}

كيف تُحوكم الدولة في مصر موظّفيها؟

أحمد عبد الحليم 16 أبريل 2021
آراء كيف تُحوكم الدولة في مصر موظّفيها؟
(نرمين حكيم)
في اليوم الأول من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، وافق البرلمان المصري على قانون فصل الموظفين المُنتمين فكريًا وتنظيميًا إلى الجماعات المُدرجة على قوائم الإرهاب من وظائفهم الحكومية، في خطوةٍ جديدة نحو مزيد من فرض حالة استثناءٍ تُعاقب أي مُعارض للنظام المصري الحالي، وفي إقبال أكثر توسّعًا لحوكمة مُوظفي الدولة المصرية. يُضفي هذا القانون بُعدًا آخرًا لطريقة تعامل النظام المصري الحالي مع موظفي الدولة، ما يجعلنا نستدعي تنوّعات وطغيان السردية العقليّة لدى الموظف المصريّ في السياق التاريخي (ما بعد 1952)، وصولًا إلى كيّفية حوكمة واستغلال الموظفين مِن قِبل النظام الحالي.

 

عقلية الموظف في السياق التاريخي

صاحبَ قيام الجمهورية المصرية عام 1953، إلى أن استقرّ الحكم في يد الرئيس جمال عبد الناصر، التوسّع في جهاز الدولة الإداري، وزيادة فضاءات العمل التابعة للدولة سيّما بعد التأميم. نتج عن ذلك زيادة عدد الموظفين في تلك القطاعات، ليشكّلوا كتلةً ليست هيّنة في التأثير بالسلب أو الإيجاب على نظام الدولة الحاكم. من وقتها وُلدتْ علاقة سياسيّة بين نظام الدولة المصريّة وموظّفيها، علاقة سيطرة على الموظفين من قِبل الدولة التي أظهرت توحّشها مبكرًا (منتصف الخمسينيات) في حقِّ مُعارضيها، وذلك عن طريق تسلّط الأجهزة الأمنية والاستخباراتية على الموظفين وشؤونهم وآرائهم العامة والخاصّة بشأن تقييم نظام الحكم [1].
بقيتْ انتماءات الموظف العاديّ تابعة للأنظمة المتتالية للنظام الناصريّ، يُقصد هنا بالعاديّ. أي الموظف في المجالس المحليّة، وإدارات المُحافظات، والهيئات المخلّصة لأوراق المواطنين من السجلّات العقارية والتجارية، وغير ذلك من المصالح التي تتّبَع وزارتيّ العدل والداخليّة. من ناحيةٍ أُخرى شكّلت النقابات، الأطباء، المهندسون، المعلّمون، الصحافيّون، العمّال، فضاءً أكثر حرّيّة لما توفّر في البعض من أعضائها من أيديولوجيّات إصلاحيّة مُعارضة لسياسات النظام الحاكم، سواء كانت أيديولوجياتٍ إسلاميّة، كما في نقابة الأطباء والمهندسين، وأُخرى ليبرالية ويساريّة كما في نقابتيّ الصحافيين والعُمّال.




أسّسَّ النظام الحالي (نظام ما بعد 23 تموز/ يوليو) لسياساتٍ رقابيّة قمعيّة لجميع تلك المصالح والنقابات، وأدرك النظام خطورة الكتلة التي تتموّضع في الجهاز الإداري للدولة، وسَلَكَ عدّة سياساتٍ تمنع وقوعه فريسةً لها، على حدِّ تعبير الاجتماعيّ الألمانيّ ماكس فيبر [2]. فقام بتعيين الكثير من العسكريين المٌتقاعدين في المفاصل الإدارية المدنيّة في الدولة، مثل تولّي رئاسة المحافظات. حيث ضمّت حركة تنقّلات محافظي المدن المصريّة عام 2019، 11 عسكريًا تابعًا للجيش والشرطة، فضلًا عن تولّي الكثير من الجنرالات العسكريين المتقاعدين رئاسة المجالس المحليّة في كثيرٍ من المناطق، بالإضافة إلى موافقة مجلس النوّاب في تموز/ يوليو 2020 على تعيين مستشار عسكري لكلّ محافظة مصريّة. أمّا النقابات فقد تمّ قصِّ ريشها عن طريق اعتقال البعض من أفرادها، وفصل البعض الآخر، وتصعيد مَن هُم مقرّبون من النظام لسدّة قيادتها.

