}

أحمد الصافي النجفي.. قيمة شعرية وإنسانية تستحق التأمل

سليمان بختي سليمان بختي 20 أكتوبر 2021

 

 

 

الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1897-1977) ربما هو الشاعر الوحيد الذي سجّل رقمًا قياسيًا في سنوات المنفى وقد بلغت 55 سنة. وهو الذي بلغ اعتزازه بنفسه وشعره ونضاله مبلغًا جعله يقول "فإن لم أكن في أمة الشعر واحدًا/ أكن أمة أعلى من الشعراء"!

ولد أحمد بن علي الصافي الحسيني العلوي في مدينة النجف 1897، وتتحدّر أصوله من أسرة علمية دينية عرفت بآل السيد عبد العزيز ويتصل نسبها بالإمام موسى بن جعفر الكاظم. بدأ الدراسة في سن الخامسة في الكتاتيب لحفظ القرآن الكريم في فترة مبكرة ثم تعلّم الخط والحساب. وقبل بلوغه الحادية عشرة توفي والده بوباء الكوليرا، فأضفى اليتم على حياته حزنًا مقيمًا في وجوده وشعره. كتب في عام 1936 متذكرًا "كانت الصدمة شديدة على نفسي وما زلت حتى اليوم أتمثّل ذكراها الفظيعة وحوادثها المؤلمة، ولا أنفكّ حتى اليوم أشعر بهولها"، والدته من أصول لبنانية تعود إلى مدينة صور وقد توفيت وكان في سنّ الخامسة عشرة. كفله أخوه الأكبر محمد رضا. تابع تلقّي علومه الأدبية والمدنية والطبيعية ومحاضرات عن الفلك والكواكب والطب الإسلامي من خلال جهود علماء الدين. كما درس قواعد اللغة والمنطق وعلم الكلام والمعاني والأصول والفقه على يد أساتذة مرموقين في النجف.

عام 1916 سافر مع صديق له إلى البصرة بحثًا عن العمل ولم يوفّق. ومن هناك إلى إيران ومن ثم إلى الكويت ولم يحظَ بفرصة للعمل. وعانى في رحلته من التيفوئيد وكتب غير مرة: "أسیرُ بِجسمٍ مُشْبِهٍ جسمَ مَیِّتٍ/ كأنّي إذا أمشي بهِ حامِلًا نَعْشِي".

عاد إلى النجف بعد غياب تسعة أشهر وانكبّ على التعمق بالعربية وفنونها. وفي عام 1918 شارك مع أخيه الأكبر في ثورة النجف ضد الاحتلال البريطاني. وفي عام 1920 أسهم وأخوه أيضًا في ثورة العشرين فحُكم عليه بالإعدام إلا أنه تمكن من الفرار إلى طهران عن طريق الكويت حيث عمل مدرسًا للأدب العربي في مدارسها الثانوية.

وأنشد:

       "ولئن أُشْنَقْ تكنْ مقبرتي/ منبرًا يعلنُ جرمَ الإنكليزِ/ ولئن أُسْجَنْ فما الأقفاصُ إلا/ لليثِ الغابِ أو للعندليبِ/ ألا يا بلبلًا سجنوك ظلمًا/ فنُحْتَ لفُرقةِ الغصنِ الرطيب".

ومن هناك بعث النجفي إلى أهله وشعبه بالقصائد الوطنية الداعية للتحرر من الاستعمار. وفي إيران تعلّم الفارسية واتصل بأدبائها وشرع بترجمة رباعيات الخيام. وفي عام 1928 عاد إلى بغداد ليصبح قاضيًا شرعيًا لكن صحته انتكست وتكالبت عليه الأمراض فنصحه الأطباء بالسفر إلى بلاد الشام لاعتدال مناخها ممّا يساعده على الشفاء، وصل إلى سورية عام 1930 وطاب له المقام وأمضى 46 عامًا متنقلًا بين سورية ولبنان.





