}

الشعر ليس قصيدة.. إنّه عالمٌ بلا قيود

عمر شبانة عمر شبانة 21 أغسطس 2022
آراء الشعر ليس قصيدة.. إنّه عالمٌ بلا قيود
(منير الشعراني)

مهما حاولنا تعريفه وتحديده، هل يمكن تحديد هويّته؟
يظلّ الشعر محلّ أسئلة وهواجس لا تنتهي. فلا أجوبة شافية في ما يتعلّق بـ"جوهر الشعر"، بهويّته وماهيّته. هو سرّ يتحدّى التفسير والتحليل. ربّما يتمكّن ناقد ما من تفكيك قصيدة ما، ويأتي ناقد آخر فيقدّم فراءة مختلفة، ولعلّ ما حصلت عليه قصيدة ت. س. إليوت "الأرض اليباب" (أو الخراب) من اختلاف في القراءات، هو خير دليل على تعدّد طبيعيّ في الفهم والذائقة، وهو ما نفهمه أيضًا من تعدّد الترجمات واختلافها، ولنتذكّر ترجمة كلّ من جبرا إبراهيم جبرا، وعبد الواحد لؤلؤة، مثلًا!

ت. س. إليوت وترجمة عبد الواحد لؤلؤة لديوان "الأرض اليباب"


هل للشعر أيّ قوانين تحكمه، يسير في هديها، ولا يحيد عنها؟ أم إنه هذا الكائنّ البرّيّ الفوضويّ الحرّ بلا قواعد؟ وإذا كانت له قواعد وقوانين، فمن الذي يضعها؟ من يحدّدها؟
من جهتي، لا أستطيع أن أتخيّل الشعر خاضعًا لقانون، أو قاعدة، أو حتّى هويّة. فنحن حتى الآن، وعبر عصور من معايشة الشعر، وكتابته وقراءته، ما زلنا نتساءل: ما الشعر؟ وأقصى ما ذهب إليه نقّادنا هو التساؤل "ما الشعر العظيم؟" (الناقد الفلسطيني يوسف اليوسف). أما جمهوريّة أفلاطون، واستبعاد الشعراء منها، فتلك وجهة نظر لا تصمد أمام "منطق" الشعر وجنونه.
نعم، الشعر كائن مجنون وغامض ومجهول الهويّة حتى هذه اللحظة. ومهما حاول البعض تقديم تعريف واضح ومحدّد له، فأقصى ما يمكن الذهاب إليه هو تعريف القصيدة، أو النصّ الشعريّ ربّما. أمّا الشعر، هذا الكائن الذي يعيش في كلّ ما حولنا، في الزّهرة، كما في الموت والخراب، فلا قدرة لأحد على الإحاطة به. فهل شعرُ امرئ القيس، أم شعر المتنبّي ـ مثلًا ـ هو الشعر النموذج؟ أم شعر محمود درويش؟ إنّ لكلّ منهم قصيدته وشعريّته، لكنّ أيًّا منهم لا يمثّل الشعر كلّه في أيّ حال. فلكلٍّ منهم قصائده، وهي قصائد متفرّقة، وكلٌّ منها في اتّجاه. فما من قصيدة تشبه الأخرى. قصائد المتنبي في كافور خير دليل. ففيها مديحه ثمّ هجاؤه. وجدارية درويش لا تشبه "مديح الظلّ العالي". هذه قصائد شعريّة. أمّا الشعر فهو في مكان آخر.

بدر شاكر السياب 


الشعرُ أبعدُ من أن يبلغه شاعر. الشعراء يكتبون قصائد جميلة، لكنّهم لا يبلغون الشعر. فهو المحيط، ومن يبلغ المحيط؟ وهو الحقول، فمن يبلغ خضرةَ الحقول ومداها الشاسع؟ وهو الفضاء الفسيح، فمن يبلغ مثل هذا الفضاء؟




