}

محمد سبيلا.. صوت انتصر للحداثة والتحديث

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 17 سبتمبر 2021

 

(1)

فَقَدَ الفكر المغربي مؤخرًا الأستاذ الباحث محمد سبيلا (1942-2021)، فَقَد واحدًا من أبرز المدافعين عن الفلسفة ومكاسبها، باحثًا أخلص لدروس الفلسفة ومآثرها، وظل منذ سبعينيات القرن الماضي حريصًا على التصدي للمواقف التي تخاصم الفلسفة ورموزها في ثقافتنا. سنستعرض  في هذه الشهادة المكثفة بعض أوجُه حضوره وعطائه، متوخين من وراء ذلك، تقديم إشارات سريعة ومختزلة عن أهم الجهود التي بنى في الفكر المغربي والعربي، لِنُبرز كيف حَوَّل حضوره الجامعي في البحث والكتابة إلى أفق صانع لكثير من منجزاته الفكرية، في الإحاطة بتيارات الفلسفة المعاصرة ترجمة وتأليفًا، وفي الدفاع عن روح الفلسفة باستماتة وجرأة، إضافة إلى إسهامه الكبير في عمليات تكوين وتأطير مجموعة كبيرة من الباحثين الشباب، الذين يواصلون أعماله اليوم، في أقسام الفلسفة والعلوم الإنسانية داخل الجامعات المغربية.

ينتمي محمد سبيلا إلى المجموعات الأولى من خريجي قسم الفلسفة بالجامعة المغربية، حصل على الإجازة سنة 1967، من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ومارس تدريس الفلسفة بالتعليم الثانوي إلى حدود سنة 1970، ثم التحق بقسم الفلسفة المستحدث بكلية الآداب بفاس، وكانت إذ ذاك فرعًا تابعًا لكلية الآداب بالرباط. وقد أصبح رئيسًا لشعبة الفلسفة فيها من سنة 1972 إلى سنة 1980، ثم انتقل في ثمانينيات القرن الماضي إلى الرباط. وقد عرف الرجل بخياراته التقدمية ودفاعه عن الحرية والتحرّر، وشكلت دافع نضالاته السياسية في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ثم الاتحاد الاشتراكي بعد ذلك، إضافة إلى مواقفه النقابية داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في ستينيات القرن الماضي، ما حدَّد جوانب هامة من شخصيته القاعدية وخياراته الكبرى في الفكر والعمل.

دفعه تكوينه الفلسفي ووعيه السياسي المتحرر لبناء خيارات ومواقع محدَّدة، سواء في دائرة الحزب الذي ارتبط به، والنقابة الطلابية التي صقلت قدراته في العمل السياسي، وظل وفيًا لقيمها ولمختلف الآفاق التي فتحت أمامه سنوات التكوين في الجامعة. وهو ينتمي إلى جيل لا يقيم مسافات فاصلة بين المثقف والباحث، وأنشطة المجتمع والتاريخ والتقدم، يسير على خطى المفكرين الكبيرين عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، وذلك من موقع مختلف عن موقعهما، بحكم أنه لم يكن مؤرخًا، ولم يكن يهتم كثيرًا بالتراث الإسلامي.. ومقابل ذلك، يوجه سهام نقده للتقليد والتقاليد وينتصر للحداثة والتحديث، ينتصر للنقد والتنوير فيلتقي بهما معًا، ويرسم بطريقته الخاصة دروبًا تجعل آثاره تتقاطع وتتكامل مع جوانب عديدة في مشروع كل منهما.. وقد شكَّل وعيه الحادّ بقيود التقليد، الصانعة لكثير من أوجُه عطالة مجتمعنا وتأخرنا التاريخي في الثقافة والسياسة، بمثابة دافع إلى توجيه سهام نقده في كل ما كتب لحصون التقليد الإسمنتية العالية.. فسار على خطى من ذكرنا، وبنى أطروحات ومواقف تعتمد أولًا وقبل كل شيء، كثيرًا من أصول ومآثر الفلسفة المعاصرة وفتوحاتها الكبرى. وقد شَكَّل مع مجموعة من الباحثين في الفلسفة من مجايليه داخل كلية الآداب بالرباط، ما ركَّب إسهامًا هامًا في مجال توطين وتوسيع خطاب الفلسفة ومفاهيمها في الفكر المغربي المعاصر، تنوَّعت اهتماماته وتقاطعت مع رفاقه ومجايليه، حيث أصبحت آثارهم اليوم، تسمح بإمكانية الحديث عن توسيع وترسيخ قيم الفلسفة في مجتمعنا وثقافتنا.



(2)

أنجز محمد سبيلا أطروحاته الجامعية وهو يمارس التدريس، فقد كان قدر الأجيال الأولى من الباحثين في الجامعة المغربية الجمع بين البحث والتدريس، التكوين واستكمال التكوين. وقد ساهم هذا الأمر، في تعزيز الآفاق الفكرية التي ارتبطت بسنوات تكوينه الجامعي طالبًا ثم أستاذًا باحثًا، وذلك في علاقة وتفاعل مع مختلف التحولات التي عرفها المجتمع المغربي وعرفتها الجامعة المغربية. إضافة إلى استمرار متابعته للتطورات الكبرى، التي ما فتئت تحصل في تاريخ الفلسفة والفلسفة المعاصرة على وجه الخصوص.

