البدايات
ولد جرجي زيدان، الذي حلت ذكرى ميلاده في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر الجاري، في ظروف صعبة للغاية، فقد كان والده رجلاً أمياً يمتلك مطعماً في ساحة البرج في بيروت يتردد عليه رجال الأدب واللغة وطلاب الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية اليوم). تعلم اللغة الإنكليزية في مدرسة مسائية، وعمل لمدة عامين في صناعة الأحذية، ثم تركها ليساعد أباه في إدارة المطعم، ليحتك هناك برجال الصحافة والأدب مثل يعقوب صروف وفارس نمر وابراهيم اليازجي وسليم البستاني، وكان هؤلاء يدعونه لحضور احتفالات الكلية السورية الإنجيلية فقرر الالتحاق بها لدراسة الطب، ولكنه ما لبث أن تحول بعد أقل من عام إلى الصيدلة.

السفر للقاهرة وترك الطب
في العام 1882، ألقى أستاذه أدون لويس محاضرة أشاد فيه بنظرية داروين وأفكاره عن التطور، لتقرر الجامعة فصله ويتضامن معه بعض الطلاب وعلى رأسهم زيدان، الذي لا يجني سوى الطرد من الجامعة، ليجد نفسه مضطراً بعد ذلك لأن يرحل للقاهرة، وبسبب ظروفه المادية الصعبة لم يستطع متابعة دراسة الطب هناك،

فعمل في جريدة "الزمان" ثم في مكتب البعثة البريطانية في القاهرة، بحيث سافر مع الحملة الإنكليزية إلى السودان عام 1884. بعدها عاد إلى بيروت حيث درس العبرية والسريانية. ثم زار إنكلترا وفرنسا وسويسرا وعاد إلى مصر منقطعاً إلى التأليف والصحافة، فأدار مجلة "المقتطف" لعدة سنوات، قبل أن يحل العام 1892 عندما أسس مجلة "الهلال" التي حررها زيدان بنفسه وصارت فيما بعد واحدة من أعرق المجلات الثقافية العربية التي كتب لها تقريباً أهم وأبرز المثقفين العرب.

كتابات زيدان
توالت كتابات جرجي زيدان، كتب في التاريخ فأصدر "العرب قبل الإسلام" و"تاريخ التمدن الإسلامي" و"تراجم مشاهير الشرق" وغيرها، وكتب في اللغة وآدابها فأصدر "تاريخ آداب اللغة العربية" وغيره، وأصدر سلسلة روايات تاريخ الإسلام ومنها "فتاة غسان" و"عذراء قريش" و"الحجاج بن يوسف" و"فتح الأندلس" و"الأمين والمأمون" و"صلاح الدين الأيوبي" و"فتاة القيروان" و"شجرة الدر" و"المملوك الشارد" وغيرها. وقد ترجمت رواياته إلى الفارسية والتركية والأذربيجانية وترجمت ست روايات منها أخيراً إلى الإنكليزية. أراد زيدان من خلال رواياته أن يقدم للقارئ العربي بأسلوب أدبي مشوق، مزيداً من المعرفة بماضي الحضارة العربية والإسلامية وخصوصاً بالشخصيات النسائية القوية مثل شجرة الدر.

مؤسس الرواية التاريخية
في نظر المستشرق الروسي ز. ل. ليفين، يعد جرجي زيدان مؤسس الروايات التاريخية في الأدب العربي الحديث، وكتاباته المستمدة من تاريخ العصور الوسطى العربية، تتميز باتجاه تنويري واضح وبهدف تربوي هو إبراز انتصار الخير والعدالة والتنوير على قوى الشر والجهل. وهو يلجأ إلى التاريخ العربي، شاجباً الطغيان ومؤيداً النضال ضد الاستبداد الإقطاعي في كل مظاهره، بكل ما أُوتي من قوة، أما بروكلمان فيقول "إنّ روايات زيدان وكتبه التاريخية يعود الفضل إليها في تعريف العالم العربي للمرة الأولى بأساليب البحث الأوروبي ونتائجه على رغم ما فيها من أخطاء".

وعلى حد تعبير ألبرت حوراني، يعد جرجي زيدان "واحداً من أكثر الذين عملوا على إحياء وعي العرب بماضيهم بكتاباته التاريخية المباشرة أو سلسلة رواياته الأدبية التي نهج فيها منهج الكاتب الإنكليزي والتر سكوت، ورسم على غراره لوحة رومنطيقية عن الماضي".
في مقابل ذلك، لم يسلم زيدان من النقد، فاتهم بالمشاركة في المنظمة الماسونية مع يعقوب صروف وفارس نمر وشبلي الشميل وغيرهم من الطلائع الأولى لمعاهد الإرساليات، واتهم كذلك بالتسرع في تأليف كتبه وكتابة مقالاته ودانه بعض هذه الكتابات بتحقير الأمة العربية وإبداء مساوئها، وبأنه تعمّد الكذب والخيانة في النقل والاستشهاد بمصادر غير موثوقة.

رحيله.. التاريخ مرة أخرى
بشكل مفاجئ، وفي الحادي والعشرين من تموز/يوليو 1914، رحل جرجي زيدان، عن عمر يبلغ ثلاثة وخمسين عاماً. رحل أيضاً كما ولد، في فترة تاريخية مهمة، وكأن التاريخ كان بداية وجوده ونقطة التلاشي، ليغادر الحياة قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب العالمية الأولى التي ربما كانت الحدث التاريخي والسياسي الأبرز والأكثر تأثيراً في حياة البشر عبر قرون مضت.