}

"الأستاذ" الفلسطيني: النوايا الطيّبة وحدها لا تكفي!

يوسف الشايب 19 سبتمبر 2024


يُنسب إلى فيكتور هوغو، الروائي والشاعر الفرنسي الشهير، قوله إن الإرادة الطيبة لا تضيف بصلة واحدة إلى الحساء، ولعلّ هذا ينطبق على المخرجة الفلسطينية/ البريطانية فرح النابلسي في فيلمها الروائي الأول "الأستاذ"، والذي عُرض أخيرًا في مسرح وسينماتك القصبة في مدينة رام الله، لعدّة أيام متتالية.

"باسم الصالح" أو "الأستاذ"، الذي هو وصفه الوظيفي كمعلم للغة الإنكليزية في مدرسة "بورين" القرية القريبة من مدينة نابلس، وتعاني من جرائم المستوطنين بمرأى ومشاركة قوات الاحتلال الإسرائيلي باستمرار، وهو أيضًا اسمه الحركي، كما يتضح لاحقًا، وعبر حكايات ماضيه وحاضره ومستقبله المُنتظر، سعت النابلسي إلى تقديم محاكمة سينمائية اتكأت كما أشارت في مطلع فيلمها على وقائع حقيقية.

ورغم الأداء المبدع للفنان الفلسطيني صالح بكري في دور "الأستاذ"، والأداء المتمكّن للفنانة البريطانية إيموجين بوتس في دور "ليزا"، الاختصاصية الاجتماعية والباحثة الإنكليزية، والناشطة لاحقًا، والاكتشاف المتمثل في استثنائية ما قدّمه الفنان الشاب محمد عبد الرحمن في دور "آدم"، والذين حاولوا بقدراتهم رتق كل تمزّق في الحبكة كما في النص بمجمله، لكن نجاحهم لم يكن كاملًا، فلكل منهم يدان اثنتان فقط... والرتوق كثيرة.

ولا تبدو النابلسي استثناءً هنا، فاعتماد الأفلام الروائية الفلسطينية على سينما المؤلف، متأثرة بالنهج الأوروبي، حيث تعلّم الكثير من صنّاع هذه الأفلام وتأثّر بالتالي، أو تحت وطأة الكم الأكبر من التمويل أو التمويل المشترك للأفلام الفلسطينية المنتجة منذ النصف الثاني لتسعينيات القرن الماضي، قبل الاشتراطات التمويلية الأوروبية، غير البعيدة زمانيًا، بالتوقيع على وثيقة إدانة الإرهاب، الذي يعني في الحالة الفلسطينية إدانة غالبية الفصائل الفلسطينية إن لم يكن جميعها، وهو ما كان في اشتراطات التمويل الأميركي قبلها، والتي تطاول قائمة الإرهاب خاصتها منظمة التحرير الفلسطينية نفسها.

لكنّ التأثر والتأثير هذا بالنهج الأوروبي لجهة سينما المؤلف لن يزول قريبًا، وهو ما ترك آثارًا سلبية على مستوى الأفلام الفلسطينية، التي قد ينتزع بعضها الإعجاب عالميًا لأسباب فنيّة لا علاقة لها بالنص والحبكة، فالكثير من هذه الأفلام ينجح في الامتحان، إلا إذا كان "الأستاذ" فلسطينيًّا، أي يدرك مكامن الضعف ولا منطقية الحدث في حكايته التي يعيشها يوميًّا.

وسينما المؤلف تقوم على فكرة أن المخرج هو المؤلف ذاته أو مُساهم في كتابة الفيلم أو إعادة صياغته عبر التدخّل في كتابة السيناريو، وفي أحيان أخرى، والأمثلة كثيرة فلسطينيًّا، يتحوّل المنتج إلى مصوّر و/ أو "مونتير" و/أو منتج، وأحيانًا ممثل.

فرح النابلسي خلال التصوير


وباستثناء القليل من التجارب الفيلمية الروائية الفلسطينية، فإن المخرجات والمخرجين، وفي حال كانوا يمتلكون أدوات الإخراج بتمكّن وإبداع، فإنهم لا يملكون أدوات الكتابة الروائية، والقدرة على الإبداع في المشهدية داخل السرد، ففي غالبية الأمثلة الفلسطينية، عادة ما يكون المخرج المتميّز، حال تميّز، مؤلفًا فاشلًا أو غير مُتميّز على أقل تقدير، وهذا ينسحب على فرح النابلسي في "الأستاذ".

قد يقول البعض إن التشتت في حبكة الفيلم هو انعكاس لتشتّت الحالة الفلسطينية، وهو ما ينسحب على التوتر، وبطبيعة الحال الغضب حتى لو لم يكن مُبرّرًا، فجرائم الاحتلال غير المسبوقة هذه الأيام، سواء في الضفة أو غزة، قد تكون الشمّاعة لمشاهدة فيلم يمزج ما بين سطحية الطرح، رغم أهمية المضامين وما ورائها في توضيح ما هو غائب عن فلسطين لدى المتلقي الغربي، وما بين المخيال الهوليوودي، كما في بعض المشاهد، وإن كانت فانتازيا أحداث السابع من أكتوبر، وتفاصيل حرب الإبادة على غزة، التي أُقحمت في نهاية الفيلم الدائرية، قد تكون مُبررًا لأي مشاهد تبدو غير منطقية، كونها فاقت حدود المنطق، ومخيال كبار كتّاب الفانتازيا والرعب حتى.

