}

عن "قتلة زهرة القمر" وقتلة أزهار فلسطين

عمر كوش 17 نوفمبر 2023
آراء عن "قتلة زهرة القمر" وقتلة أزهار فلسطين
يكشف الفيلم فصلاً داميًا من تاريخ الولايات المتحدة
قد تكون الصدفة لعبت دورها في تزامن عرض فيلم "قتلة زهرة القمر/Kilers of the Flower Moon" للمخرج مارتن سكورسيزي، مع حرب إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة، والتي ترتكب خلالها جرائم إبادة جماعية في حقهم على مرأى العالم بأجمعه، وبدعم وإسناد من الولايات المتحدة الأميركية، ومعظم دول أوروبا، حيث يسلط الفيلم الضوء على أعمال القتل المتتالية والممارسات الاستعمارية العنصرية التي وصمت تاريخ الولايات المتحدة، عبر تناوله جرائم الإبادة الجماعية التي مارسها المستوطنون الأوروبيون بحق سكان أميركا الأصليين، كاشفًا من دون مواربة عن أحد الفصول الدامية من تاريخ الولايات المتحدة، التي لم يكتف ساستها في أيامنا هذه بتقديم الدعم المطلق لإسرائيل، بالأشكال كافة، بل يحاولون تبرير جرائم جيش الاحتلال الاستيطاني الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني، في قطاع غزة والضفة الغربية.
ينهض الفيلم على فكرة إبادة شعب (قبيلة أوساج)، واستيطان أرضه ونهب ثروته، بواسطة سلطة غاشمة، تمارس القتل ليل نهار بهدف إبادته، حيث يتناول قصة حقيقية لمجموعة أشخاص ينفذون أوامر شخص متنفذ يدعى "ويليام هيل"، يتولى منصب نائب عمدة "فيرفاكس"، إحدى البلدات الأميركية الواقعة في ولاية أوكلاهوما، ويمتلك ثروة كبيرة. وهو المخطط لعمليات قتل وتصفيات جسدية للسكان الأصليين، طمعًا في الاستيلاء على ثروتهم لصالح عائلته. ولعل فكرة الفيلم تتجسد في إحلال مجموعات استيطانية مستوطنة قادمة من بلاد بعيدة محل سكان البلاد الأصليين، باستخدام أبشع الطرق وحشية، الأمر الذي يشعل في الذاكرة التشابه الكبير بين ما قام به المستوطنون الأوروبيون في أميركا، وما تقوم به إسرائيل منذ نشأتها في فلسطين، وتواصل القيام به في حربها المستمرة ضد الشعب الفلسطيني، مستخدمة أحدث أنواع الأسلحة وأكثرها تطورًا في طرق القتل، مع بقاء عقلية الإجرام اللاإنسانية ذاتها، التي سكنت عقول قادتها وجنرالات حربها منذ نشأتها قبل خمسة وسبعين عامًا.




