}

وداعًا عبدالرحيم أبو حسين.. كتابة التاريخ بمنظور نقدي تنويري

سليمان بختي سليمان بختي 27 يونيو 2022
آراء وداعًا عبدالرحيم أبو حسين.. كتابة التاريخ بمنظور نقدي تنويري
عبد الرحيم أبو حسين/ بورتريه لـ أنس عوض(العربي الجديد)

كان المؤرخ عبد الرحيم أبو حسين (1951 ـ 2022) الذي غيبه الموت في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، إثر مضاعفات عملية جراحية في الشريان الأورطي، يتوخى منهجية تتصدى للتاريخ اللبناني، لا بل تتمرد على التاريخ العام. يهمه أن تتفكك الأساطير التي تسعى إلى رسم صورة مضخمة للجماعة المتخيلة. تأثر أبو حسين بأستاذه ومعلمه كمال الصليبي (1929 ـ 2011)، وسار على هديه في الكشف عن تاريخ ما أهمله التاريخ، وأن يرى دائمًا أن التاريخ هو الحياد، هو التجرد، هو التخلص من التأثيرات والمؤثرات الفكرية والاجتماعية.
ولد عبد الرحيم أبو حسين عام 1951 في بلدة نوبة، شمالي مدينة الخليل الفلسطينية. ثم انتقل بعدها إلى الأردن ليتابع تعليمه الابتدائي والتكميلي فيها. تقدم إلى شهادة التوجيهية وكان بين العشرة الأوائل، وهذا ما جعله ينال منحة تعليمية من الجامعة الأميركية في بيروت، حيث بدأ دراسته الجامعية. نال الماجستير في الأنثروبولوجيا. وفي عام 1982 نال شهادة الدكتوراة في التاريخ، وعين أستاذًا في التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية. وبقي عبد الرحيم أبو حسين يتذكر أنه في ختام مناقشة أطروحته لنيل الدكتوراة، حيث كان الدكتور كمال الصليبي رئيسًا للجنة الفاحصة، قام بإلقاء كلمة قصيرة احتفظ بها بين أوراقه، وفيها خلاصة تجربته، والمبادئ التي سار عليها في عمله البحثي. قال كمال الصليبي: "إن التواضع هو الميزة الأهم عند الباحثين، ولقب دكتور (مهزلة) عندما لا يقترن بهذه الفضيلة". وهذا ما بقي عليه الصليبي حتى نهاية حياته، أي اقتران القول بالفعل والتواضع. كان أبو حسين قريبًا من الصليبي، وكنا نلتقيه صباح كل أحد في منزل الصليبي في رأس بيروت بين 2005 و2009، في ما اصطلح على تسميته "ديوانية الأحد"، ومن روادها د. أسامة الخالدي، ود. مارون كسرواني، ود. محمود شريح، ونقولا حبيب، وغيرهم. وكان إذا ما احتدم الأمر في مناقشة مسألة تتعلق بالتاريخ العثماني يقول الصليبي: ننتظر أبو حسين ليبتّ فيها.




كان عبد الرحيم يهمه أحيانًا الوصول إلى المعرفة لا إلى اليقين. وكان يرى أن القارئ العادي صاحب نظرة سليمة تقبل ما هو خارج عن المألوف إذا كان معقولًا ومنطقيًا. رفض مقولة تقليدية التاريخ، وانتقد بقوة الأخطاء والمصادر الواردة والمنهجية المستخدمة لدى بعض المؤرخين اللبنانيين.






يحيلنا أبو حسين إلى بحث كتبه الصليبي عام 1973 بعنوان "أسرار البيت المعني"، وأن هذا البحث على أهميته وموثوقيته لم ينتبه له أحد، ولم يناقشه أحد. وهذا ما شجعه على المضي نحو البحث المعمق في أرشيف الإمبراطورية العثمانية، وخصوصًا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وهذا ما أهله تاليًا ليكتب "حوران في الوثائق العثمانية (1842 ـ 1916)"، و"لبنان والإمارة الدرزية في العهد العثماني ـ وثائق دفتر المهمة (1545 ـ 1711)" (2005)، وفيه سجل الأعمال المتعلقة بتاريخ سورية العثمانية، أو أجزاء منها، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والقوانين الإدارية عن السلاطين العثمانيين، وكتابه الثالث "صناعة الأسطورة ـ حكاية التمرد الطويل في جبل لبنان" (2019). وأدرك أبو حسين ارتباط التاريخ بالهوية، وأن المنتصرين يكتبون التاريخ. وكتب أيضًا "الكنائس العربية في السجل الكنسي العثماني (1823 ـ 1992)"، وساهم، لا بل كان وراء كتاب "كمال الصليبي الإنسان والمؤرخ (1929 ـ 2011)" (2016)، وكان ينظم محاضرة سنوية لأحد المؤرخين تكريمًا لكمال الصليبي.
ورأى أبو حسين أن كتابة التاريخ لا تنبع من الطائفة، وأن الموارنة أسطروا فخر الدين وفقًا لمعايير طائفية وضعت في القرن السابع عشر، ومن منطلق حاجتهم إلى الحماية الاستعمارية ليس إلا. ورأى ان الموارنة احتكروا كتابة التاريخ في لبنان لأسباب تتعلق بإقامة الجسور بين الأسطورة ومسوغات الدولة الناشئة ومبرراتها. وكذلك قصة انعكاس الحاضر على الماضي، وهي قصة معروفة في التاريخ. حتى أن أبو حسين ربط بين شخصية فخر الدين في لبنان، وشخصية ضاهر العمر في فلسطين، كما يصار إلى تظهيرها، مستندًا إلى رواية إبراهيم نصر الله " قناديل ملك الجليل". وروى أبو حسين قصة القرون الطويلة من التمرد في جبل لبنان. ففي رأيه، هذه القرون في مقارنة العثمانيين هي التي قولبت الهوية، وربما شكلت النواة اللبنانية.
هذا الاهتمام الكبير بالأرشيف العثماني جعل الجمعية التركية تمنحه العضوية الفخرية لإسهاماته في حقل الدراسات العثمانية. وعمل أبو حسين بأدواته المنهجية وحدسه في استقراء سردية مختلفة عما يتم تلقينه وترويجه لأسباب أيديولوجية، أو طائفية، أو سياسية.
*****
يغيب المؤرخ عبد الرحيم أبو حسين، الذي علم في الجامعة الأميركية لأكثر من ثلاثين سنة، وترأس دائرة التاريخ فيها، ولا تزال ورشة العمل في التاريخ قائمة، ولا تزال منطقة الشرق الأوسط تتعرض لتحولات وتغييرات تطال البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتعيدنا من جديد إلى قراءة التاريخ العثماني في المنطقة كأساس لمنطق آخر في التاريخ، ولفهم غوامضه وأسراره.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.