}

محطّات السرطان والإبداع: مع "النّاجي" محمود عيسى موسى

عمر شبانة عمر شبانة 2 مارس 2023
آراء محطّات السرطان والإبداع: مع "النّاجي" محمود عيسى موسى
محمود عيسى موسى

"اشرب سوائل... النهر. اشرب كثير وقد ما تقدر، بعد جُرعة الكيماوي خصوصًا..."؛ قصّة سأكتبها قريبًا، ربّما، لكن قبل ذلك سأقف معكم، صديقاتي وأصدقائي، لقراءة في كتاب "بيضة العقرب: رواية السيرة السّرَطانيّة"، من إبداع الصديق، والرفيق السابق، بجدارة، في مدرسة السرطان، محمود عيسى موسى، وستجدون ما يؤلمكم، وما يبهِجُكم حتمًا، فهو عرف كيف يجعل السرطان وآثاره الفتّاكة، المأسويّة، لكن المُضحكة أيضًا، جعل منه فرصة للإبداع، مع "لطشاتٍ فنّيّة"، بقصد "الترعيب والترهيب"، كان لا بدّ منها!
الفنّان التشكيلي، والكاتب في رواياته السّيريّة، أو لعلّها السيرة الروائيّة، الفلسطينيّ/ الأردنيّ محمود عيسى موسى (م. ع. م)، ونحن ندعوه حامل لقب "الأنبياء الثلاثة"، خاض صراعه مع السرطان في مرحلتين ضارِيتين، وكما تعرّض لآلام الورَم وعذاباته، صارع محطّات العلاج ومخاضات التشافي، وآثار ذلك كلّه على روحه قبل جسده، وكان ذلك بين نهايات التسعينيات من القرن الفائت، ومطالع القرن الرّاهن، ومنذ ذلك الحين اختفى ذلك السرطان تقريبًا، تاركًا له ولنا، نحن أصدقاءه ومحبّيه ومتابعي تجربته الحياتية والإبداعية، آثارًا فنيّة وأدبية على مستوى رفيع، مستوى يجعلنا "نبارك" له كما بارك له في أثناء إصابته عدد من أصدقائه، ربّما كان أبرزهم الروائي الأردني الرّاحل ـ لاحقًا ـ مؤنس الرزّاز.
عرفتُ المبدع (م. ع. م.) في محطّات عدّة من تجربته/ تجاربه، منذ ثمانينيات القرن المنصرم، متنقّلًا بين تجربته مع التشكيل والكتابة، في مغامرات إبداعية لافتة وموجّهة برؤى وأفكار تنمّ عن وعي متقدّم على أصعدة شتّى. فهو فلسطيني لجهة الآباء، وكنعانيّ الأسلاف، وأردنيّ المولد (ولد عام 1952، في قرية سَحم الكفارات، شمالي إربد عروس الشّمال الأردني، لعائلة مهجّرة من قرية "إجزم" الفلسطينية ـ قضاء حيفا)، وفي إربد له "صيدليّة الشّمال" الشهيرة كتجمّع للمثقّفين والصّعاليك. وهو سوريّ الهَوى بما تعنيه له ولنا سورية الكبرى، وسورية الشام وحلب وحتى أبعد حدودها، وحصل على إجازة في الصيدلة والكيمياء الصيدلية من كلية الصيدلة في جامعة دمشق. يتوقّف عند مواقف وذكريات تاريخية للزعيم جمال عبد الناصر، بما يوحي بظلال انتماء ما، والأهمّ من ذلك كلّه قدر كبير من الانفتاح على العالم/ العوالم والحياة بسلاستها الخالية من التعقيدات ما استطاع إلى ذلك سبيلًا!