يبدع مارتن سكورسيزي في إخراج هذا الفيلم، مثلما أبدع في معظم أفلامه، التي أظهر فيها على الدوام زيف الشعارات الأخلاقية التي يرفعها أغلب ساسة الولايات المتحدة، عبر تعرية ممارساتهم الإجرامية، وفضح تعاونهم ودعمهم للمافيات والعصابات، بغية نيل دعمها المالي لتحقيق غاياتهم. وتمكن من إبراز كل ذلك عبر تحف سينمائية، تجلت في أفلام "سائق التاكسي"، و"عصابات نيويورك"، و"غود فيلاس"، و"الراحلون"، و"الرجل الأيرلندي"، وسواها. ويميط اللثام في فيلمه الجديد عن ممارسات المستوطنين الأوروبيين وجشعهم، وقتلهم للسكان الأصليين، الذين سبق أن دفعهم المستوطنون إلى الهجرة القسرية من ميسوري، ليستقروا في منطقة صخرية بولاية أوكلاهوما. ومع اكتشاف النفط في أراضيهم منّوا أنفسهم بهبة الله، وشكروه على تعويض أراضيهم القاحلة، التي ارتضوا بها، لكن الثروة الطبيعية حولها المستوطنون البيض إلى لعنة عليهم.
يستند الفيلم إلى قصة واقعية مأخوذة من كتاب يحمل العنوان نفسه للكاتب الأميركي، ديفيد غران، مع بعض التعديلات للضرورات السينمائية، ويقوم بدور بطولته كل من روبرت دي نيرو بدور "ويليام هيل"، وليوناردو دي كابريو بدور "إرنست بوركهارت"، وهي المرة الأولى التي يجتمع فيها النجمان في الفيلم نفسه. وتدور أحداثه في مطلع القرن العشرين في أراضي قبيلة "أوساج"، عبر تناول ما أصابها بعد اكتشاف النفط في أراضيها الصخرية، وبات معظم أفرادها يملكون ثروة كبيرة، لكنهم لم يتمتعوا بها كثيرًا، لأن الأوروبيين، الذين جاؤوا إلى أرضهم، طمعًا في الاستيلاء على ثروتهم، قاموا بسلسلة أعمال قتل منظمة ضدهم.
تبدأ أحداث الفيلم مع وصول إرنست، الذي شارك في الحرب العالمية الأولى، إلى بيت عمه ويليام هيل، صاحب مزرعة كبيرة في تلك المنطقة، ويُلقب بالملك، وهو ذو شخصية شريرة وماكرة، تلبس عباءة الصديق الراعي لمصالح السكان الأصليين والمستوطنين معًا، وتمكن من نيل ثقة أفراد القبيلة المسالمين، المفعمين بمحبة الأرض والسماء، الذين يطلقون على أزهار فصل الربيع، التي تنمو في أراضيهم، اسم أزهار القمر. ومنذ البداية يبدأ العم بتلقين ابن أخيه الدروس المطلوبة، حيث يحدثه عن العائلة وضرورة بقائها متماسة وغنية، وعن كيفية التسلل إلى حياة الأوساج، بغية زيادة ثروة العائلة باستخدام مختلف الطرق الناعمة، كالمصاهرة والمعاشرة، أو طرف العنف القائمة على القتل والنهب والسلب، بغية التخلص منهم جميعًا.

مارتن سكورسيزي (Getty)

ويجد إرنست، الجشع والمحب للنساء، نفسه في موقع المستمع والمنفذ لأوامر عمه، حيث يتعرف على مولي كيل (ليلي غلادستون)، وهي سيدة جميلة وحكيمة من السكان الأصليين، ومصابة بمرض السكر، وخلال عمله كسائق لديها، تنشأ علاقة حب بينهما، تنتهي بالزواج بمباركة العم ويليام، الذي يذكّره يعد الزواج بضرورة أن تؤول أموال مولي وعائلتها إليه. ولعل الأداء الناعم للممثلة غلادستون، والشخصية الرصينة التي أظهرتها، أسهمت في إعطاء صورة صادقة لامرأة ثرية، تنتمي إلى إحدى قبائل السكان الأصليين، تتميز بالوقار والحكمة، والمعرفة العميقة بما تكتنزه الحياة، وبأغوار النفوس البشرية، حيث تصف إرنست عند التعرف عليه بذئب البراري. ويبدو أن سكورسيزي قد أسند إليها دورًا صعبًا، يتطلب فهمًا عميقًا لشخصيتها، التي تعبر عن مشاعرها بلغة العينين، وهي تعدّ من أصعب لغات التمثيل، نظرًا لما تتطلبه من طاقة كامنة، وقدرة تعبيرية، مكنتها من إظهار قدرتها على استيعاب رجل ينتمي إلى العرق الأبيض، وقد أحبته على الرغم من أنه أسرّ لها بطمعه في أموالها، إضافة إلى حبه لها. في حين أن حقيقة الأمر كان الزواج اتفاقًا بين العم مع ابن شقيقه، ويدخل في سياق خطة، ترمي للسطو على ثروة قبيلة أوساج عبر الزواج من نسائها، ثم التخلص منهن لتوريث الأبناء والأزواج، حيث كانت حقوق النفط لا تباع ولا تشترى، بل تورّث لأفراد العائلة فقط.
تفقد مولي والدتها ليزي المريضة، وتنال يد الإجرام من شقيقاتها الثلاث ميني وآنا وريتا في ظروف مريبة وغامضة، وباتت مولي مسكونة بخوف ممزج بالقلق من أن تطالها يد القتلة، فضلًا عن صدمتها وغرقها في الحزن على فقدان أفراد عائلتها، ولم تجد سوى التمسك بزوجها الأبيض إرنست الذي أنجبت منه ثلاثة أطفال، لتُظهر مشاهد الفيلم المفارقة المأساوية في أحداث قصة إبادة وتصفيات عرقية، وتجمع بين خيانة في أبشع صورها وحب في أبهى حالاته.
مع تعدد الجرائم والتصفيات، يشعر أبناء القبيلة بأن مؤامرة تحاك ضدهم، وتهدف للقضاء عليهم، خاصة مع عدم قيام السلطات في التحقيق بالجرائم، لذا يشير زعيمهم إلى أن "العدو هو المسؤول عن قتل أبنائنا وبناتنا، وهو يريدنا أن نموت جميعًا، ونحن لن نمانع في ذلك، لكننا سنأخذه معنا".




