}

الصورة ونقد المُتخيّل الأبيسي

أشرف الحساني 18 يوليه 2023
آراء الصورة ونقد المُتخيّل الأبيسي
(gettyimages)


رغم المكانة البارزة التي باتت تحظى بها الدراما المغاربيّة في العالم العربي، لم تستطع صُوَرها الخروج من دراما الصالونات الفنّية، بما يجعلها تدخل عوالم الواقع العربي بمُختلف تحوّلاته السياسيّة والاجتماعية، لكونها مجرّد دراما تعمل على محاكاة المنتوج القديم، دون أيّ رغبة في تجديد الكادر أو تحديث الموضوعات وقضاياها. بهذه الطريقة تغدو المسلسلات والسيتكومات والأفلام التلفزيونية، مجرّد تعبيرات بصريّة فارغة، بل إنّها أشبه بشخصيات ترقص في سيركٍ من فراغ، فهي لم تستطع أنْ تنتج مشروعًا تلفزيونيًا وتنتج خطابًا بصريًا يُعرّي مآزق المجتمع وتصدّعاته. إنّ وظيفة الأعمال الدرامية، تتجاوز الترفيه والاستهلاك في الزمن المعاصر، لأنّها عبارة عن منتوج بصريّ مُركّب يدخل في اشتباكٍ حقيقي مع المجتمع. بل إنّ الدراما التلفزيونية وبسبب شعبيتها وقُدرتها على دخول منازل الناس، تكون قادرة على تغيير أفكار ونقد أزعومات وتفكيك أغاليط ما تزال مُترسّبة في بنية اللاوعي الجمعي العربي. وتكاد تكون بعض المسلسلات الثمانينية والتسعينية بمثابة مشاريع بصريّة رائدة، لا لأنّها حقّقت نسب مشاهداتٍ عالية، ولكنّ لكونها ظلّت تُشاهد عبر سنوات ونسجت عبر صُوَرها التلقائية، مكانة مركزيّة في نفوس الناس ووجدانهم وذاكرتهم. إنّ بعض النماذج العربيّة تجاوزت كونها مجرّد دراما، فدخلت في نقاش حقيقي حول الدين والجسد والسياسة والتراث والواقع والسُلطة، حتّى أضحت عبارة عن مشاريع فكرية بصرية تستخدم توابل جماليّة وحكايات درامية مُتخيّلة من أجل نقد الواقع وميثولوجياته.

وعلى الرغم من أنّ عشرات الكُتب التي تصدّت لمعضلة سيطرة الذكورية على المجتمعات المعاصرة في العالم ككلّ، لم تستطع أنْ تقضي على هذه الظاهرة أو على الأقلّ تعمل على إعادة تفكيكها ونقدها من خلال الدراسة والتحليل، فلهذا تبرز أهمية الصورة، فوتوغرافيًا وسينمائيًا وتلفزيونيا وتشكيليًا في نقد هذا المتخيّل الأبيسي الرجعي الذي ما تزال ترزح تحته المجتمعات العربيّة المعاصرة. بل إنّ الصورة الفنّية استطاعت مدّة طويلة أنْ تُغيّر أفكارًا وتنتقد سلوكات وتطرح قضايا جدية للنقاش والمساءلة. وهذا راجعٌ إلى السحر الذي تُمارسه الصورة على المجتمع، باعتبارها وسيلة يوميّة تسلب الناس عقولهم وتدفعهم إلى الانغماس فيها وتغيير مواضعاتهم وطريقة تعاملهم معها، رغم أنّها تتملّك أجسادهم وتُحوّل إلى أيقونات ونجوم ينسون عبرها أنّهم مجرّد بشر لا أكثر. إنّ الصورة الفنّية التي ينبغي أنْ نُدافع عنها اليوم، تلك التي تُلامس التاريخ وتنتقد الذاكرة وتترك أثرًا أو جُرحًا غائرًا في نفوس الناس ومَشاغلهم. وهذا الأثر هو مفتاح نجاح أيّ عملٍ فنّي، لأنّه يُحاول أنْ يبني من خلال هذا البراديغم الفكريّ سلسلة من الصُوَر التي لا تُحاكي شيئًا، بقدر ما تروم إنتاج أفكار وابتكار وضعيات للوصول إلى نوعٍ من الخطاب البصريّ المُركّب الذي يُحوّل الفنّ إلى شكلٍ من أشكال تجلّيات الفكر المعاصر.