معارض وروايات سيريّة


سأتوقّف، هنا، مع ثلاثة من آثاره الإبداعية، الأوّل هو مجلّد من إعداد وتقديم الباحث محمّد رفيع بعنوان "لوحات تشكيليّة: الأعمال الكاملة"، والأصحّ أن نقول لوحاته "النّاجزة" منذ معرضه الأوّل "الحريّة" حتى أحدث معارضه "الأقحوانة عشتار"، مرورًا بمعرضه السرطانيّ "الصَّلعاء". والأثر الثاني كتاب بعنوان "على قيد الضحكة الأبدية: محمود عيسى موسى روائيًّا"، والأثر الثالث هو كتابه "بيضة العقرب: رواية السيرة السّرطانيّة"، المتعلّق بتجربته السّرَطانية وعلاجها والشفاء منها، لكنّه كتاب يتجاوز سيرة الشخص (المصاب محمود)، ليتجوّل في عوالم بلا حدود ولا ضفاف. مع التذكير بأنّه (محمود) الصديق "الناجي" الوحيد من بين أصدقاء كُثر أصيبوا ورحلوا. ولا بدّ أن نتمنّى له الصحّة والأمان، فهو يستحقّ الأجمل.
ولا ضَير في تأكيد المؤكّد بالإشارة إلى العوامل النفسيّة والرّوحانية في نجاعة ونجاح المواجهة حتّى بلوغ الشّفاء. وهنا أودّ التأكيد على تجربتي في هذا السياق، فقد نجح العلاج منذ استئصال الورم، وعلى مدى ستّ سنوات عشتها "بالطول والعرض"، من دون أيّة آثار سلبيّة، حتى فاجأني الورم الجديد، ودخلت معه في صراع قد يكون أشدّ شراسة، لكنّني حتى الآن، وأنا أكتب هذه السطور، وبعد خمس جرعات من أصل خمسٍ وثلاثين جرعة من الأشعّة، وجرعة كيماوي من أصل ستّ جرعات مقرّرة، ولا مفاجآت سالبة، أو آثار جانبية سلبيّة.
وفي ما يتعلّق بتجنيس النص، نستعير ممّا كتب الناقد العراقي، الدكتور حاتم الصكر، ولو بشيء من التوسّع، حيث يكتب عمّا "يسمح به النص السير ـ ذاتي من استعانات بفنون قريبة منه، كالرواية التي هي إطار السرد السير ذاتي في (بيضة العقرب)، كما تتضمن من تسلسل الأحداث والأفعال والوقائع، ورصد للشخصيات وعلاقاتها، واتكائها على زمن ومكان محددين، ولجوئها إلى الحوار بأنواعه، لكنها تقترض أيضًا من التاريخ بنوعيه: (الخاص) المتعلق بالمرض ـ السرطان ـ منذ تحسس المؤلف لصلابة إحدى بيضتيه، ومراجعة الطبيب حتى استئصالها وزرعها واكتشاف خلايا السرطان في الجسد، وخضوع الكاتب لجلسات الكيماوي بآلامها وأوجاعها وصولًا إلى الشفاء بعد مقاومة عنيفة يختلط فيها كل شيء: الماضي والحاضر والمستقبل… والتاريخ (العام)، حيث يحاول الكاتب أن يضع تقويمًا لأحداث ذلك اليوم الذي يكتب فيه كما حصلت في العالم عبر التاريخ مركزًا على المأساوي منها بشكل خاص ومدمجًا ما يحصل له أحيانًا بما جرى ذلك اليوم عبر التاريخ... ولا يفلت النص من إسقاطات ورؤى وآراء وأفكار هي جزء من تقنية السيرة الذاتية، فنتعرف على موقف الكاتب من الأسرة والأصدقاء وماضيه وعلاقاته وأصدقائه وعمله... إلخ".




