أمّا الأمر الثاني، فيعود إلى ظهور جيلٍ جديد من المخرجين وكُتّاب السيناريو، ممّن يؤمنون بأنّ وظيفة الدراما الآن ينبغي أنْ تخرج من ثقافة الصالونات الضيّقة والجدران المُغلقة، صوب مُختبر الواقع وفضاءاته الكبرى التي من شأنها أنْ تُغني السرد الدرامي، وتجعل الأفكار مُستجدّة على ضوء الصورة وتحوّلاتها. فهذه الوجوه الجديدة فتحت الدراما العربيّة على قارّة شبه مجهولة من التفكير الفنّي، إنّها بطريقة ما تُعيدنا إلى دراما سبعينيات وثمانينيات القرن الـ 20 حين كانت الشاشة الصغيرة مرآة للواقع العربيّ، ومُختبرًا بصريًا منه تتبلور الرؤى والأحلام لدرجة اعتبر التلفزيون ندًا للشاشة الكبيرة، بعدما أصبح عيون الطرب العربي يُمارسون التمثيل، ويحشدون وراءهم ملايين من المُشاهدين من العالم العربيّ ككلّ، كما هي الحال داخل الشاشات المصريّة. غير أنّ القلّة القليلة من الجيل الجديد عملت على تجديد الدراما العربيّة على مُستوى الموضوعات، وبشكل مُتواز مع الصُوَر، لأنّ أغلبهم عمل على استغلال جماليّات الصورة، بحكم ما تُوفّره الوسائل التقنية الجديدة، فظلّ التجديد مُرتبطًا بأنماط الصورة، من دون أنْ يقتحم بنية العمل الدرامي، ويُجدّده من الداخل، حيث تُصبح الصناعة أصيلة على كلّ المستويات النصّية والتقنية والفنية والفكريّة.
هذا الإعجاب والافتتان بالمُتابعة في علاقته بعنصر جديد العمل الدرامي بشكلٍ كامل يُطالع المرء لحظة مُشاهدة المسلسل السوري "ابتسم أيّها الجنرال" (2023)، لمؤلفه سامر رضوان، ومُخرجه عروة محمّد، الذي عرضته شاشة "العربي 2" في شهر رمضان المُنصرم. تجربةٌ مُذهلة حطّمت جميع التوقّعات، بعدما أثار جدلًا بين السوريين، جعلتهم يطرحون أسئلة حول ما إذا كان المسلسل يُحاكي في ديباجته النصية والبصريّة نموذج الحكم القائم. مع أنّ ذلك الجدل بقي صحيًا بالنسبة للعمل الفنّي، إذْ جعل سيرته تتجدّد من مُشاهدٍ إلى آخر. كما أتاح للنقد وظيفته الحيويّة في المُعاينة الفنية والتفاعل النقدي أمام ما طرحه المسلسل من أفكار ذات علاقة بالأنظمة السلطوية وأفكارها داخل المجال العامّ. بل إنّه قدّم تحليلًا أصيلًا عن هذا الموروث السُلطوي الذي يحبل به الواقع السوري، وما يروج داخله. ويحكي "ابتسم أيّها الجنرال" قصّة رجل وازن في الدولة، يُطرد في لحظةٍ ما من عمله، فيُقرّر البوح بما يختلج في صدره من أسرارٍ ومعلومات ذات علاقةٍ بحياته الخاصّة، ما يُعرّض حياته الشخصية وحياة الدولة للخطر. لكونه قد أباح في تلك السهرة بفضيحةٍ أخلاقية مفادها أنّه أقام علاقات متعدّدة مع زوجات رجال سُلطة نافذين في الحكم، ومن بينهم أخت الرئيس. في كلّ حلقةٍ، يقترح المخرج توليفة بصريّة مُذهلة، إذْ أنّ الفيلم لا تصنعه الصُوَر المباشرة والأمزجة المُتباينة، بل عمق النصّ وأصالته، وهو يتحوّل في كلّ حلقةٍ إلى مُختبرٍ يُولّد الصُوَر والتمثّلات. هذا جديدٌ في الدراما العربيّة، ونادرًا ما نعثر عليه. إنّ النصّ هو تاج "ابتسم أيّها الجنرال"، فهو ما يلعب بالأحداث، ويُقيّم أداء الممثلين، ويدفع بالحبكة الدرامية إلى حدودها القصوى.