سينتقل محمد سبيلا كما أشرنا، في زمن لاحق سنة 1982، من كلية الآداب بفاس إلى كلية الآداب بالرباط، وكان إذاك قد مَرَّ بتجارب عديدة، ورسم لنفسه في تفاعل مع مختلف تحوُّلات المجتمع والثقافة في المغرب وفي العالم، خيارات في الفلسفة والسياسة والتاريخ.. وقد أتاح لنا العمل المشترك في شعبة الفلسفة ما يزيد عن ثلاثة عقود، كثيرًا من صور التعاون والبناء، خاصة وأن تعليم الفلسفة تعرض في المغرب منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي لكثير من التهميش، حيث تَمَّ ربط التطلعات السياسية الإصلاحية المناهضة للتقليد والحكم المطلق بدروس الفلسفة وقيم العقل والتاريخ والعدالة. وقد حرص الأستاذ محمد سبيلا على مواجهة خصوم القيم المذكورة، بمزيد من الانفتاح والعمل على مآثر الفكر المعاصر، ومزيد من الانخراط الملتزم في رسم المعالم الكبرى لثقافة الحداثة والتحديث في الثقافة المغربية والعربية، ثقافة المستقبل التي لم تعد هناك إمكانية للهروب منها.

وما ساهم في توطيد علاقتنا، انخراطنا معًا في التدريس والبحث، وانخراطنا في الآن نفسه، في التعاون داخل فضاء المجلس القومي للثقافة العربية (1982-2011)، وهو مؤسسة عربية انتقلت إلى الرباط من باريس سنة 1984، وعملت على رعاية خيارات الثقافة القومية بروح منفتحة على مكاسب الفكر والسياسة في عالم متغير. كان المجلس القومي يضم مجموعة من الباحثين والخبراء من مختلف البلدان العربية، متوخيًا مواكبة التحولات الجارية في العالم وداخل المحيط العربي، وقد حرص على القيام بأنشطة ثقافية متوخيًا دعم الأفق الوحدوي في الثقافة العربية. ساهم محمد سبيلا في مختلف أنشطة وأعمال المجلس، مستفيدًا من تجربته السياسية وتكوينه الفلسفي، ومختلف الدروس التي تعلم طيلة مسيرته في التدريس الجامعي. وفي مجلة الوحدة الشهرية التي كانت تصدر عن المجلس، يمكن أن نقف على كثير من المساهمات الفكرية التي كان يحرص على نشرها في أعداد المجلة.

تَعَاوَنَّا معًا في المجلس القومي للثقافة العربية، سواء في دائرة الإشراف على الأبحاث والندوات أو في هيئة تحرير الوحدة، وساهم وجودنا في المجلس صحبة مجموعة من الزملاء، ومن أبرزهم محمد أحمد خلف الله، إلياس مرقص، أحمد اليابوري، مصطفى القباج، جورج طرابيشي، أحمد السطاتي، ربيع مبارك، محي الدين صبحي، نور الدين أفايا، محمد عياد.. ساهم في إبراز كثير من المزايا الفكرية التي كان يتمتع بها، وطيلة ما يقرب من عقد من الزمان 1988-1996، ظل المرحوم فاعلًا عضويًا ضمن مشاريع وأعمال المجلس، ندواته ومنشوراته وكثير من افتتاحيات وأبحاث المجلة الناطقة باسمه.

لم يتوقف محمد سبيلا عن العمل داخل الأفق الذي رسم لنفسه، في الدفاع عن الفلسفة، نقد التقليد والتقاليد، مُخَاصمة الفكر المحافظ والدعوة إلى إبراز القيود التي يمارسها في الحاضر العربي. ولهذا السبب نوَّع مراكز حضوره، انخرط إلى جانب حضوره الجامعي في العديد من المؤسسات الثقافية والإعلامية، بهدف بناء مواقف تساعد على اختراق إسمنت التقليد والتقاليد، ومختلف القيود التي تَحُول دون انخراط مجتمعنا في الحاضر والمستقبل.

ترأس الجمعية الفلسفية المغربية ابتداءً من سنة 1994 وإلى سنة 2006، وظل طيلة سنوات إشرافه عليها حريصًا على إعداد الأنشطة التي تستحضر مزايا الفكر الفلسفي في الثقافة المغربية والعربية، كما حَرِص على إيقاع صدور مجلة الجمعية حوارات فلسفية، التي احتضنت جهود واجتهادات الفكر الفلسفي المغربي في تنوعه وغناه، وتعدُّد الآفاق التي رسم في الفكر المغربي والعربي. أشرف على تحرير جريدة الزمان ومنشوراتها، كتب مقالات عديدة في جريدة الاتحاد الاشتراكي، كما شارك في هيئة تحرير دورية المشروع في صيغتها الأولى في ثمانينيات القرن الماضي، وشارك في أنشطة اتحاد كتاب المغرب. وكان يكتب طيلة تسعينيات القرن الماضي مقالات في الثقافة والسياسة، في جريدة الحياة اللندنية.. مارس الترجمة والتأليف طيلة خمسة عقود دون كلل، وظل أفق تحديث الفكر المغربي والفكر العربي الموضوع الأثير لديه..