حين شاهدنا مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" (2023) للمؤلف سامر رضوان وللمخرج عروة محمّد و"ترجمان الأشواق" للمخرج والمؤلّف محمّد عبد العزيز، طالعتنا المَشاهد الدرامية، بوصفها تفكيرًا يسبق عملية إنتاج الصورة، أيْ أنّ أصلها يقوم على هواجس تجديدية تتطلّع إلى خوض نقاش مجتمعي ونقدٍ مُبطّن أو طافحٍ للسُلطة وأكاذيبها داخل البيئة السورية. لهذا فإنّ المسلسلين حرصا منذ أوّل حلقة على الاشتباك فكريًا في قضايا تهُمّ الشأن السوري من مُنطلق الصورة وما تحمله في بينتها من أنساق بصريّة مؤثّرة في المُتلقّي، بالمقارنة مع الخطاب المكتوب الذي غدا يومًا بعد يوم، يجد عسرًا في الوصول إلى مُتلقٍ لا يقرأ، بل إنّه مشغول بحوامل صورةٍ تُسهّل عليه كلّ شيء، وتدفع مبدئيًا إلى الانغماس في عواملها التخييلية والترفيهية.

حين شاهدنا مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" و"ترجمان الأشواق" طالعتنا المَشاهد الدرامية، بوصفها تفكيرًا يسبق عملية إنتاج الصورة، أيْ أنّ أصلها يقوم على هواجس تجديدية تتطلّع إلى خوض نقاش مجتمعي ونقدٍ مُبطّن أو طافحٍ للسُلطة وأكاذيبها داخل البيئة السورية


بعد عمله كمُساعد مخرج في عدّة أفلام سينمائية مع كوكبة من المخرجين المَغاربة، عمل إدريس صواب على إخراج فيلمه التلفزيونيّ "ثلاثة د الفرحات"، والذي يرصد من خلاله صورة مركّزة ومزدوجة عن واقع المرأة داخل مجتمع مغربي يئن تحت سطوة التقليد، حيث للرجل أهميّة بالغة داخل الأسرة في صناعة الرأي وإدخال الفرحة وإنتاج سيل من الرموز الأبويّة عن مكانته داخل البيت، مقارنة مع المرأة وما تلعبه من دور حيويّ داخل المجتمعات الغربية، بوصفها كائنًا مُتحرّرًا من الرجل، وإنْ كان إدريس صواب لا يتناول موضوع المرأة من زاوية تتّصل بالمجتمع المدني المعاصر، والدفاع عن حقوقها المسلوبة داخل مجمع ذكوري، لا يعترف إلاّ بصورة الرجل ونجاعته في تدبير أمور وشؤون الحياة اليومية، ولكنْ من خلال جعل المسألة أكثر تجذرًا في خصوصيات المرأة المغربيّة وتاريخها داخل مجتمعات تقليدية مفبركة، طالما عانت المرأة داخلها من التهميش والحيف، خاصّة وأنّ تغذية الشعور الجمعي حول مكانة الرجل وحظّه في الإنجاب والرزق وبناء العائلة وتأسيس مستقبلها، لا يعثر على بعض مقوّماته فقط داخل المجتمع المغربي المعاصر. ولكن يجد مرتعه داخل خطاب قبليّ ماضويّ، لا يكُفّ عن صناعة هذا الشعور الرمزي الأبويّ الواهم. وذلك من خلال حكاية رجل يُدعى "سويلم" (لحلو زكرياء) له ثلاث بنات، مقابل أخيه "صويلح" (عبد الرحيم المنياري) الذي يتوفّر على ثلاثة أولاد. وبسبب نكسة اجتماعية يعيشها "سويلم" وتردّي حالته المادية والصحية، يكون على وشك بيع محلّه التجاري الصغير الذي ورثه عن والده. إذْ يعتقد سكان الحيّ، أنّ سبب هذا "النحس" نابعٌ بسبب توفّره على ثلاث بنات (القرحات). مقارنة مع حالة أخيه الاجتماعية التي تزداد متعة وراحة وهو محاط بثلاثة ذكور (فرحات) في بيته. لكنّ سرعان ما تنقلب المعادلة، بسبب شطارة ابنته الصغيرة وادخارها للمال وشراء محل والدها وإعادة الحياة له بعد الكساد الذي أصابه. كلّ هذا في مقابل "صويلح" الذي سيفقد زوجته وتجارته وأرباحه، بسبب سهرات بعض أبنائه.

