لم تنفصل مسلسلات رمضان هذا العام، في نسختها المصرية، عن سؤال الواقع الاجتماعي الراهن، وهو واقع يتناقض مع واقع الإعلانات التي تسعى لتقديم مصر باعتبارها نسخة من دبي أو تروم إلى ذلك. هذه المفارقة بين الطبقة الموجه لها المسلسل التلفزيوني (هذا العام بالتحديد) والطبقة الموجهة لها إعلانات الكومباوندات والشاليهات التي تبدأ من ثلاثة أو أربعة ملايين جنيه (220 ألف دولار تقريبًا)، تضعنا أمام واقعين لا يجتمعان، جعل المواطن المصري يطلق عليها "أبناء مصر" و"أبناء Egypt". هاتان الطبقتان تلتقيان في مسلسل "صلة رحم" بصورة دقيقة، على أرضية المنفعة المتبادلة، وإن كان سؤال الطبقة لم يكن همّ صُنّاعه، وإنما أحلام الإنسان ومشروعية تحقيقها بأي ثمن.
ينطلق "صلة رحم" لمؤلفه محمد هشام عبية، ومخرجه تامر نادي، من نقطتين متواجهتين سعى على مدار الحلقات إلى التقريب بينهما: عالم الطبيب حسام (إياد نصار) وزوجته ليلى، الطبيبة النفسية (يسرا اللوزي)، وعالم حنان (أسماء أبو اليزيد) ونورا (نور عبد الرحمن)، فتاتان هربت الأولى من زوجها، والثانية من أهلها، وكلتاهما تعمل في كوافير بأحد الأحياء الشعبية. وبين العالمين حلقات وصل أهمها الطبيب خالد (محمد جمعة) والممرضة سهام (هبة عبد الغني).
تتعقّد الحبكة مع خطأ واحد ارتكبه حسام (سهرة في بيت حبيبة سابقة) في ليلة أجهضت فيها زوجته، وفي محاولة إنقاذها يتعرضان لحادثة بالسيارة وينتج عن ذلك موت الجنين واستئصال الرحم. بدايةً من هذه النقطة ينبني الخط الدرامي لمسلسل هو برأيي الأفضل في السباق الرمضاني من حيث بنيته وتطور حبكته وأداء ممثليه، وواحد من أفضل المسلسلات في تكوينات كادراته، خاصةً في الحلقات الأخيرة.
مع فقد حسام لابن من زيجة سابقة، وفقد لابن من زيجة حالية، ومع فقد زوجته لحملها واستحالة حملها مجددًا، يغدو الإنجاب بينهما حلمًا صعبًا، ويغدو التفكير فيه هوسًا لا يتوقف ووسواسًا يستحيل السيطرة عليه. بالتوازي مع بحثه عن ابن، تقرر حنان، في العالم الآخر، إجهاض نفسها لتتحرر من عبودية زوجها بعد أن هجرته، وتقرر نورا الإجهاض كذلك بعد حمل سفاح. حلم حسام ليس إلا كابوسًا بالنسبة لآخرين.
تبدو ثيمة الحمل (الحياة) والإجهاض (الموت) كمحور يدور حوله الأبطال، وعبر كتابة ذكية، يتفكك هذا المفهوم ويسيل من معنى مجرد إلى تجسيد حي، من مدلول نظري لدال متحرك، وهي المساحة التي فيها طُرِح سؤال عن مدى حرمانية الإجهاض. يتبنى حسام، مبدئيًا، الفكر التقليدي السائد كمحرم ديني لزهق روح (مع أنه يسعى لتأجير رحم)، ويرفض التعاون مع د. خالد، طبيب الإجهاض، في مواجهة خالد الذي يرى أن في الإجهاض إنقاذًا لحياة الخاطئة ومنحها فرصة للبدء من جديد في مجتمع لا يغفر الخطيئة، ومن ناحية أخرى إنقاذ للطفل من مصير بائس ينتظره. إثارة هذه القضية عبر الدراما، ينبغي أن يفتح الملف مجددًا خاصةً مع قضية أطفال الشوارع، والقضايا التي تنظر المحكمة المصرية ويرفض فيها الأب الاعتراف بالأبوة، ومع قبول القانون الفرنسي مؤخرًا للإجهاض باعتبار المرأة حرة في جسدها. لكن ما يخصنا أكثر هو الفرصة الثانية لفتاة قد تتعرض للقتل من أهلها بسبب خطأ.