(3)

لنقترب أكثر من بعض الآثار التي نسج بعناية الباحث الطموح والمدافع بكثير من العنفوان عن قيم التاريخ المعاصر، في الفكر والسياسة والعلم والتقنية. لنقترب من هواجسه، أعماله وكتبه وحواراته، أسئلته ومختلف النصوص التي رَكَّبَ انطلاقًا منها أفقًا في الفكر، حيث ظل مؤمنًا طيلة حياته بجملة من القيم المرتبطة بأسئلة مجتمعه وتطلعاته..

تنوَّعت مجالات إنتاجه، مارس التأليف والترجمة، كما مارس تأطير عشرات الباحثين في الفلسفة المعاصرة وفي قضايا ترتبط بمجال العلوم الإنسانية. ويمكن أن نقسم أعماله إلى مؤلفات وجه فيها عنايته نحو الاقتراب من أسئلة الحداثة والتحديث، حيث قارب الموضوع من زوايا نظرية متعددة، كما أنتج مقالات تطبيقية اهتم فيها بإشكالات التحديث في المغرب وفي العالم العربي. وأبرز مؤلفاته في هذا الباب: مدارات الحداثة (1987) - الأصولية والحداثة (1998) – الحداثة وما بعد الحداثة (2000) - دفاعًا عن العقل والحداثة (2002) - مخاضات الحداثة (2007) - الشرط الحداثي (2020).

ترك مجموعة من الأبحاث التي يمكن إدراجها في دائرة النقد الفلسفي لبعض الظواهر في مجتمعنا وفي العالم المعاصر، أبحاث في نقد التقليد والنزعات الدينية المتطرفة، وأخرى في الدفاع عن التنوير وإبراز مآثره في حاضرنا وفي الحاضر الكوني، وذلك في مواجهة الإيديولوجيات والمواقف المغلقة والمتشددة. وقد حرص في هذه الأعمال على مواكبة تحولات الدرس الفلسفي المعاصر، والاستفادة من مفاهيمه وأدواته المنهجية، وندرج في هذا المجال أعماله الآتية: المغرب في مواجهة الحداثة (1999) – في الشرط الفلسفي المعاصر (2007) – في تحوُّلات المجتمع المغربي (2011).

ولأن الفقيد ظل طيلة سنوات عمله مواكبًا للمتغيرات السياسية الجارية في مجتمعنا وفي العالم، فإنه لم يتوقف عن الكتابة السياسية، حيث واصل مساءلة مختلف المتغيِّرات السياسية الجارية في عالمنا، محاولًا تشريح أبرز هذه المتغيِّرات وساعيًا في الوقت نفسه، إلى مواصلة الدفاع على ضرورة استيعاب المكاسب الفلسفية والسياسية والتقنية، التي تعد اليوم العنوان البارز في عصرنا.. ظل طيلة سنوات إنتاجه يدافع عن الفلسفة والتاريخ والتقنية ويتغنَّى بإمكانية بناء مجتمع عادل. وقد أنجز في هذا الباب، مصنفات نعتبر أنها نصوص النضج في مساره الطويل في الكتابة والبحث، وهي نصوص يستعين فيها بتكوينه الفلسفي، وكفاءاته العالية في الكتابة والتحرير والمساءلة والنقد، ومن بينها: السياسة بالسياسة (2000) – زمن العولمة وما وراء الوهم (2005) – حوارات في الثقافة والسياسة (2006).

أما الترجمة فقد اعتنى بها في بداية إنتاجه وخلال سنوات تدريسه الأولى في الجامعة، ومن أبرز النصوص التي ترجم نذكر: الفلسفة بين العلم والإيديولوجيا، لألتوسير (1974) – التقنية، الحقيقة، الوجود، لمارتن هايدغر (1984) – نظام الخطاب، لميشيل فوكو (1986) – التحليل النفسي، لكاترين كليمان (2000).

شكَّل هَمُّ توسيع نشر الفلسفة في الثقافة المغربية أحد الهواجس الكبرى في حياته، وقد حَرِص على نشر سلسلة من الكتب في صورة مفاهيم (أكثر من عشرين كتابًا) بالاشتراك مع الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، وهي عبارة عن نصوص مختارة بعناية، بعضها قاما بترجمته وبعضها الآخر مُسْتَلٌّ من ترجمات أخرى. وكانا يحرصان في هذا العمل على إدراج نصوص من الفلسفة العربية والفكر العربي المعاصر.. وقد ساهمت هذه الأعمال الموجهة للطلبة وعموم القراء، في توسيع صوَّر انتشار وتداول الخطاب الفلسفي في المدرسة والجامعة.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.