ولكن كل ذلك، لا يمكنه تبرير التشوش الذي رافق الحكاية كلها، حدّ التفاصيل الصغيرة، كعدم تقديم اللهجة كما هي في الريف الفلسطيني عامة، وفي "بورين" خاصة، وإن كان التصوير تم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فالقاف هناك تلفظ كافًا أو شينًا ولا تلفظ ألفًا بالمطلق، و"البرّاد" غير وارد في قاموس سكان بورين بل جلّ فلسطين إن لم يكن كلها كرديف لـ"الثلاجة"، التي كانت كأنها حاضنة لنص بدا باردًا حدّ التجمد المُخلّق للملل في بعض مقاطع الفيلم الذي يلامس الساعتين إلا قليلًا، دون تقديم حتى صورة بصرية مُدهشة، فالأداء هو عنصر القوة في "الأستاذ"، ووحده لا يكفي.

وبدت العلاقة، بعيدًا عن منطقية الجغرافيا الواضحة والزمن المتبدل، حدّ السرير ما بين "الأستاذ" والعاشقة البريطانية، أو لبعض الأحداث المرتبطة بالحكاية الموازية وغير الموازية، والمتعلقة بأسرة الجندي الإسرائيلي الأميركي المختطف، ويتورط في حكايته "البوريني" وتلميذه الذي فقد شقيقه برصاصة مستوطن أحرق أرضهم، وخرج بريئًا، وهذا موضوع من المهم طرحه وتسويقه عالميًا، خاصة مع تحوّل الضفة الغربية في زمن الحكومة الحالية المتطرفة، التي تسير على أقدام القتلة، وخاصة بن غفير وسموتريتش، كما حال ذاك الحوار ما بين والد الجندي و"الأستاذ" الذي بات محلّ شك، على لا منطقيته وقد يبرره لا منطقية كل ما يحدث في السردية الفلسطينية منذ عقود، لا سيما في هذه الأيام، مع أهمية تلك العبارة المؤثرة التي يؤكد فيها "الأستاذ" لوالد الجندي المختطف أن لا مكروه سيصيبه، لقناعته أن ابنه الجندي يساوي أكثر ألفًا من ابن الفلسطيني، والذي هو "باسم الصالح" نفسه، حيث كان قضى ابنه في السجن جرّاء الإهمال الطبّي، وبعد اعتقال لمجرد مشاركته في مسيرة ضد جرائم المستوطنين وجنود الاحتلال في قريته.

لقطتان من الفيلم  


ولعل من أسباب إخفاق النابلسي في تقديم فيلم متماسك، رغبتها في تقديم كل الانتهاكات الاحتلالية في الضفة دفعة واحدة، كالاعتقالات والتعذيب وهدم المنازل والحواجز العسكرية وعنهجية الجنود وعنصريتهم حد القتل الهين، وكذلك جرائم المستوطنين وعربداتهم، وهو ما جعل الفيلم يمتد لما يفيض عن تكوينه وقدرتنا.

ويمكن وصف الفيلم، الذي كشف للعالم الكثير ممّا كان لا يعرفه عمّا يحدث من جرائم الاحتلال ومستوطنيه التي تتعملق مع مرور الأيام، أنه شعاراتي إلى حدّ كبير، وفيه الكثير من الصراخ، ما قد يفقده مصداقيته أمام غير العارفين بواقع العالم، ربّما لكونه تخلّق مدفوعًا بالحماسة، التي تُشكر عليها النابلسي وطنيًّا لا فنيًّا، وهو الشعور الفائض الذي عادة ما يرافق الفلسطينيين غير المقيمين على أرضها.

اقتحمت النابلسي في "الأستاذ" عوالم معقّدة، ربّما لا تعرف الكثير عنها، متكئة على ما قالت إنها وقائع حدثت بالفعل، وهذا أمر بحدّ ذاته مهم ومفيد للقضية الفلسطينية في هذه المرحلة تحديدًا، ولكن الفريق الاستشاري المرافق لها، كان عليه عاتق عدم الوقوع في تلك العثرات التي أسقطت الفيلم في شرك الارتباك، وأبسطها "اللكنة" أو الدارجة الفلسطينية المستخدمة، كما أشرت سابقًا، علاوة على بعض الأحداث ذات الاستعارات الهوليوودية، وربّما البوليوودية أحيانًا، لفرط لا إقناعها، بحيث عمدت أو لم تعمد النابلسي إلى ليّ عنق الحبكة، أو بمعنى أدق، تكييفها ليس على مقاس الفنانين، أو تبعًا لتسلسل منطقي في الأحداث، بل تبعًا لما أرادت المخرجة الفلسطينية/ البريطانية قوله، ما جعل من بكري الذي استحق الجوائز العالمية والعربية عن دوره في الفيلم، والبريطانية بوتس أيضًا، يلهثان وراء تجسيد دوريهما بأفضل ما يمكن، وهو ما كان فعلًا، مع أن ذلك لم يحل دون تلعثم "الأستاذ" الفيلم، وإن أجاد "الأستاذ" الممثل صالح بكري الأداء ببراعة متوقعة، أو "الأستاذ" الشخصية "باسم الصالح" الإنكليزية بطلاقة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.