}

في رحيل نذير العظمة: الشعر والكلمات والنهضة

سليمان بختي سليمان بختي 12 مارس 2023

في 27 كانون الثاني/يناير الماضي رحل عن عالمنا الشاعر والناقد الدكتور نذير العظمة (1930-2023)، أحد شعراء الحداثة الكبار، ومن مؤسسي مجلة "شعر" البيروتية. ويذكر الدكتور كمال خير بك في كتابه "حركة الحداثة..." أن نذير العظمة وخليل حاوي كانا من النواة الأولى التي بحث معها يوسف الخال فكرة تأسيس مجلة "شعر". وله ما يقارب 55 كتابًا في الشعر والأدب والنقد والمسرح، وكذلك دراسات بحثية متعمقة وبعضها بالإنكليزية.

نذير العظمة هو صاحب دور في تطوير القصيدة العربية الحديثة وواضع القصيدة المدورة. ولد في دمشق في عام 1930 وتعلم في مدارسها. ثم انتسب إلى الجامعة السورية كلية الآداب – دمشق وتخرج منها في عام 1954 ومارس التعليم في سورية ولبنان (الكورة وضهور الشوير وبرمانا). وكذلك انغمس في النشاط الثقافي في سورية ولبنان. نشر قصائده الأولى ومقالاته في مجلات مثل "عصا الجنة" و"النقاد" و" الدنيا" و"الجندي". انتقل إلى بيروت وأكمل دراساته في الجامعة الأميركية ونال الماجستير في الأدب الإنكليزي. انتمى باكرًا إلى صفوف النهضة الاجتماعية في عام 1949 وتقلب في مسؤوليات متعددة في الحزب وصولًا إلى رئيس المكتب السياسي في الشام. شارك في انقلاب القوميين في لبنان ليل 1961-1962 وكان عضوًا في المجلس الأعلى. وكان في ذلك الوقت يدرّس مادة الأدب العربي في مدرسة برمانا العالية ومنها هرب في الليل إلى شتورا فالشام وثم إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث أكمل دراساته العليا في فلسفة الأدب المقارن. حاضر ودرّس في جامعات هارفارد وجورجتاون وإنديانا. كما شغل مركز كرسي الدراسات الشرق الأوسطية في جامعة بورتلاند حتى عام 1982. ولما تعرّض لبنان إلى الغزو الإسرائيلي عاد إلى بيروت مشاركًا في الدفاع عنها وخرج برفقة المقاومين من مرفأ بيروت رافعًا سلاحه وإشارة النصر. درّس الأدب العربي الحديث في لبنان والمغرب وجامعة الملك سعود في الرياض حتى 2001. شارك في موسوعة الدراما في العالم التي أصدرتها منظمة اليونسكو، وانتخب سكرتيرًا خازنًا لجمعية الإستشراق الأميركية. كذلك شارك في تأسيس وإنشاء عدة مجلات ثقافية وترأس تحرير جريدة "البناء" ومجلة "الآداب العربية" باللغة الإنكليزية.

رأى نذير العظمة أن الأدب بالمعنى الواسع للكلمة هو الثقافة، وأن الحداثة ليست سوى الأصالة، والأصيل الجديد في كل عصر هو ما يصنع التراث ويشكله. وفي موقفه من التراث يرى بأننا بقدر ما نستوعب ونتمثل ونهضم من التراث المعرفي الإنساني بقدر ما تنبثق شخصيتنا وهويتنا انبثاقًا أفضل وأكثر عمقًا وتجذرًا في الحياة والحضارة والكون.

رسالة موقعة من يوسف الخال وأدونيس كتبا له فيها: "إنها أجمل قصيدة كتبتها أنت في حياتك..."


وكان يرى في الحداثة أنها موقف تسربل اللغة تسربلًا جديدًا. ظلت علاقته مع مجلة "شعر" علاقة أثيرة وكذلك احتفظ بأطيب العلاقات والذكريات مع شعراء المجلة، ولبث نذير العظمة يعتبر أن مجلة "شعر" كانت صاحبة فضل عليه في انتقاله في شعره من الغناء الوجداني إلى الغناء الكوني. وهو كتب في المرحلة الأولى من مجلة شعر "اللحم والسنابل" و"أطفال في المنفى" و"قصائد الخضر ومدينة الحجر" و"جرّحوا حتى القمر" و"غدا تقولين كان". وكتب أيضا المسرحية الشعرية "ابن الأرض" و"جراح من فلسطين" و"سيزيف الأندلسي" و"طائر السمرمر". كما ترجم وليم بلايك وديلان توماس وإديث ستيويل. ونشر في جريدة "النهار" البيروتية قصيدته المدورة "عشر شموع" والتي أشاد فيها روبرت لويل ونشرها في مجلته. وفي رسالة موقعة من يوسف الخال وأدونيس كتبا له فيها: "إنها أجمل قصيدة كتبتها أنت في حياتك. وقصيدتك هي إحدى أجمل وأحدث القصائد الجميلة الحديثة. من هون بتبدأ إنت. الإنسان والله والكون لازم يصيرو عندك الطفولة والحارة والقلب. وإشيا من هالنوع. انتظرناك. خلينا نشوفك رايح نقبلك منشان هالقصيدة الحلوة. سلامات". هذه القصيدة نشرتها جريدة "النهار" في حينه فصعد أدونيس ويوسف الخال إلى برمانا حيث كان يسكن الشاعر نذير العظمة هناك فلم يجداه فتركا له رسالة تقدير وعتاب على نشرها في النهار "لا في مجلة شعر".

