في الفصل الأخير من رواية يحيى السنوار "الشوك والقرنفل" يصرُّ إبراهيم، وهو الشخصية المركزية في العمل، والبطل المرويُّ عنه، على أن يخرج في عملية ضد الاحتلال الإسرائيلي في غزة، خلال انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية التي بدأت عام 2000). وتنتهي الصفحات الأخيرة باستشهاده، مع عدد من رفاقه، في قصف للسيارة التي كان يستقلها، من قبل طائرة حربية إسرائيلية. وعلى الرغم من أن هذا العمل السردي، الذي كتبه الشهيد السنوار أثناء سجنه الطويل (قبل خروجه في صفقة تبادل الأسرى الفلسطينيين مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2011، وانتهى منه عام 2004)، يصف إبراهيم بأنه العقل المدبّر لكثير من العمليات المسلّحة التي قامت بها حركة حماس ضد الجيش الإسرائيلي، فإن المؤلف السجين يدفع بطله لاتخاذ قرار بمغادرة موقعه كمخطّط للعمليات العسكرية المقاومة، والمحرّك الخفيّ/ الظاهر لتلك العمليات، ليشارك بنفسه في واحدة منها، طالبًا الشهادة.
تبدو خاتمة "الشوك والقرنفل"، وهو عمل ينتمي إلى ما اصطلح على تسميته في الأدب الفلسطيني بأدب السجون (انطلاقًا من كون كاتبيه سجناء في معتقلات الاحتلال)، مطابقةً، بصورة من الصور، لاستشهاد السنوار في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، في اشتباك مع القوات الإسرائيلية في حي تل السلطان برفح. وكأن العقل المدبر لطوفان الأقصى (هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، تنبّأ بكيفية رحيله عن هذا العالم. كأنه أراد أن يغادر هذا العالم بالطريقة نفسها التي رسمها لبطله إبراهيم. ولا شكَّ في أن كثيرًا من التصريحات والمقابلات، التي أدلى بها السنوار، بعد خروجه من السجن قبل ثلاثة عشر عامًا من رحيله، تتطابق تمامًا مع هذه النهاية التي أرادها لنفسه: أن يموت بقصف طائرة، أو قذيفة دبابة. وقد كان له ما أراد، فتحوّل من بطل مقاوم جسور، إلى أسطورة فلسطينية، وعربية، وإسلامية؛ حتى أن كثيرًا من الصحافيين والمعلّقين في الصحافة والإعلام في لغات متعدّدة يقارنون بين مصرعه ومصرع تشي غيفارا. وهكذا، عَبَر السنوار من كونه أيقونة فلسطينية، بعد طوفان الأقصى، لكي يصبح أيقونة كونية يستلهمها الراغبون في التحرّر من الاستعمار، وهيمنة أميركا، والرأسمالية الغربية المتوحشة. لقد قفزت الشخصية من صفحات الرواية إلى أرض المعركة، لتدخل المتخيَّل الشعبي للفلسطينيين، وغير الفلسطينيين.
كأن الواقع يقلّد الحكاية، بدل أن تقلّد الحكاية الواقع. كما أن الكاتب يسير على خطى شخصيته الروائية، فيقلّد ما فعلت، ويلقى المصير الذي تمنّته تلك الشخصية لنفسها، والنهاية التي رسمها هو لها. لربما يكون ذلك حدث بحكم المصادفة، وأن الكاتب لم يشأ تقليد الشخصية الروائية التي ابتدعها، لكن مصرعه على الهيئة التي تمنّاها لنفسه في الواقع، وكذلك في الرواية، حقّق أمثولته التي سوف تظل عالقة في أذهان الناس، وقلوبهم التي تعلّقت بالكاتب والمقاوم البطل، الذي عبر من صفحات روايته إلى الواقع، فقضى شهيدًا. لا أريد القول هنا إن "أبو إبراهيم"، أي الكاتب يحيى السنوار، لم يخطّط، بصورة من الصور، لهذه النهاية، فتصريحاته، كما قلت، تعبّر عن ذلك بوضوح لا لبس فيه: أي أن لا يموت على فراشه، أو في حادث سيارة، بل وهو يقاتل في أرض المعركة. وقد كان له ما أراد.