كلّ ما يستطيع أن يفعله الشعراء هو اقتطاف مقطع من هنا، وآخر من هناك. هذا هو شعرهم. الحبّ والحرب، الحياة والموت. عاشق وعاشقة. قُبلة من هنا، وموسيقى من هناك. طلقةٌ وشهيد. ملك طاغية، وزعيمٌ يقود ثورة. فتح الفُتوح وأبو تمّام. الشنفرى والصعاليك. خمريّات النواسيّ، وصوفيّات الرومي وابن عربي؟ لوركا وغيفارا. درويش وريتّا. لم يخرج الشعر عن هذه الثيمات. وما هذه سوى ظلال من الشعر.
وعلامَ نتعاركُ يا قوم؟ هل الشعر في قصيدة الشطرتَين، أم هو في قصيدة التفعيلة، أم في قصيدة النثر؟ هل في القصيدة الملحميّة، أم في الغنائية؟ وما هي إلّا أسماء أطلقها النقّاد؟ ولماذا علينا القبول بها، أو التوقّف عندها؟ كيف لا نبتكر سواها ونحن نتحدّث عن الحداثة؟
أسئلة كثيرة لا بدّ من طرحها. ولعلّ الأجدر بطرحها هم الشعراء، أبناء الشعر، من يلتقطون تفاصيل من الحياة فيكتبونها، يلتقطون اللون والرائحة في الطبيعة. في الحانة والمقهى، في الباص. وكما أن الشعر غير محدود في شيء، وهو حاضر في كلّ شيء، فإنّ الشّاعر شخص بلا حدود، عابر للحدود أيضًا. ولعلّ من المعروف أن الشعر ليس هو النصّ الذي نكتبه، بل هو أوسع بكثير، وهو على الأغلب ما لا نكتب، بل ما نحلم بكتابته.
معارك كثيرة بلا معنى. يتحدث البعض عن الحداثة، ونحن نفتقد إلى أدنى أصولها، فمن أواليّات الحداثة التحضّر والمدنيّة، بينما لا نزال نعيش مجتمعات البداوة والقبليّة. وعن أيّ حداثة يجري الكلام ونحن محكومون بأنظمة تعيش بعقلية العصور البعيدة مئات السنين عن الحضارة، دول تستعبد شعوبها، ويتحكّم بها ملوك وأمراء لا همّ لهم سوى جمع الأموال، حتّى أنّ أحدهم يملك المليارات خلال أعوام قليلة من تولّي العرش!
وهكذا، فالشعر ليس معزولًا عن الحياة. إنه ابنُها وشقيقها السّياميّ، والحياة هنا هي كلّ ما نعيشه من تفاصيل يوميّاتنا. وكلّ ما نحلم به أو نخاف من أوهامنا المرعبة. وقد يكون الشّاعر صاحب وزن وقافية، كما هي حال السيّاب، وربّما يكون بلا وزن ولا قافية، كما هي حال أمجد ناصر، وعبّاس بيضون، وغيرهما. لكن هل استطعنا تعريف الشعر؟ لا أظنّ ذلك.
وهل يجوز الحكم على شاعر بقصيدة من قصائده؟ هل نحكم على أبي تمّام بقصيدته الشهيرة بعنوان "فتح الفتوح"، بكل ما تضمّ من مديح لا علاقة له بالشعر "الصافي"؟ وهل نحكم على محمود درويش بقصيدته "مديح الظلّ العالي"، ونترك "الجداريّة" مثلًا؟ لقد أخذنا عليه ما يشبه الشعارات في أبيات عديمة الشعريّة، حيث يقول مخاطبًا "الزّعيم" في تساؤل حارق "ماذا تريدُ وأنتَ سيّد روحنا/ يا سيّد الكينونة المتحوّلة؟ ماذا تريد؟ علَمًا؟ وماذا تنفع الأعلام؟"، ويختم بعبارة باتت شهيرة "ما أكبر الثورة/ ما أصغر الدولة".



وحتّى قصائد مظفّر النوّاب ذات الخطاب السياسيّ، مثل "عروس السفائن"، وعبارته الشهيرة "القدس عروس عروبتكم"، فهي لا تخلو من شاعرية ما، ولكنّها بنت سياق سياسيّ وثقافيّ محدّد. وهنا، أتذكّر مقاطع من قصيدة للنوّاب نفسه حفظتها وأظلّ أردّدها من سنوات بعيدة، وأعتقد أنّها من أرقّ الشعر، وهي التي يقول في مطلعها:
تعلّل فالهوى عللُ
وصادفَ أنّه ثملُ
وكاد لطيبِ منبتهِ
يشفُّ ومانَعَ الخجلُ.

مظفر النواب 


إنّه الشاعر نفسه صاحب "أولاد القحبة"، وهو نفسه الصوفيّ حين يقول "تعالَ أريكَ الربّ على أجمل غُصنٍ في البريّة"، وهو الذي يكتب "للريل وحمد"، و"يا ابني ضلعك"، وسوى ذلك من القصائد التي تمثّل التنوّع في تجربة هذا الشاعر (المناضل والمكافح، وبصرف النظر عن هجائه بعض الحكّام، ولجوئه إلى حكّام آخرين!!).. فالمتنبّي نفسه مدح كافور الأخشيدي بما ليس فيه، ثمّ هجاه بلغة عنصرّية لا شعر فيها: "إنّ العبيدَ لأنجاسٌ مناكيد"، كما نعلم في قصيدته الشهيرة "عيدٌ بأيّة حالٍ عدتَ يا عيدُ".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.