اتّخذت الانزياحات السكّانية مع بدايات القرن العشرين أشكالًا متعددة فرضتها، بشكل أساسيٍّ، التبدّلات الجوهرية في شكل الحياة والتطوّر الحضاري والمَكْنَنة، بحيث لم يعد من الممكن أن تتعرّض الشعوب لأخطارٍ في أماكنها الأصلية وتبقى في حالة ثبات بانتظار الموت، أو التهديد.
سابقًا كانت الشعوب تغادر جماعيًا أراضيها حين تلمّ بِمراعيها النوائب الطبيعية، من جفاف، أو زلازل، أو طواعين، بحثًا عن أراض قريبة تغدو إليها على الأقدام التي تنشد استقرارًا مفقودًا، أو أمانًا غذائيًا، أو نفسيًا.
تلك الهجرات، أو الانزياحات، لم تخرج، عادة، عن الإطار الجغرافي لِمكان الإقامة الأصلي، ولم تكن تبتعد عنه كثيرًا، ومنها الهجرات العربية والتركية، وكذلك هجرات وسط آسيا وما إلى هنالك من تنقّلات جماعية للشعوب.
مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، وما رافق تلك الفترة من نهضة علمية وبزوغ "أرض أحلام" في القارّة الأميركية، انتقل ملايين البشر من مختلف دول العالم، خصوصًا من أوروبا والصين والشرق الأوسط، إلى العالم الجديد ممّا سُمّي بالموجة الثانية للهجرة التي استمرت من عام 1890 حتى عام 1924، وهو التاريخ الذي قُرّر فيه قانون الهجرة الأميركي، وطُبِّق. قبل ذلك كانت الهجرة تتطلّب، فقط، ثمن تذكرة الباخرة التي ستقلّ المهاجر إلى وجهته في الأراضي الجديدة في الأميركتيْن الشمالية والجنوبية، وأستراليا. مساحات شاسعة وأراضٍ فارغة تحتاج من يبنيها، هكذا رُوِّج للأمر، وعلى ذلك انتشرت الإشاعات التي راقت لشعوب الشرق الأوسط التي كانت في تلك الفترة تعاني من حملات تجنيد صعبة وحروب لا تنتهي، أسفرت عن مجاعات وأراض بور، وحتى هجمات للأوبئة والأمراض، وبما ترافق جميعه مع تدنٍ مرعب في الخدمات الاجتماعية والصحية وانفلات غير محدود لِلأمن. كل هذا جعل ملايين السوريين المُنحدرين من محافظة سورية حسب سجلات الهجرة الأميركية، يغادرون بلادهم نحو العالم الجديد بحثًا عن فرص حياة أفضل، وأكثر عدالة وطموحًا.
كانت محافظة سورية في الدولة العثمانية تشمل دولًا عُرِفت لاحقًا بأسماء مختلفة مثل لبنان وفلسطين والأردن وسورية، لكنهم لم يحظوا بانتماءٍ عامٍ وشاملٍ يمنحهم هويةً حضاريةً واحدة، في ظل انهيار الدولة العثمانية وتمزّق النسيج القومي والوطني، وتفرّق الهويات الصغرى التي يتمسك بها المهاجر عادة بحثًا عن الاطمئنان قبل الذوبان الكبير في الدولة المضيفة. وهكذا يصف جبران خليل جبران نفسه وهو من الموجة الثانية للهجرة من الشرق الأوسط بأنه سوري، قبل أن يصيب شهرة واسعة في نيويورك ويعلن لبنانيته بفخر. كذلك يذكر الكتّاب اللاتينيون في أعمالهم الروائية أن المهاجرين إلى كولومبيا وكوبا والبرازيل والأرجنتين كانوا يُسمّون بالأتراك، لأنهم يرتدون الطرابيش والشروايل ويمارسون عادات صُنِّفت على أنها عثمانية تركية. في قلب هذه السياقات جميعها، تمخضت الهجرات عن جاليات كبرى في البلاد اللاتينية، حيث تتركز أعداد بالملايين من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين في البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وتشيلي، عملوا وأنتجوا وتفاعلوا مع محيطهم ليحظوا بمكانة كبيرة في مجتمعاتهم الجديدة، وليصلوا إلى أعلى المراتب القيادية في تلك البلاد مثل رئاسة الأرجنتين (كارلوس منعم) والبرازيل (ميشال تامر) والأكوادور (عبد الله بوكرم) والسلفادور (الفلسطيني أنطونيو السقا)، إضافة إلى طارق العيسمي، نائب الرئيس الفنزويلي.