تتصاعد الدراما في خطها الرئيسي مع قرار حسام بتأجير رحم لبويضات زوجة بات مستحيلًا حملها، فيلتقي بحنان، الفقيرة اليائسة، لتكون هذا الرحم. ومن جديد يثار الرأي الديني في قضية تأجير الأرحام ومدى مشروعيته، والخط الفاصل بين "أم" صاحبة البويضات و"أم" حامل. لقد استطاعت الدراما، بفنية عالية، أن تستعرض الأزمة، بل واختارت، رغم الصعوبات، أن يكتمل الحمل، ويأتي المولود/الحلم، لكن في لحظة مجيئه، يودّع حسام الحياة، فلا يجد الحلمُ الحالمَ.
ثمة زوايا متعددة لرؤية العمل. فعلى المستوى الفني والجمالي، تميز المسلسل بحبكة متماسكة وتطور سريع للحدث الدرامي، فلم يترك ثغرة للملل، واستطاع أن ينشئ علاقات منطقية بين الأطراف المختلفة، ويقترب من لغة واقعية يتحدث بها الأبطال والثانويون، ويرسم عالمًا دراميًا هو الواقع المصري بطبقتيه، وجاء الحوار موزونًا ومعبّرًا عن مستوى ناطقيه الفكري والاجتماعي، بتوازٍ مع صورة وتكوينات بصرية كانت في بعض المشاهد مثل لوحات، بالإضافة للمستوى التمثيلي الذي تفوق فيه الممثلون في عكس المأساة.
هذا الشق الجمالي خفّف كثيرًا من ثقل المضمون. منح الدكتور حسام بعدًا أسطوريًا، كإله يوناني يصارع القدر وينتصر في النهاية؛ ومنح لحنان سمة البنت المصرية الأصيلة التي لا تتخلى عن صديقاتها وتتمرد في الوقت المناسب على زواجها وقادرة على الهجر، وتتمتع بالقدر الكافي من الطيبة والمبادئ، حتى لو هرستها الحياة.
لم يكن سهلًا استعراض قضية تأجير الرحم ولا الإجهاض، مجتمعين، دون الوقوع في فخ الكليشيه أو الاستجابة للرأي الديني أو الخضوع لرأي المجتمع أو السائد، وهو ما استطاع أن يهرب منه المسلسل بخفة الفن، إذ حمل المشاهد بعمق إلى أغوار الأبطال، إلى منطقة نرى فيها الجانب الخفي وراء الحدث، وهي المنطقة ذاتها التي نتعاطف فيها مع الإنسان، بعد أن نزيل عنه قشرة الشيطنة، ونزيل عن أنفسنا قشرة القاضي.
كان أمام صناع المسلسل عدة خيارات للنهاية، من بينها أن يكتمل الحمل وتلد حنان ويتسلم حسام وزوجته ليلى المولود، نهاية سعيدة يبتسم فيها الجميع بحسب المخطط له: ابن للزوجين، وأموال لمؤجرة الرحم. غير أن الكاتب اختار نهاية أكثر مأسوية: أن يكتمل الحمل وتلد حنان، لكن مع احتضار حسام إثر ضربة سكين نافذة، فتكون حياته ثمنًا فعليًا لتحقيق حلم زوجته، حب مثالي ونادر أصر عليه البطل حتى النهاية. ثمة فلسفة نيتشوية وراء هذا الاختيار، إذ لا سعادة ولا اكتمال في الحياة، حتى لو تحقق حلم ما، فلن يناله الحالم. غير أن هذه الفلسفة ربما تعكس أيضًا، ولو بشكل مبطن ومتردد، موقف صناع العمل من تأجير الأرحام، وفي هذا تتشابه النهاية، ولو بشكل ظلالي، مع اختيار تولستوي لنهاية آنا كارنينا: إذ الخروج عن الأعراف، مهما كان محقًا وثوريًا، إلا أنه غير محمود العواقب.
وأخيرًا، فالعمل في مستواه الثاني غير المباشر يحمل العديد من الأفكار العميقة حول الحياة نفسها: يرسم التناقض البشري بحسب زاوية الرؤية والمنفعة، ويستعرض الجري وراء الحلم حين يحتاج تحقيقه إلى أفراد آخرين، ويطرح فكرة الخطأ الواحد الوحيد وكيف بمقدروه أن يغير حياة الإنسان.
بـ "صلة رحم" تعود الدراما المصرية لقضايا اجتماعية هامة، بنت اللحظة، وجديرة بنقاش أوسع.