عام 1941 تفاعل مع ثورة رشيد عالي الكيلاني فزجّ به الإنكليز في السجن في بيروت. فردّ عليهم شعرًا:

ولما رأيت الذنب خــــدمة مــوطني/ حلا السجن حتى خلتُه جنة الخلـــــد

أو: أری في غربةِ الإنسانِ سجنًا/ فكیف بسجنِ إنسانٍ غریبِ؟

وعندما اشتدّ عليه المرض في السجن كان الإنكليز يعلّلون بأنهم أبرقوا إلى الحكومة العراقية يسألونها بانتظار الردّ. مرّ عليه سبعة وعشرون يومًا وهو يستغيث فلا ينقلونه إلى المستشفى، ولا يطلقونه حتى أنشد:

سُجِنتُ وقد أصبحت سلوتي/ من السقمِ، عَدّي لأضلُعي

أعالجُ بالصبرِ جرحَ السّقامِ/ ولکنّ علاجيَ لم ینجعِ

ولکنّهم صادفوا عقدةً/ بأمريَ تُعیي حِجة الألمعي

حکومةُ لبنانَ قد راجعت/ فرنسا لفکِّي فلم تسطعِ

وراحت فرنسا إلی الإنکلیزِ/ تراجعُهم جَلَّ مِن مرجعِ

وقد راجعَ الإنکلیزُ العراقَ/ وللیومِ بالأمرِ لم یُصدَعِ

فقلتُ: إعجبوا أیّها السامعونَ/ ویا أیّها الخلقُ قولوا معي:

أمِن قوّتي صرتُ أم من ضعفِهم/ خطیرًا على دولٍ أربعِ؟!

وذات مرة اعتقلته القوات البريطانية إثر وشاية مدبرة وسجن لمدة 43 يومًا تفاقمت فيها حالته الصحية فنقلوه تحت الحراسة إلى مستشفى سان جورج ثم أعادوه إلى السجن عندما تماثل للشفاء. وفي تلك الفترة كتب ديوانًا كاملًا بعنوان "حصاد السجن". قدّم له رفيق خوري بدراسة قيمة عن شعر السجون، ويقول: "إنها أغزر مجموعة من شعر السجون لشاعر واحد في الأدب العربي قديمه وحديثه، بل أنفس مجموعة شعرية في هذا الموضوع، تشارك شعراء العرب في أفضل معانيهم في هذا الباب، ثم ينذرهم على الجملة سعة وإعرابًا وعمقًا".

يقول النجفي في كتابه "حصاد السجن":

رمونا كالبضائعِ في سجونٍ/ وعافونا ولم يُبدوا اكتراثا

رمونا في السجن بلا أثاثٍ/ فأصبحْنا لسجنِهمُ أثاثا

ترك أحمد الصافي النجفي 17 ديوانًا وترجمة للرباعيات وقد ذاع صيته عربيًا وذلك بعد نشره بعض القصائد الوطنية والقومية في جريدة "السياسة" المصرية. وقد وصفه محمود عباس العقّاد بأنه "يمثل بحق أشهر شعراء العربية رقّة وثورة وإخلاصًا للقضايا الوطنية والعربية". وأضاف: "لا يكفي أن يدرس الصافي أديب واحد وذلك لسعة آفاقه الشعرية وعمق تفكيره وأساليب بنائه الصورة الشعرية وقوة مضامينها". كما قالت عنه مي زيادة: "إنه شاعر كبير بدون منازع يعيد أمجاد الشعر العباسي إلى الأدب العربي المعاصر".

حفل شعره بمفردات الغربة والسجن ووطأة المرض والمعاني الوطنية والحنين إلى الوطن والغضب من النكوص العربي كما بالرؤى الفلسفية ومقاربة تفاصيل الحياة اليومية.

كان النجفي شفيفًا بإنسانيته مدافعًا عن الضعفاء والمظلومين ويشعر بالانتماء إلى المشرّدين: أراني حرًّا إذ أكون بجمعهم/ ولي في سواهم عيش عبد مقيد.

وفي كل ذلك كان معبرًا ببساطة عن الأشياء. هذه البساطة أثارت إعجاب شاعر كبير هو بدر شاكر السياب لكي يؤدي شهادة حق فيه فقال: "أحمد الصافي النجفي ظاهرة ضخمة في الشعر العربي".