منذ بدايات الفيلم تتسلّل نزعة رصد/ تفكيك ولو بشكل سطحي وانفعالي في بعض المَشاهد. فالسيناريو مكتوب بعناية على شكل حوارات يطبعها نوع من الزجل ومعسول الكلام، والذي يجد سياقه داخل مرحلة تاريخيّة، ما تزال مترسّبة في بنية الحاضر. غير أنّ إدريس صواب لا يقف في سراديب هذا الماضي ومتخيّله الجمالي. ولكن بإقامة نوع من نقد مزدوج للماضي والحاضر معًا. ولكن في لحظة ما تتفكّك القصّة على الكثير من المسرّات، وكأنّها تنزع عنها عباءة النقد الجمالي، لصالح اجتماع مغربي تقليدي مُفكّك يعيش حالة من التناقض بين ما وجد نفسه عليه مع أجداده، وبين استيهاماته الذاتية وتطلّعاته في عيش حياة أفضل (شخصية الصافي) بعيدًا عن أيّ مركزيّة ذاتية أو سلطة تاريخيّة أو أبيسية مصطنعة. بحيث يغدو النصّ تائهًا ويطبعه بعض النشاز على مستوى بعض المَشاهد كحشو بصريّ في نهاية الفيلم، ورغم عدم تناسق بعض هذه المَشاهد، بحكم سطحية خطابها وتبرّمها تجاه صورة ترفيهية، تختزن مكبوت الماضي ذهنيًا واجتماعيًا. يتأرجح النصّ بين واقع مغربي تقليدي ينسج مع الماضي مختلف أشكال التواصل والامتداد، بما يجعله صورة مصغّرة عن ذلك الماضي القريب، وبين أشكال من الصور الذاتية الحالمة (كل شخصيات البنات) التي لا تقبل بهذا الماضي وبطريقة تمثّله للمرأة وحريتها وجسدها ومواقفها، سواء في ذهنية الزوج أو داخل بيت عائلتها.

ليست مقاطع العشق الغنائية والفضاءات المتموّجة بزخارفها الأندلسية وألوانها الباهية والأجساد الحالمة والإكسسوارات المزركشة، ما يجعل الفيلم التلفزيوني تاريخيًّا وتطبعه نزعة تراثية محضة. ولكن طريقة تشكيل معالمه كتابيًا، إما على شكل حوارات مُطرّزة بالشعر والزجل والمعتّقة في جرار الكلام، أو مدى تغلغل الحكاية في بنية مجتمع قبلي يُرخي بظلاله على حاضر مُغيّب. ما يُعطي انطباعًا تاريخيًا قويًا بأنّ الفيلم ليس مُرتبكًا كما قد يُظّن للوهلة الأولى، ولكنّ إمكانية تحقّق شرطه الجمالي رهينة بحرص المخرج على مزاوجة بصريّة بين الواقع والمتخيّل. الأوّل يغلب على الثاني وهذا جليٌّ منذ المَشاهد الأولى، لأنّها منطلقات النصّ تبدو على مستوى التأليف نقدية/ تفكيكية أكثر من كونها تخييلية/ جماليّة. فهي ترصد وتُفكّك وتُشخصّ، عوض أنْ تسرد وتحكي وتبوح وتُضمر وتُخيّل وتُجمّل، إنّها بلغة أخرى، تُعوّض مفهوم الإدراك بالحدس والتفكير بالتخييل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.