السلطة والموظف

من المتُعارف عليه في الأوساط المصرية محدودة ومتوسّطة الدخل، أن الموظّف في جهاز الدولة الإداري، أيًّا كانت وظيفته، يمتلك قدرًا كبيرًا من الأمان المعيشي، لما يتمتّع به من دخلٍ ماليٍّ ثابت يأتيه كلّ آخر شهرٍ، فضلًا عن التأمين الصحي الذي يوفّر له أغلب احتياجاته الطبّية من فحوصاتٍ وأدوية. وهذا ما تمتّع به الموظفون المعتقلون من النظام، فحين يتمّ القبض على الموظف المصري، إثر قضايا سياسيّة لا يتمّ فصلّه من العمل، بل يأخُذ نصف راتبه من الدولة، لحين الفصل في القضية من قِبل المحكمة، فلو تمّت براءته، يرجع إلى عمله ويأخذ نصف المرتب الآخر بأثرٍ رجعيّ، أمّا في حالة الإدانة والحكم عليه، فيمنع من أخذ الراتب نهائيًا. لكن، بعد انقضاء مدّة عقوبته وخروجه، يٌسمح له مرّةً أُخرى بالعودة إلى عمله في حالة ألّا تكون القضيّة مُخلّة بالشرف.


أما في حالة تطبيق قانون فصل الموظف إثر انتماءاته الفكرية والتنظيميّة، ففي الغالب ستضيع تلك الحقوق، فبمجرّد اعتقال الموظف على ذمّة قضيّة سياسيّة، وحتى قبل إدانته من قبل المحكمة، تستطيع الجهة الحكومية المعنيّة بشأنه أن تفصله من عمله، وتحرمه من نصف راتبه، بل وتحرمه من وظيفته بالكلّية بعد خروجه سواء في حالة البراءة أو الإدانة، وذلك طبقًا للقانون، وقرار الهيئة الإدارية المعنية بوظيفته، فضلًا عن تحرّيات النيابة العامة.
سبق هذا القانون إجراءات سُيّرت بشكلٍ لا رسميّ. لكن، كانت تعليماتٍ من الإدارات العُليا في المصالح الحكوميّة، مثل النشرات الشفاهيّة التي وزّعت على عامّة الموظفين، والتي تحثّهم على منع الحديث في السياسة. كذلك تنقّلات الموظفين بين المصالح الحكومية في المناطق المُختلفة، بالإضافة إلى إمضاء الإجازات، مؤخرًا باتت تتمّ بإشرافٍ أمنيّ، ولا يتمّ التصريح للموظف بالتنقل أو الإجازة إلا بعد موافقة الجهة الأمنية.
تعمّق هذا التدخل الأمني سيّما عند انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19)، حيث كانت المستشفيات تُدار بالتدخل من الجهات الأمنية، ووصل الحال أنّ رجال أمنٍ كانوا يتحدّثون بشكلٍ مباشر مع المرضى بعد خروجهم أو أثناء رحلة علاجهم داخل المستشفى، كذلك المنع عن طريق الأمر لأي موظف داخل المستشفيات من التصوير أو الإدلاء بتصريحات لجهاتٍ إعلامية وصحافيّة، وإلّا جرى إحالته للتحقيق، أو حتى اعتقالهم وإحالتهم للتحقيق بتهم نشر أخبار كاذبة والانتماء لجماعة أسست على خلاف القانون كما حدث للكثيرين.