يقودنا الاستنتاج السابق إلى طبيعة العمل الذي كتبه يحيى السنوار، وتصنيفه النوعي. فليس له أي رواية أخرى قبل هذا العمل، الذي جرى تهريبه من السجن، مثله مثل أعمال كثير من السجناء الفلسطينيين الذين ألّفوا روايات داخل جدران السجن. ومن الواضح، منذ الصفحات الأولى لكتاب "الشوك والقرنفل"، أنه سيرة ذاتية للكاتب صبَّها في قالب روائي. فعلى الرغم من أن الشخصية المركزية لا تروي الأحداث بنفسها، بل يروي عنها ابن العم المقرّب إلى الشخصية، وكاتم أسرار المناضل، الذي يخطّط وينسّق تطوير عمليات كتائب عز الدين القسام في الميدان، إلا أن سيرة السنوار الشخصية تقترب كثيرًا من الصورة التي ترسمها "الشوك والقرنفل". ولربما يكون هذا هو السبب الذي جعل عددًا من الصحافيين، خصوصًا غير العرب، ممن كتبوا عن يحيى السنوار، يلجؤون إلى "الشوك والقرنفل" لكي يتتبعوا، ويفهموا، سيرة المناضل الفلسطيني، وكيف يفكر.
تسعى "الشوك والقرنفل" إلى تسجيل مراحل المأساة الفلسطينية، منطلقة من هزيمة 1967، وخروج القوات المصرية من قطاع غزة. وبما أن السنوار من مواليد 1962، فهو يحكي عما رآه وعايشه من هذه الهزيمة المدوية التي مني بها عدد من الجيوش العربية مجتمعة. ومع أن الراوي يصوّر في الفصول الأولى من "الشوك والقرنفل" أجواء تلك الهزيمة، وآثارها في وعي أبناء عائلته، ومن ضمنهم إبراهيم، الذي ربّته زوجة عمه، بسبب استشهاد والده، وزواج أمه، إلا أن معظم صفحات العمل مستغرقةٌ في سرد تطور عمليات المقاومة الفلسطينية، بتركيز واضح على تلك التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى. ثمَّة سردٌ سريع للتحولات التي مرَّ بها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد 1967، وتركيزٌ على الظروف الصعبة للعائلة التي نشأ ضمنها إبراهيم وأبناء عمه، والدور العظيم الذي تقوم به زوجة العم، في تربية أبنائها وأبناء أخي زوجها. وهو ما يلقي الضوء على السيرة الشخصية لإبراهيم، وكيف تشكَّل وطنيًّا، وأيديولوجيًّا، وعقائديًّا، ليصبح واحدًا من قادة حركة المقاومة الإسلامية في غزة. ولا شكَّ في أن هذا المسار، الذي تتخذه الأحداث، يقرب العمل، في تصنيفه النوعي، من رواية تكوين الشخصية، أو بحسب الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير "التربية العاطفية".
صحيح أن السنوار لم يكن متمرسًّا في الكتابة الروائية، وفي عمله كثير من الإشكالات السردية، لكن ما يهمنا في مثل هذا النوع من الكتابات هو الإشارات، والتوضيحات، التي نستخلصها من العمل حول طريقة تفكير قائد سياسي مقاوم، ودوافعه التي جعلته يخطط لعملية "طوفان الأقصى"، ليحدث زلزالًا كبيرًا في المنطقة، لا ندري، حتى هذه اللحظة، توابعه وارتداداته، وأثره على المنطقة، والكيان الصهيوني، وعلى مصير الفلسطينيين. ومن هنا فإن علينا أن لا نركز كثيرًا على "الشوك والقرنفل" كعمل فني، سردي، تخييلي، بل كوثيقة توضح طريقة تفكير صاحبها، وإيمانه القاطع بأن السبيل الوحيد إلى تحرر الشعب الفلسطيني هو الكفاح المسلح. صحيح أن معظم صفحات العمل مشغولةٌ بتوثيق العمليات التي قامت بها المقاومة الإسلامية في غزة، والقدس، والضفة الغربية، فإن غاية الكاتب، كما هو واضح في التركيز على هذه العمليات، هي التشديد على ضرورة ما تفعله حركة حماس من تبنٍّ للمقاومة المسلحة . فـ "إبراهيم"، الذي يرجِّع صدى أفكار يحيى السنوار نفسه، يؤمن أن الفلسطينيين لا يمكن لهم أن يتحرّروا من الاحتلال الصهيوني إلا إذا ضغطوا عليه في الميدان. لا شيء يمكن أن يجعل الاحتلال يرحل سوى استخدام القوة المتاحة، والكفاح المسلح.
تلك هي الرسالة التي يمكن أن يخرج بها القارئ، من هذا العمل السردي الوحيد، الذي كتبه الشهيد يحيى السنوار، ليعدَّ نفسه، كما يبدو، لما خطّط له بين جدران سجنه: ما قامت به حركة حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فخلطت الأوراق في المنطقة، وأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وأحيت ما أماتته السياسة والمفاوضات العبثية مع إسرائيل بعد توقيع اتفاقيات أوسلو.