زاوج نذير العظمة بين الحداثة والأصالة مستعينًا بالفولكلور والأسطورة والتجربة الصوفية. كان يهمه دائمًا أن تنجو القصيدة، وأن تكتمل المغامرة لكي يتم التغيير في الأدب وفي الوعي وفي المجتمع

ومن هذه القصيدة نقتطف: "بتراب الحب والخصب طمرت الأمس أقدامي وأيامي ما زالت هنا تعدو فلاة الشوك حيرى، ملء كفي وعيني وعمري حافيًا أركض والصخر صديقي لم يعد بعد صديقي لم يزل صوت الأعاريد. يطاردني ومئدق القبر وحش جائع يبلع خطواتي شموعًا عشرة في ريح تشرين تغني".

كتب في كتابه " أنا ومجلة شعر" (2011): "إنني أعتبر مجلة شعر الناطق الرسمي لحركة الحداثة العربية والمعبر عن تيار نهضوي في الفكر والشعر والنقد". ويتذكر نذير العظمة الندوة التي أقيمت في نهاية الخمسينيات في قاعة "الوست هول" في الجامعة الأميركية في بيروت بين الشعر القديم والشعر الحديث. ومثّل الشعر القديم فيها رفيق المعلوف وعبد الله غانم ومثّل الشعر الحديث يوسف الخال وبدر شاكر السياب ونذير العظمة وأدونيس، وكان الدكتور جبرائيل جبور، رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة، الحكم وعريف الحفلة الذي أعلن في نهاية الندوة مشروعية الحداثة الشعرية العربية. وعن علاقة مجلة "شعر" بالحزب السوري القومي الإجتماعي برأيه أن مجلة "شعر" كانت مستقلة عن الحزب و"كنا ندفع من جيوبنا ثمن ما ننشره من مجموعات صادرة عن دار مجلة شعر. ولكن ماذا يفعل يوسف الخال إذا كانت المواهب الشعرية الفذة سورية قومية اجتماعية مثل خليل حاوي أو أدونيس أو نذير العظمة أو محمد الماغوط أو قريبة مثل فؤاد رفقة". قدمته مرتين، الأولى في عام 2009 يوم صدور العدد الأول من مجلة "شعر" عددًا تذكاريًا بمناسبة بيروت عاصمة عالمية للكتاب في مركز خريجي الجامعة الأميركية في بيروت وبحضور شعراء المجلة وحشد من المهتمين. وتحدث عن بدايات المجلة بحماسة وإعتزاز كأن الزمن لم يمر وخاطب يوسف الخال الحاضر الغائب. وتذكر كيف عرّف أدونيس ومحمد الماغوط إلى يوسف الخال.  كتب أنسي الحاج يومها "كان نذير العظمة أطيبنا". وقدمته مرة ثانية عام 2013 في دار الندوة في بيروت محاضرًا عن "الدين والدولة في مرآة النهضة".

لم يتوقف نذير العظمة عن الكتابة وأصدر "طائر الرعد" و"نواقيس تموز" و"الشيخ ومغارة الدم" ومزج في هذا الكتاب بين الرواية والقصيدة. وكتب في الأدب المقارن "بدر شاكر السياب وأديث ستيويل". وكتب في قصيدة النثر "زمن الفرات يتألف في القلب". ووضع دراسة بعنوان "المعراج والزمن الصوفي" و"أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ".

كانت حياة نذير العظمة هدية يمنحها من قلبه إلى الشعر والأدب، وتشهد على ذلك غزارة مؤلفاته، وإلى التعليم في أكثر من 40 سنة من التعليم الجامعي، وإلى النضال لأجل مبادئ النهضة في أكثر من 70 سنة. زاوج نذير العظمة بين الحداثة والأصالة مستعينًا بالفولكلور والأسطورة والتجربة الصوفية. كان يهمه دائمًا أن تنجو القصيدة، وأن تكتمل المغامرة لكي يتم التغيير في الأدب وفي الوعي وفي المجتمع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.