جاوزت عمتي التسعين من سنواتها حية. وهي تعيش وحيدة منذ عقود، في البيت الذي ولدت فيه وأعاد أبي إعماره مستخدمًا الأحجار نفسها التي استخدمت في إعماره أول مرة، بعد تعرضه لغارة إسرائيلية في بداية سبعينيات القرن الماضي. لسبب ما، تفككت طبقة الكلس الرقيقة التي كانت تجمع بين الأحجار، وتناثرت تلك الأحجار في باحته سالمة، كما لو أنها جراء ولدت من رحم واحد. حجارة زرقاء، تشبه لون القرية التي تقع في سفح جبل الشيخ. هذا السفح شهد كل حروب القرن. في مكان ما قريب من هذا السفح، عمد أحد أبناء القرى المجاورة إلى حرق عشرات الجنود التابعين لحكومة فيشي في الأتون الذي يستخدمه لصناعة الفخار، لا لسبب واضح، فقط لأنهم تعدوا حدودهم في استخدام ممتلكاته وهم بكامل عتادهم الحربي. هذا الرجل، ربما ما زال حيًا، لم يكن يميز بين الحلفاء والمحور، بالنسبة له كانوا متماثلين، جنود يستخدمون قوتهم النارية لفرض ما يريدونه على القرويين البسطاء. إنما ورغم ذلك، لم يحدث أن صنعت الروايات من هذا الرجل بطلًا، ولم يتذكره أحد.
عمتي أيضًا لم يتذكرها أحد. ولم يكتب عنها أحد. وها أنا أسدد لها دينًا قديمًا لم أسدده بسبب جحودي فقط. لقد كتبت في حياتي عن أصدقاء ما عادوا أصدقاء، وعن نساء عبرن في حياتي على نحو لم يمكنني من تذكر ملامحهن. كنت أظن أن كل هؤلاء مستحقون للكتابة عنهم. لكنني لم أكتب عن عمتي.
في هذه الحرب الأخيرة، دفعتني هذه العمة دفعًا لاكتشف أين تكمن الحكايات الحقيقية. هذه المرأة تعيش وحيدة منذ عقود، بيني وبينها بحور وسماوات، وبينها وبين أهلي مفازات وجبال، تعيش وحيدة في منزل لم تتغير ملامحه منذ نحو قرن. ألا يشبه هذا المنزل قبرًا فسيحًا؟ وما الذي يعنيه أن يعيش المرء وحيدًا طوال هذه السنوات، ألا تشبه هذه السنوات المكررة لحظة لا تنتهي فصولها من التسليم بقضاء الله وقدره، أو من التشهد الذي يسبق تسليم الروح؟ الأرجح أنها في كل ليلة وكل يوم كانت تتذكر أحداثًا ووجوها، والمرء حين يتذكر فإنه يحاسب نفسه، يندم على ما اقترفه، يشتاق لمن أحبهم. التذكر هو وسيلتنا الناجعة لنقد أنفسنا وسيرنا، ومحاولة تجنب تكرار ما اقترفناه. لكن من كان في مثل حالها لن يكرر شيئًا. إنه يتذكر وحسب. ولأنه لن يكرر شيئًا يصبح كل ما يفعله في يومه وليله متعلقًا بإعادة شحن طاقته على الحب. حب الذين غابوا. حب الذين يعيشون بعيدًا، ويعانون من ظروف الحياة القاسية. حب الذين عرفتهم في حياتها على قلتهم. هذه المرأة، في عزلتها تلك كانت تعيد تعريف الحياة بوصفها إنتاجًا للحب فقط.
إنما مع ذلك لا يجدر بي أن أستخف بقدرتها على القتال، بإرادتها الحاسمة والقاطعة في أن تواجه منفردة كل ما يواجهها. لقد رفضت الخروج من البلدة المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلة وسورية طوال فترة حرب المشاغلة التي افتتحها حزب الله في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وحين اشتدت الحرب وأصبحت رحاها طاحنة، لم تخرج من بيتها رغم محاولات أهلي المتكررة. قررت بإصرار تام أن تحرس الحجارة التي أعيد رصفها لتشكل جدران منزلها، وإن حدث وتناثرت مرة أخرى بفعل القصف، فلا بد أنها ستكون قابلة لاستخدامها مرة أخرى. هكذا قررت أن تتآخى مع الأحجار. هذه عبارة لم يكن في الإمكان اكتناه معناها قبل قرارها هذا. على أي حال، ما بقي لي من هذه العمة لا يتعدى الذكريات، رغم أنها ما تزال حية هناك. تناثرها على نحو ما وانفجار جسمها، لا ينقص منها شيئًا في قلبي وخاطري. لقد اتخذت قرارًا بأن تعيش إلى الأبد، ونجحت في تحقيق ما أرادته.
ستنتهي هذه الحرب يومًا، وعمتي ستنجو من دمارها. لكنني لا أستطيع مغالبة هذا الشعور الجارف الذي ينبئني، بأنها اختبرت الموت حقًا وفعلًا، ونجت من الموت لتعود إلى الموت. هذا تصالح مع أعمارنا لا نقوى جميعًا عليه. وما دمنا نسعى لانتصار ما، فهذا انتصار مدوٍّ. هذه المرأة نجحت في منع الطائرات من تحويلها إلى خائفة، أو نادبة. شرط الخوف ليتحقق أن نعاينه في وجوه الخائفين. لقد حرمتنا من هذا الشعور المتشفي. وهي أيضًا ليست نادبة لأحباء ومعارف سقطوا في هذه الحرب. لقد استعاضت عن الندب بتفقد أحوالها كل صباح. ذلك أنها شاركت الذين ماتوا تجربتهم، لكنها بقيت حية. هذا انتصار للروح، انتصار لم أكن أعرف أنه ممكن قبل أن تقودني هذه العجوز إلى مسالكه.