جميعهم منخرطون في مجتمعاتهم الجديدة وليس لديهم أيّ إلمام بلغتهم الأصلية: العربية، إذ لم يتبقَ لهم من ذاكراتهم إلا الأسماء التي تدلّ على أصولهم الشرقية، لكن الذوبان لم يكن قدرًا حتميًا لجميع الجاليات العربية في أميركا اللاتينية، فها هي الجالية الفلسطينية التي توجهت أعداد كبيرة من أبنائها إلى تشيلي، بعد أن تتالت الأنباء لديهم بأن تشيلي وعاصمتها سانتياغو هي مدينة ممتازة لاستقبال المهاجرين، تفرض هناك هويّتها وعناوين قضيّتها وتطلعات أبنائها.
أهم معلم أهلي يدل على تلك الجالية العربية العظيمة هو نادي "ديبورتيفو بالستينو" الذي أسّسته جمعية الجالية الفلسطينية في تشيلي عام 1920 (Getty) |
2
بعد انهيار النظام العراقي، وانفراط عقد المجتمع فيه، ضاقت الدنيا بفلسطينيي العراق، الذين رأت فيهم بقية الدول المحيطة بالعراق جزءًا من إرث صدام حسين، فطاردتهم الميليشيات الطائفية وقتلت منهم العشرات ما اضطرهم إلى الهروب نحو الحدود السورية حيث علِقوا هناك في منطقة التنْف، لتعلن عندها، وفي سابقة جريئة، رئاسة الجمهورية في تشيلي استعدادها لاستقبال المئات منهم.
وهنا يمكن أن تُطرح أسئلة مثل: لماذا استقبلت تشيلي في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين فلسطينيين؟ ولماذا رأت في تأمين وصولهم إلى الأراضي الجنوبية واجبًا وطنيًا يستحق الاحتفال بهم في المطار؟ أما الجواب، وبمنتهى البساطة، فهو أن نصف مليون تشيلي من أصول عربية فلسطينية هم من بناة تشيلي الحديثة، ومساهمون حيويّون في بناء المجتمع الناشئ في تشيلي، وهم وصلوا إلى هناك في موجة الهجرة الثانية نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مغادرين بلادهم الأُم في بلاد الشام، لأسباب تتعلّق بالفرار من التجنيد (السفربرلِك) والحروب والمجاعات التي كانت تضرب تلك الأراضي العظيمة الجميلة المُهمّة الواقعة في قلب العالم.
يذكر أن معظم الذين وصلوا تشيلي في تلك الفترة هم من الفلسطينيين المسيحيين؛ وهو ما يؤكده المؤرخ أوجينيو شهوان (1951-2015) التشيلي صاحب الأصول الفلسطينية لأجداد وصلوا إلى تشيلي في عشرينيات القرن الماضي، موردًا أسماء بعض القرى التي جاؤوا منها، ومنها بيت جالا وبيلين وبيت صفافا وبيت ساحور وغيرها. حقيقة جعلت نسبة المسيحيين من فلسطيني تشيلي تتجاوز 95 بالمائة، مما سهّل اندماجهم السريع في مجتمع تشيلي الناشئ. شهوان يرجح أن الأمر يعود إلى "الفزعة الكبرى" التي تبنّاها (العالم)، وفي نسخته المسيحية على وجه الخصوص، إنقاذًا لِآلاف الشباب من "ذهاب بلا عودة" للمشاركة في حروب الدولة العثمانية التي كانت أقرّت في تلك الفترة قانون التجنيد الإجباري لغير المسلمين، ومساعدتهم بالتخلّص من الوضع الاقتصادي المتدهوّر الذي عانت منه بلادنا خلال الحرب العالمية الأولى.
توالت الهجرات بعد ذلك مستفيدة من وجود سابقين سهّلوا وصول اللاحقين، بعد أن أسّس السابقون استقرارًا معقولًا في بلاد الأنديز استفاد منها من التحق بهم بعد نكبة العام 1948، ونكسة العام 1967. انتشر الفلسطينيون في محافظات تشيلي ومدنها جميعها، ما يبرّر المثل الشعبيّ الشائع هناك: "في كل قرية ثلاثة أشياء: كاهن وشرطي وفلسطيني".
