وانطوت استجابته حتى الآن على أمور فاعلة كثيرة، قد لا يكون أبسطها ما يُيسّر للصحافة الحديثة المواكبة للتطورات ألّا تبقى سجينـة الماضي وخصوصًا من حيث الشكل وسُبل الانتشار، وفي الوقت عينه ألّا تتماشى مع "روح الحاضر"، التي تراوح بين حدّ السطحية وحدّ تحكّم من هم خارج عالم الصحافة والإعلام بالميديا.
اقرأ أيضًا: صحة العقل
يحذّر بلينيل من مغبّة تآكل الديمقراطية وخيانة المبادئ الأصلية للجمهورية الفرنسية (ضمان العدالة والتسامح الديني والتضامن الأخوي للجميع)، مشيرًا إلى عديد الممارسات التي من شأن تفاقمها لا أن تتسبّب بهذا التآكل فحسب، بل أيضًا أن تؤدي إلى أن تصبح فرنسا من نواح عدّة ديمقراطية سابقة، أو ديمقراطية متهاويـة، أو جمهورية سلطوية.
ونظرًا إلى تاريخه المهني كصحافي من الصفّ الأول، يبقى في مقدمة هذه الممارسات- كما يشدّد - تبيئة الفكرة القائلة بأن الصحافة سلعة مثل باقي السلع، وليست أداة لإكساب المعرفة لا تنفكّ تقف في صلب حيوية الديمقراطية. ويؤكد بالتالي أن المواطنين- بصفتهم جمهور الصحافة المستهدف - بحاجة إلى المعرفة وأدواتها المتعدّدة كي يكونوا مواطنين فاعلين ومسؤولين. وأن للحق في المعرفة، بالنسبة إليه، الأهمية نفسها التي للحق في الانتخاب.
اقرأ أيضًا: توظيف الدلالة
وعلى صلة بحكم القيمة هذا، سبق للمفكر عزمي بشارة أن اعتبر أنه في حال تكريس فكرة حجب المعرفة ودفع البشر نحو الانحباس ضمن أقفاص ثنائيات قاتلة على غرار "الخير والشرّ" أو "الدكتاتورية والإرهاب" كما هو حاصل في ممارسة بعض النُخب العربية إزاء الثورات، لا يظلّ مكان للمواطن، وعليه أن يختفي من الصورة.
برأي بلينيل، تمنع مضامين سياسة الخوف والكراهية التي تنتهجها أوساط واسعة في فرنسا أخيرًا استمرار الحياة الديمقراطية. وتسفر عن علاقة عنصرية ومهينة مع الفرنسيين من ذوي أصول عربية وإسلامية، وبكلماته تسفر عن وصم جزء من الشعب الفرنسي، وبالتالي وضعه في مواجهة قسم آخر من الشعب الفرنسي. وهي في العمق علاقة مستوردة من سياسة الاستعمار في الأطراف، وتقوم على أساس تمجيد استبداد الأكثرية.
وتعكس هذه العلاقة ما يمكن توصيفه بالعنصرية الجديدة، سواء تلك ضد المهاجرين، أو الناجمة عن وباء الإسلاموفوبيا، التي ما تزال تحتفظ بروح العنصرية الأصلية التي تميز بين البشر وفقًا لأعراقهم أو أصولهم الاجتماعية.
اقرأ أيضًا: حصاد فكري
إن كل من يقرأ كتاب بلينيل "من أجل المسلمين"، والحوار المنشور معه هنا، يكوّن صورة من مصدر أول ذي صدقيـة عن الوضع التعيس الذي يسود في فرنسا (وهو يؤكد أنه سائد في الغرب عمومًا) على الصعيدين الفكري والإعلامي.
لكن برغم ذلك، يتلمّس بعض الأسباب التي تدعو إلى التفاؤل أيضًا.
لعلّ أول الأسباب أن هذا الوضع التعيس الراهن ليس نتاج محاولة ناجحة إنما نتاج تضاؤل الفعل المضادّ.
يقول بلينيل لمحاوِرته: لدينا اليوم إعلام رجعي، مصاب بالرهاب من الأجنبي، بل هو إعلام عنصري، لذا فإن الناطقين باسمه، الأيديولوجيين، لهم اليد الطولى إعلاميًا. لكننا بمواجهة هذا، نبني جزر مقاومة، تعيش في نوع من "المجتمع - الضد".
ولا شك في أن الموقف الجماهيري المتجذّر الذي لا يزلزل هذا الوضع غير قابل للتغيير في غضون فترة قصيرة، بل يتطلب الأمر سيرورة عميقة وطويلة المدى.
عندما كُتب "تاريخ" العنصرية في أوروبا أشير ثقافيًا من ضمن أمور أخرى، إلى كتاب آرثر جوبينو "مقال في عدم المساواة بين الأجناس البشرية" الذي صدر سنة 1855. وكذلك إلى الشاعر الانكليزي روديار كيبلينغ الذي اشتهر بقصيدته التي قال في مطلعها "الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب ولن يلتقيا". بموازاة ذلك أشير إلى الروائي الانكليزي جوزيف كونراد الذي نشر سنة 1899 روايته المعروفة "قلب الظلام" منتقداً فيها الاستعمار البلجيكي للكونغو وصدرت في السنة نفسها التي نشر فيها كيبلينغ قصيدته.
وعندما يكتب "تاريخ" العنصرية الجديدة من المتوقع أن يتم التنويه بكتاب "من أجل المسلمين" الذي كان بمثابة استثناء في المشهد الفكري الغربي والفرنسي لمؤلف استثنائي على أكثر من صعيد.