بقي النجفي يبحث عن وطنه وهو عليل من الشوق وعليل من المرض وعليل من الأمل. ولم تفت قسوة الظروف من عزيمته ليعود إلى وطنه رغم معاناته الغربة والسجن والألم. هذا الشاعر العملاق الصعلوك تآخى مع البؤس والحرمان وعرفته الأحياء الشعبية الفقيرة في صيدا وصور والجبل وباب إدريس ومقهى الحاج داود ببساطته وعفويته وزيّه العربي الأصيل.





عندما اندلعت الحرب اللبنانية عام 1975 كان يعيش في بيروت. وفي منتصف كانون الثاني/ يناير 1976 أصابته رصاصات قناص في منطقة البربير وكان خرج يبحث عن رغيف خبز يأكله بعد أن أمضى ثلاثة أيام لم يذق فيها الطعام فحمله بعض المارة إلى مستشفى المقاصد ولم يطل بها مكوثه لصعوبة الوضع آنذاك فنقل إلى بغداد في 19 شباط/ فبراير 1976 وقد كفّ بصره قبل عودته وأصبح مقعدًا لا يستطيع الحراك. وقال شعرًا:

يا عودةً للدارِ ما أقساها/ أسمعُ بغدادَ ولا أراها.

وقال أيضًا: ضاعت عويناتي فمن يلقاها/ هي أعيني ضاعت فكيف أرى.

وقال أيضًا: بين الرصاص نفدت ضمن معارك/ فبرغم أنف الموت ها أنا سالم/ ولها ثقوب في جداري خمسة/ قد أخطأت جسمي وهن علائم".

أجريت له في بغداد عملية ناجحة لإخراج الرصاصة من صدره، ولكن زادته ضعفًا ونحولًا فأسلم الروح في 17 حزيران/ يونيو 1977 عن عمر بلغ 80 عامًا. مضى دون ضجيج ولا مراث، وكان مشيّعوه أقل من عدد دواوينه. صدر بعد وفاته كتاب "قصائدي الأخيرة" كما صدرت أعماله الكاملة بعد وفاته وتضم: "الأمواج" (1932)، "أشعة ملونة" (1938)، "الأغوار" (1944)، "التيار" (1946)، "ألحان اللهيب" (1948)، "هواجس" (1949)، "حصاد السجن" (1951)، "شرر" (1952)، "اللفحات" (1958)، "الشلال" (1962)، "شباب السبعين" (1967) و"ثمالة الكأس" (1971)، ومن آثاره النادرة ترجمة "الرباعيات" للخيام عن الفارسية.

ومن أعجب العجب أنه لم يقم له مهرجان تكريمي في حياته أو أمسية تكريمية رغم كثرة المعجبين بشعره وعلوّ مراتبهم. وقد تحايل عليه كثيرون ولكن بلا طائل فقد كان النجفي رجلًا مبدئيًا صادقًا متواضعًا لا يألف المجاملة.

وكأنه تنبّأ في شعره بذلك فكتب: سيحضر عيدي الدهري يومًا/ لتكريمي إذا نُشر المعري.

وحصل ذات مرة أن همس بأذنه أحد المعجبين من الذين لا يعرفهم على قارعة الطريق: "أنت الطائر المحكي والآخر الصدى". واعتبر الصافي هذا مهرجانه لخلوّه من المجاملة وقال شعرًا:

"جاء من لا أعرفه قال سلام/ قلت من؟ قال من بشعرك هامدًا/ كان ذلك السلام لي مهرجانًا/ مهرجاني على الرصيف يقام".

سئل أحمد الصافي النجفي ذات مرة وكان يقيم في لبنان عن أمير الشعراء، فقال: "سألتني الشعراء أين أميرهم/ فأجبت: إيليا بقول مطلق (ويقصد الشاعر إيليا أبو ماضي). قالوا وأنت: فقلت ذاك أميركم/ فأنا الأمير لأنه لم تخلق".

وأخيرًا، عرف الشاعر أحمد الصافي النجفي بسيرته الشعرية والنضالية وبتواضعه الجمّ وكان له شهرة في العراق وسورية ولبنان والعالم العربي. ورغم ذلك فقد ناله الكثير من الغبن والظلم. إنه قيمة شعرية وإنسانية تستحق التأمل والاعتبار وتغني تراثنا الشعري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.