أراد سكورسيزي منذ بداية فيلمه تبيان أن ما يرويه الفيلم ليس حكاية من نسج الخيال، بل قصة واقعية، وذلك من خلال استخدامه صورًا فوتوغرافية أرشيفية لشخصيات عاشت في تلك الفترة، ودوّن التاريخ سجلاتهم، ولم يكتف بإظهار تفاهة الشر وابتذاله، وجحيم التوحش والبربرية، بل عرض بالتفصيل للجرائم المرتكبة، مقرونة بصور الضحايا باللونين الأبيض والأسود، مع اعتماد أسلوب الإيقاع البطيء للفيلم، بغية منح المشاهد فرصة للتمعن والتأمل في ما يعرض أمامه. ولم يغب عنه تضمين فيلمه مشاهد استعراضية لعادات شعب أوساج، وطقوسه الدينية، واحتفالاته بالمواليد الجدد، تأكيدًا منه على قوة ارتباط هذا الشعب بأرضه، التي تنمو في كل بقاعها زهرة القمر.
مع اقتراب الفيلم من نهايته، يبدأ مكتب التحقيقات الفيدرالي بالتحقيق في جرائم القتل، بعد تقديم شكاوى عديدة، لينتهي ذلك بالقبض على العم وابن أخيه. أما مولي المصدومة، والتي كان يحقنها إرنست بحقق الأنسولين ممزوجة بمادة مريبة أعطاها له عمه بمشورة أطباء بيض، فرفضت تصديق حقيقة أن زوجها إرنست كان متواطئًا في جرائم إبادة عائلتها، لكنها تدرك أخيرًا أنها وثقت بذئب برّي، وسألته في مشهد آخر مشهد التقت به عن المادة التي كان يحقنها بها.
قدم سكورسيزي فيلمًا معبرًا وممتعًا سينمائيًا، وأراد من خلاله مخاطبة الضمير الأميركي، كي يقدم كشف حساب لما قام به الأسلاف، وأن يواجه مجتمعه تاريخه المثقل بأحداث مخجلة، وبعار الجرائم التي ارتكبت بحق أبرياء، وجرى طمسها والسكوت عنها، بل وتغييبها وإخفاؤها وتجاهلها. وهي جرائم مدفوعة بالجشع والعنصرية التي يعجّ بها التاريخ الأميركي. وقد عمد صناع القرار إلى إصدار قوانين تمنع الخوض فيها، حيث سبق أن أصدرت ولاية أوكلاهوما قانونًا يحظر الخوض في تلك الجرائم، ومنعت في 2021 التطرّق إلى كتاب "قتلة زهرة القمر"، لكن هذا المنع لم يحل دون الكشف عنها، عبر مؤلف الكتاب ومخرج الفيلم، وهو ما يقودنا إلى تسليط الضوء على جرائم إسرائيل، التي تحتل أرض الشعب الفلسطيني وتستوطنها، وتشن حرب إبادة جماعية ضده في أيامنا هذه، ومثلما قتل المستوطنون البيض أزهار القمر في أميركا يقوم المستوطنون الصهاينة بقتل أزهار القمر في فلسطين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.