها وتنوعها.. وهو مشروع انخرط فيه بحماس منذ ستينيات القرن الماضي، إنه يعي جيدًا أن معطيات نص روسو وتصوراته للدين والإيمان الديني، تندرج ضمن منظور مفكري عصر الأنوار للمجتمع الجديد، حيث كان يدور نقاش فلسفي حول حرية العقيدة والدين الطبيعي. أما أبرز الخلاصات التي ركبها التصور الفلسفي الأنواري للدين الطبيعي، فيمكن ضبطها في عنصرين أساسين، يتمثل أولهما في إعطاء الأولوية للعقل، ويتمثل الثاني في مبدأي الوضوح والبساطة. وإذا كان بعض دعاة الدين الطبيعي ينكرون الوحي، فإن روسو منح في تصوراته الدينية مكانة خاصة للضمير الأخلاقي. وقد اعتنى العروي في المقدمة التي مهد بها لترجمته بجانب ما ذكرنا، وذلك لوعيه التام بالأهداف الموجهة لترجمته.
نعتقد أن إعادة التفكير مجددًا في العلمانية وأسئلتها في الحاضر العربي هو موضوع يتمتع اليوم براهنيته، ويعكس جوانب من أوجُه الصراع القائم في مشهدنا السياسي. نقترب منه ونفكر فيه، بحكم أنه يرتبط بكثير من أسئلة تحولنا، انطلاقًا من المآثر التي أحدثتها في مجتمعات أخرى قبلنا، مع محاولة للتخلص من النظرة الاختزالية والإسقاطية السائدتين في موضوعها. ولن يحصل ذلك من دون سند تاريخي يعي جيدًا مختلف لوينات المفهوم، تَعَدُّدِيَّته ومختلف الصور التي واكبت عمليات تشكُّله وإعادة تشكُّله في التاريخ الحديث والمعاصر، مع عدم إغفال مسألة النظر في أنماط علاقته بموضوع الدولة وموضوع الدين. ولا يتعلق الأمر هنا بالدولة والدين في صورهما المجردة والمتعالية، بل بنمط الدولة الوطنية الحديثة، وهي تنشأ في العالم الحديث، ثم وهي تنتقل بعد ذلك إلى محيطنا الثقافي والاجتماعي، محاولةً ضبط المجال العام، وتدبير مقتضياته. كما يتعلق بالدين، وقد اتخذ في التاريخ صُورَةَ مُؤَسَّسات حاضنة وراعية لكثير من الطقوس والسلوكات، إنه يتعلق بالكنيسة ومراتبها وأدوارها التاريخية، كما يشير أيضًا، إلى كل ما ترتَّب على أدوارها في المجتمع والثقافة، بما في ذلك الحروب الدينية، وتجارب الإصلاح الديني، وما تولَّد عنها من إرهاصات صانعة لملامح مجتمع جديد.
ويمكن أن نضيف إلى كل ما سبق أن مسألة العلمانية تتعلق في تجارب أخرى، بمعطيات ومؤسسات مختلفة عن مؤسسات المسيحية واليهودية في التاريخ. نحن نشير هنا إلى واقع الحال في مجتمعاتنا، إننا نشير إلى مؤسسة المسجد ومجلس العلماء وهيئة الإفتاء، كما أننا نشير إلى الزوايا والطرق الصوفية وأضرحة الصالحين، وجمعيات الإحسان الخيرية، كما نشير إلى القائمين على كل ما ذكرنا، والمدبِّرين لصناديقه ومواسمه. كما يمكن أن نذكر صراعات المذاهب والتأويلات، وكلها قضايا تمكِّننا من إعادة التفكير في التنوير انطلاقًا من قضايا ومؤسسات وتاريخ، رغم أن الأمر يرتبط في النهاية بالجذور المشتركة بين كل الأديان، وهي جذور وأصول نحرص على إخفائها والسكوت عنها، لنمنح عقيدتنا تميزًا يبعدها عن ديانات التوحيد.. إن استحضار المشترك في ديانات التوحيد والكتاب، يساهم في مواجهة ومحاصرة انتقادات ومواقف الذين ما زالوا يرون في كل ما حاولنا تشخيصه وإبرازه من معطيات واقعية ونظرية، جملة من المعطيات المستوردة والوافدة، وهي في نظرهم تخص الآخرين وحدهم، وذلك رغم محايثتها لتاريخنا واستمرار حضور تجلياتها في حاضرنا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.