ومع مجلّد الأعمال الفنيّة "الناجزة" للفنّان (تصوير لوحات الكتاب من فنّان الفوتوغراف صالح حمدوني، صدر في عام 2021)، نقف على مقدّمة المعدّ والمحرّر (رفيع)، بدءًا من قوله "بالتأكيد، اللوحات الحقيقيّة تُقرَأ وتُحَسّ، وتُشَمّ أيضًا..."، ويقسم رفيع أعمال هذا المجلّد إلى قسمين، يرتّبهما زمنيًّا بحسب تاريخ رسمها؛ ويستطيع المتلقّي لأعمال الكتاب أن يلمس بوضوح تحوّلات التجربة على مستوى الألوان والتكوينات والخطوط، ما بين لوحة وما يليها من أعمال، بعضها يبدو هلاميّ الخطوط والملامح، فيما يبدو بعضها أقرب إلى الصيغ النحتيّة. وتتعدّد الأحجام فيما تهيمن الأعمال صغيرة ومتوسّطة الحجم. ولعلّ من أبرز أعمال القسم الأوّل لوحة بعنوان "صديقان نحن" (عام 1976) تستوحي عبارة محمود درويش "فسيري بقربيَ كفًّا بكفّ...". وفي لوحة تالية نراه يستعير من ابن عربي قولته "كل نَفَسٍ لا تنشأ منه صورةً تُشاهدها لا يُعَوَّلُ عليه". وكثيرًا ما يستعير الفنّان عبارات هذين الشاعرين على ما يباعد بينهما.
وفي هذا القسم، أيضًا، نكتشف "أنّ السرّ في السرّ هو بساطته، سرّ إعادة السحر إلى ألوان الطين والبيوت ومفردات الحياة الريفيّة الضائعة، أو المفقودة، أو الذاهبة في التلاشي... بألوان لا تغادر ألوان الأرض والتراب والأمسيات، وقليل من التطلّع إلى ألوان السّماء الزرقاء... ولوحات تصعد إلى البصر، ألوان الأرجوان ومشتقاته، مترافقة مع رمزيّة تتشظّى في دلالات أزمان أحداثها السياسية العامّة؛ من الحجر إلى المِقلاع والبندقيّة إلى مواصلة التشبّث بمفردات هويّة الحياة الاجتماعية الضائعة، أو المسلوبة، وصولًا إلى التوق الدائم في اللوحات إلى البيوت والناس والكائنات...".
أما في لوحات القسم الثاني من هذا المجلّد، وعنوانها "الصَّلعاء"، فهي التجربة القائمة على التخييل، وربّما شيء من الذاكرة، والممتدة على مدى أعوام تنتهي بالمعرض الذي يحمل اسم الأعمال "الصَّلعاء" (2006)، فهنا ثمة تجربة لحكاية لوحات مختلفة تحمل تجربة فريدة وقاسية، هي تجربة الفنان نفسه مع المرض، حيث سيرى المتلقّي المغامرة الكبرى التي خاضها الفنّان في اختبار "أنوثة الجسد"، ثم كتابة سيرة هذا الجسد وتفاصيل علاقته مع المرض، وهنا "لا جسد يشبه جسدًا آخر"، في عدد من اللوحات "تتلاشى طاقتك البشريّة في التعرّف على عذابات رحلة الجسد الأنثويّ في الألم، وفي المعارف البشريّة...". وفي هذه الأعمال ستحضر الأنثى جسدًا ووجهًا وعيونًا، لكن الأبرز هو الرأس الأصلع في أحوال ومقامات تمتلك جماليّاتها الخاصّة، لونًا وحركة وتعبيرات مدهشة بقدر ما هي مندهشة.