في قلب سانتياغو ثمّة حيّ عربي فلسطيني قديم، لا يزال يؤمّه أبناء المهاجرين ممّن لا يتكلّمون العربية بطلاقة، حيث يتجمع العجائز في مقهى بيت جالا في قلب الحي العربي هناك، وبالقرب منه توجد كنيسة الأرثوذكس العربية "كنيسة سان جورجيوس اجليسياس" التي أسسها المهاجرون الأوائل في عام 1917، إضافة إلى عدة مدارس ابتدائية تملكها الجالية الثرية التي باتت واحدة من أغنى الجاليات في تشيلي، بحيث أن تأثيرها يفوق حجمها بكثير، فحسب الموسوعة الفلسطينية يسيطر فلسطينيو تشيلي على نسبة ضخمة من الاقتصاد التشيلي تفوق الخمسين بالمائة، تنوّعت أعمالهم من إدارة البنوك إلى الصناعة والتجارة، ولكن أهم معلم أهلي يدل على تلك الجالية العربية العظيمة هو نادي "ديبورتيفو بالستينو" الذي أسّسته جمعية الجالية الفلسطينية في تشيلي عام 1920. فريق كرة القدم في النادي (اللعبة الأكثر شعبية في أميركا اللاتينية) تدرّج صعودًا حتى وصل عام 1955، إلى تربّع عرش دوري الدرجة الأولى هناك، ليصبح النادي الأكثر شعبية في الدوري الممتاز في تشيلي الذي تحمل قمصان لاعبيه ألوان العلم الفلسطيني الأسود والأحمر والأخضر والأبيض. النادي مملوك للملياردير سلفادور سعيد، وهو رجل أعمال من عائلة سعيد التي تملك مشاريع اقتصادية في أغلب بلدان أميركا اللاتينية، وتتفرّع أعمال العائلة في مجالات البنوك والمصارف والشحن والتجارة عمومًا.
من ضمن أهازيج مشجعي النادي الشهير أهزوجة تنادي باسم "بالستينو... بالستينو"، التي يقول أحد صحافيي تشيلي إنها تعود إلى النص التوراتيّ الذي يوجد فيه جملة مشابهة على لسان الملك داوود الذي نادى حينما علم بمقتل ابنه: "أبشالوم أبشالوم... أنقذوا ابني"، وكأن بجماهير النادي الغفيرة تنادي مع كل هدف يسجله لاعبوهم المنحدرون من أصول متباينة (ومنهم، بالطبع، فلسطينيون) بحقّهم في إرث بلدهم الأم.
يؤيد مشجّعو النادي، شأنهم شأن بقية الجالية الفلسطينية الكبيرة، حركات التحرّر الفلسطينية، ويقومون بحملات تبرّع كبرى لصالح المتضرّرين من الحرب في فلسطين، وغيروا لفترة طويلة الرقم واحد في قمصان النادي ليصبح مشابهًا لخارطة فلسطين من النهر إلى البحر. ولم يقتصر الدعم في المهجر على الرياضة فقط، بل ساهم أعضاء الجالية بكثافة في الضغط على حكومتهم من أجل دعم بلدهم الأم ديبلوماسيًا وسياسيًا، فكانت من أهم حملات الضغط التي مارسوها هي رفض حكومة التشيلي قرار التقسيم سنة 1947، في مجلس الأمن، واستقبال مكاتب حركة فتح سنة 1974، الذي تحوّل لاحقًا (وتحديدًا عام 1991) إلى سفارة رسمية، وفي عام 2011 اعترفت الحكومة التشيلية بالدولة الفلسطينية من طرف واحد، لتكون من الدول الرئيسية السبّاقة لذلك.
فكما نقل سكان بلاد الشام مدنهم: حمص ودمشق وحماة وأذرعا وغيرها، إلى الأندلس وبنوا فيها جِنانهم الخاصة، ليستعيدوا قوتهم وذاكرتهم التي لا تُمحى، أخذ فلسطينيو تشيلي معهم إلى أميركا الجنوبية بيت جالا وبيلين وبيت لحم ودورا والخليل والقدس.
فلسطين فكرةٌ حيّة لا تموت، وهي باقية ما بقي الإنسان الفلسطيني. (بالستينو) تسكن المعمورة من أقصاها إلى أقصاها، طالما هنالك دمٌ بلونِ زيت الزيتون، وكوفية بيضاء وسوداء، ستبقى فلسطين ما بقي الإنسان الفلسطيني الذي أدركنا جميعًا أن المؤامرة الكبرى هي ضده أيضًا، وليست ضد أرضه فقط.