من كان يتخيّل أنْ يغدو القصر الرئاسي السوري مادّة للتخييل الدرامي؟ من كان يعتقد أنْ تغدو تلك الشخصيات الكبيرة بمثابة مُختبرٍ فنّي لتكثيف القول، وكشف المخبأ الذي تتستّر عليه الأنظمة ومُؤسّساتها؟ وإذا كانت حلقات المسلسل شيّقة على مُستوى الحبكة، وتدرّج عنصر الحكاية، وتغيّر حدّة الشخصيات داخل الفضاءات المُغلقة، فإنّ مُختلف أنماط صُوَرها تطرح أسئلة حقيقية حول حدود الواقعي والتخييلي في بنية هذه الصُوَر الدرامية ودلالاتها. بل إنّ النصّ بكلّ جاذبيته لا يُسلّط الضوء على عائلةٍ بعينها، وإنّما يكشف فسادًا عامًّا في بنية نظامٍ آيلٍ للسقوط في أيّ لحظة. لكنّ ما أثار المُشاهد العربيّ في المسلسل الذي حقّق عتبة المليون مُشاهدة عبر يوتيوب، أنّه لم يتعوّد هذه الحدّة في التطرق إلى موضوعٍ كهذا. فالدراما المغاربيّة والعربيّة عوّدته على نصوصٍ مُفبركةٍ يتمّ إنتاجها داخل بيوتٍ، من دون لونٍ، أو رائحة، أو علاقةٍ بالواقع. ما يجذب الناس، هو ترك النصّ مساحات للتلصّص والتأويل المُضاد، الذي يُحوّل المُتلقّي إلى مُشاهدٍ ذكيّ يبتسم ويصرخ ويطرح أسئلة واقعٍ ينتمي إليه. لقد عمل السيناريست على جعل النصّ مفتوحًا ومُشرعًا في وجه كلّ التأويلات المُمكنة، إذْ يستحيل الاقتصار على فهم واحد، وإنّما يعطي عمق النصّ توهّجًا يجعل كلّ الآراء تتضارب في ما بينها. وهذا الأمر نتلمّسه أيضًا في عمل المُخرج، بعدما عمل عروة محمّد على تنويعٍ أنماط الصُوَر بين الدرامية والواقعية والإكشن والمُتخيّلة. إنّه يبني بذلك سُلّمًا من الصُوَر الفنّية التي تُكوّن نسيجًا بصريًا مُدهشًا يُعطي للمسلسل أصالته البصريّة المُمكنة. لم يستغلّ المُخرج جودة النصّ والاكتفاء بما يبنيه من معالم وعوالم فقط، ولكنّه اجتهد في البحث عن صورة مُركّبة للوضع السوري، جعلته يجترح معها كتابة درامية ثانية (بالصورة). وهذا السرّ حقيقة لا نعثر عليها إلاّ داخل تلك المسلسلات الثمانينية المُدهشة التي احترمت صنعتها وقدّمت أعمالًا درامية عميقة من حيث النصّ ومُتخيّله.
في "ابتسم أيّها الجنرال" تُصبح المُشاهدة تفكيرًا حقيقيًا، والتأويل لذةّ غير مُؤجّلة، والواقع السّوري سندًا للمساءلة والنقد. هذا الأخير هو ما يبني علاقة مُتشابكة مع المُشاهد، إنّه يُروّضه ويتحكّم في جسده، يجعله يبكي ويفرح ويسخر من شخصيات المسلسل. وهذه الطريقة في التأثير تُصبح معها الدراما قويّة ومُفيدة وذات تأثير في وجدان الناس وسيرهم.
مثل فراشةٍ صغيرةٍ مُزركشةٍ تخطو كاميرا عروة محمّد داخل أماكن منسيّة من سيرة الدراما العربيّة. فهي تُقدّم لنا صورة واقعيّة عما يحدث في سراديب السلطة. وبقدر ما يتشابك النصّ حول الصراع بين شقيقين أحدهما ورث الرئاسة عن أبيه، فإنّ الكاميرا تُمارس سحرها الماكر، وترصد معها مكبوت السلطة في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. وبقدر ما تتراجع حدّة النصّ مع توالي الحلقات الـ 10 الأولى، تبقى الصورة تفتح لنفسها مساحاتٌ جماليّة، لكنّها تظلّ مُلغزة وتعتمد على ما يُمكن أنْ نُسمّيه بـ "التشذير الدراميّ". وهو نمطٌ من الصورة لا يقول كلّ شيءٍ، ولكنّه يترك المُتلقّي يبني عوالم العمل الفنّي لوحده، وانطلاقًا من الصُوَر الشذرية التي يُمطره بها.