في آب/ أغسطس من العام الماضي، عندما مات الدكتور وقياديّ الإخوان المسلمين عصام العريان في محبسه إثر أزمة، نعته نقابة الأطباء، وذلك كونه عضوًا فيها قبل اعتقاله، لكن سُرعان ما مسحت النقابة منشور النعي، وألحقت منشورًا للاعتذار، مؤكدةً أن هدف النعي ليس سياسيّا، بل كان نعيًا مهنيًا خاطئًا، استوجب بعد ذلك مسحه والاعتذار عنه.
لا يكتفي النظام بالمُراقبة والسيطرة فقط، بل يسعى للاستفادة من تلك الكتلة البشريّة الهائلة عند الاستفتاءات أو الانتخابات التي يُديرها، فبعض المصالح الحكومية كانت تُخرج الموظفين قبل ميعاد انصرافهم الأساسي، للذهاب إلى لجان الاستفتاء، والإدلاء بصوتهم سواء في التعديلات الدستورية، أو الانتخابات الرئاسية أو البرلمانيّة. وكانت بعض المصالح بأمر من الإدارات العُليا تُخرج موظّفيها ككتلة واحدة ويمشون مع بعضهم البعض إلى مقرّ إحدى اللجان، حتى تصنع الكاميرات من أجسادهم المُتجمّعة خبرا صحافيا دالًا على زخم التصويت أمام مقرّ اللجان.


بالإضافة إلى الغرامات المالية التي تسنّها الحكومة قبل ميعاد كلّ انتخاب، سواء استفتاء دستور، أم انتخابات رئاسية أو برلمانيّة، يخاف الموظّفون تحديدًا عن بقيّة الجماهير من تلك الغرامة، حيث يظُنّ البعض منهم، أنّه ربما تُخصم تلك الغرامة من راتبهم آخر الشهر، كذلك الخوف من الوصمة داخل العمل الوظيفي، لأن ذهاب الأفراد للانتخاب يظهر على الإصبع بواسطة الختم، يقلق بعض الموظفين من الشكّ فيهم، بسبب أنّ عدم ذهابهم إلى الانتخاب يُدرجهم تحت خانة "يكٍّ" مع المُعارضة وعدم تأييد النظام، فيذهب البعض حتى وإن أبطلوا أصواتهم داخل اللجان، لكنّهم بذلك رفعوا شُبهة الانتماء للمعارضة أو أي جماعات سياسيّة يُعاديها النظام. هذا بالطبع لا يشمل جميع الكتلة الوظيفية، فمنهم من يُؤيّد النظام ويتبنّى سردياته السياسيّة في إدارة الحكم دون أيّ ضغط.
بتلك السياسات التي أجراها النظام الحاليّ، استطاع إلى حدّ كبير أن يُسيّطر على الكتلة الوظيفية التي تُقدّر بما بين 6 إلى 7 ملايين إنسان، لما يُمسكه عليها من امتيازاتٍ، كَالدخل الثابت، والتأمينات الصحيّة والمعاشات، في ظلّ سواد الفقر، وغلاء احتياجات المعيشة، فضلا عن الهلع الدائم من الاعتقال، بالإضافة إلى القانون الجديد الذي يُهدد بشكل كبير حياة المُعتقل الذي خرج لتوّه ليستلم وظيفته، فيكون مُهدّدًا بعدم الرجوع، أو حتى الفصل بعد الرجوع لرؤية الجهاز الإداري للوظيفة أنّه ما زال على صلةٍ بالأفكار والتنظيمات المُدرجة على قوائم الإرهاب.

 

مصادر:

1- طارق البشري، جهاز الدولة وإدارة الحكم في مصر المعاصرة، دار نهضة مصر للنشر، القاهرة 2013، ص 74.

2- الجمهورية، الديمقراطية عند ماكس فيبر، بابلو سيمون، تموز/ يوليو 2014

 *كاتب مصري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.