روائيّ السيرة المفتوحة
يكتب محمود عيسى موسى بأسلوب الانثيال المفتوح على توليد النصوص والحكايات من باطن بعضها، ولكن من رحِم مزدحم بثقافة واسعة، معرفية عالية المستوى حينًا، وفي كثير من الأحيان هي بنت بيئة شعبيّة تمتدّ جذورها في تربة الموروث الشعبي الفلسطينيّ خصوصًا، لكنها تذهب في عمق ثقافات وحضارات إنسانيّة واسعة. وفي كتاب "على قيد الضحكة الأبدية: محمود عيسى موسى روائيًّا"، تأليف الفنان والفوتوغرافي الأردني صالح حمدوني، يتناول فيه تجربة الفنّان والكاتب (م. ع. م)، تحضر صورة الفنّان كاتبًا لسيرة موسّعة، ومن أبرز المواضيع التي تناولها الكتاب "التسلّح بالذاكرة، ذاكرة خصبة بالتفاصيل الجميلة للوطن، شعب روائي في الشتات، زمن المقبرة، بطولة الإنسان وبطولة المكان، الموروث والذاكرة الشعبية، المعمار الروائي بمفاتيح طرَبيّة، وبين السيرة الذاتية والتخييل".
وعن سرديّات الفنّان الكاتب، يقول حمدوني "إن موسى تعامل مع الكتابة بمتعتها وسحرها ونشوتها، ومن خلال الكتابة عمل على إنجاز مشروعه الروائي يقدم من خلاله تجاربه الحياتية الخاصة به، أو تجارب الآخرين، بسحر رواياتهم الشفهية وتقنياتهم الفطرية، أو ذاكرة الطفولة التي لا تنضب، واللغة التي حوّلها إلى بطل من أبطال رواياته، فموسى يفتح ذاكرته على مصراعيها، بفوضاها الزمانية والمكانية، بأحلامها وأساطيرها، بضعفها وقوّتها، من دون تجميل؛ لهذا تبدو كتاباته كلها تنويعات روائية على سيرة ذاتية".
ثمّ يتناول حمدوني أعمال موسى منذ "حنتش بنتش" (1995)، بوصفها روايته الأولى، ولقيت صدىً طيّبًا في الوسط الثقافيّ والفنيّ... وصولًا إلى "بيضة العقرب"، وانتهاء إلى "حبيبتي السلحفاة" (2019).




في سيرة "بيضة العقرب"، وهي سيرة سرديّة بامتياز، يشهد القارئ محطّات متداخلة، يصعب حصرُها، ما بين اكتشاف الورم، وبين وسائل وأساليب استئصاله ومعالجة آثاره، حتى الشفاء التامّ. وسنختار من بين محطّات هذه السيرة، محطة يتوقّف فيها م. ع. موسى مع امرأة سبَقتْه إلى السرطان، يدعوها "المرأة و/ أو الأنثى المُعذَّبة"، ويروي عنها، ومعها، حكايات لقاءات شديدة العُذوبة والتعذيب في آن... حتّى يحتار القارئ في الوقوف على وصْفٍ لهذه المرأة، عدا جنونها، وما يتمّ التلميح إليه من شبَقها الرّوحاني والعاطفيّ قبل الجسديّ، وهذا الجسديّ يطغى في بعض المقاطع حتّى ليصيب راوي السيرة بالرعب والهذيان؛ هذَيان ليس منبعه "حمّى السّرطان" فقط، بل حمّى العشق، وهوَس العاشق المُوَلّه، حدّ تأليه المرأة المعذَّبة والمعذِّبة (بفتح الذال المشدّدة وكسرها).
وهي التي ـ بدورها ـ لا تقلّ تأليهًا لهذا العاشق... فهي، ورغم ثقافتها عالية المستوى، لا تتورّع في أن تذهب في عشقها حدّ اللجوء إلى العرّافة للحصول على وصفة، تعويذة، أو حجاب، لتحمي عاشقها/ معشوقها، وتنقذه من عذابات سرطانه التي حملت كثيرًا منها في جولتها مع سرطان جسدها وروحها وقلبها، فلا تبخل العرّافة عليها بتعويذاتها وحجاباتها، بما في ذلك "مرطبانات" غريبة الشكل والمحتوى، يكون مفعولها بإلقائها في نهر السِّين الباريسيّ الشهير، لتحدث المعجزة متمثّلة في شفاء (محمود) بعد سنوات من شقاء الورم الخبيث وعذابات معالجته الكيميائية والإشعاعية، في عدد من مشافي الأردن، بسبب رفضه السفر للعلاج في الخارج حيث "العلاج نفسه هنا وهناك"، كما يكرّر نقلًا عن لسان أحد أطبّائه المُشرفين على معالجته، بعد النجاح في استئصال و"مَرْط بيضة العقرب"، حيث البيضة هي الخِصْية، والعقرب هو برجه الفلَكيّ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.