}

ثروت عكاشة في مئوية ولادته.. الثقافة سلوكًا حضاريًا

سليمان بختي سليمان بختي 16 مارس 2021
استعادات ثروت عكاشة في مئوية ولادته.. الثقافة سلوكًا حضاريًا
ثروت عكاشة (1921 ـ 2012)

حتى يومنا الحاضر، لا يزال اسم ثروت عكاشة (1921 ـ 2012) يرن ويعكس دوره الفعال والمميز في وزارة الثقافة والإرشاد في مصر زمن جمال عبد الناصر، وكان من ضمن الضباط الأحرار. وأيضًا، في ثقافته الواسعة والعميقة، ومؤلفاته وترجماته. وهذه السنة هي مئوية ولادته.
ولد ثروت عكاشة في حي العباسية في القاهرة. نشأ وترعرع في بيت صغير، ولكنه كان ذا طموح كبير، وأحلام عالية. نال شهادة البكالوريا، وكان من زملاء دفعته إحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ. كان جده العمدة يشجعه على ركوب الخيل، فأحسنها، وتعززت لديه أخلاق الفروسية ونبلها. مال به والده إلى كلية الحقوق، حيث قضى ستة أشهر ولم ينجذب إلى مواد القانون. كان تواقًا إلى الأدب والفن من دون أن يكون بعيدًا عن مجال العسكرية. ومن دون علم أبيه، التحق بالكلية الحربية (1939)، ثم بكلية أركان الحرب (1945 ـ 1948)، وربطته صداقة قوية مع جمال عبدالناصر، وعبدالحكيم عامر. وتوطدت هذه الصداقة في مشاركته في حرب فلسطين 1948 في معركة الفالوجة. انضم إلى الضباط الأحرار، وشارك في ثورة 1952. ويقول خالد محي الدين إن دور ثروت عكاشة كان مؤثرًا من زاويتين: مشاركته الفعالة في رسم الخطة العامة، وفي تأمين الجسور والكباري ليلة تنفيذ الثورة. نال عكاشة دبلوم الصحافة في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول 1951، وترأس تحرير مجلة التحرير (1952 ـ 1953). ثم تم تعيينه ملحقًا عسكريًا في بون، وباريس، ومدريد (1953 ـ 1956)، وسفيرًا لمصر في روما (1957 ـ 1958). هذه الفترة التي قضاها في الخارج أفادته كثيرًا، وأغنته في تعزيز ثقافته، والانفتاح على الحضارة الغربية وفنونها، والنهل من مصادرها الأساسية. فقد كان من الزوار الأساسيين للمتاحف والمعارض في أوروبا، لسبر مضامينها، واكتشاف كل معالمها الثقافية والعمرانية. كما اكتسب احترام المسؤولين في تلك الدول، وعمل على تعزيز الصداقات معهم.

كانت تلك المرحلة من أخصب سنوات حياته وأغناها. نسج لقاءات مختلفة مع أوروبا الحضارية. كما صادق في باريس المفكر جان بول سارتر، والروائية سيمون دي بوفوار، والكاتب والوزير، أندريه مالرو، واستطاع إبان عمله، كملحق عسكري في باريس، رصد صفقات الأسلحة الفرنسية إلى إسرائيل. كما استطاع رصد تأثير قرار عبد الناصر تأميم قناة السويس على الأوساط الفرنسية. وتمكن من الحصول على خطة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وأرسلها إلى عبدالناصر.
عينه عبد الناصر عام 1958 وزيرًا للثقافة والإرشاد. وكانت سابع وزارة ثقافة في العالم. وهنا لمع اسمه، وتجلت إنجازاته. أول ما فكر فيه ثروت عكاشة حين تولى وزارة الثقافة هي "الثقافة الجماهيرية".

ثروت عكاشة وجمال عبد الناصر


زار يوغوسلافيا، وعاين كل مواقع الثقافة والفنون ومظاهرها ومفاصلها، وعاد بتقرير يفصل فيه ويتناول كل أنواع الفنون، من رسم وموسيقى ورقص ونحت ومسرح وسينما، لأجل نهضة الثقافة والفنون في مصر. وكان وراء فكرة قصور الثقافة في المدن الكبيرة في مصر. أمر عبدالناصر بتنفيذ كل ما درج في هذا التقرير، مطلقًا يد ثروت عكاشة بالتنفيذ والمتابعة.

وعرفت مصر في تلك الفترة لجنة دعم السينما، وإنشاء معاهد السينما والمسرح والنقد الفني. ثم ضمها إلى ما عرف بأكاديمية الفنون. واهتم بالمكتبات، وفرقة باليه القاهرة، وأوبرا القاهرة، وأوركسترا القاهرة السيمفوني. ودعا كبار الموسيقيين العالميين إلى القاهرة في افتتاح قاعة سيد درويش. كما أنشأ متحف دار ابن لقمان التاريخي للفنون والرسم. وكذلك أنشأ متحفًا للفن المصري الحديث، وقصرًا للفنون. عام 1960، نال الدكتوراة في الآداب من جامعة السوربون، باريس.
أسهم ثروت عكاشة في العديد من المشاريع الثقافية والحضارية في مصر. وكان له الفضل في إنقاذ معبد أبو سمبل، ومعبد فيله. ويروي عكاشة أنه في فترة تشييد السد العالي زاره السفير الأميركي في القاهرة، جون روريمر، برفقة مدير متحف الميتروبوليتان، وعرض عليه شراء معبد، أو معبدين، من آثار النوبة المعرضة للغرق. قال للسفير الأميركي: "الأجدى القول لماذا لا نتعاون معًا في إنقاذ هذا التراث الإنساني". وفعل المستحيل، وغير في الخطط المتعلقة بمعبدي أبو سمبل، وفيله، وآثار النوبة، واستطاع نقلها وحفظها. ونال الميدالية الفضية لليونسكو تتويجًا لجهوده في إنقاذ المعبدين عام 1968، وكذلك الميدالية الذهبية عام 1970. عين نائبًا لرئيس الوزراء، ووزيرا للثقافة (1966 ـ 1967)، ومساعد رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية (1970 ـ 1972). ترأس المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (1962 و1966 و1970). وكان أستاذًا زائرًا في الكوليج دو فرانس باريس لمادة تاريخ الفن (1973). انتخب زميلًا ومراسلًا في الأكاديمية البريطانية الملكية (1975)، ورئيسًا للجنة الثقافة الاستشارية في معهد العالم العربي في باريس (1990 ـ 1993).




ترك ثروت عكاشة أكثر من 20 مؤلفًا في الفنون والأدب، منها: فنون العصر الحجري، وفنون العصر الفرعوني، وفنون العصر البيزنطي، والفن الإغريقي، وفنون العصر الروماني، وفنون الرينسانس، والفن الهندي، والفن الصيني، والفن الياباني، والفن الفارسي. وأصدر أيضًا "موسوعة التصوير الإسلامي"، ولم يوافق الأزهر عليها، فطبعها في لبنان. وكذلك "معجم المصطلحات الثقافية"، والعديد من الترجمات للمسرح المصري، ومصر في عيون الغرباء، والزمن ونسيج النغم. كما أحب جبران، وشغف بعالمه، وترجم له "النبي"، و"حديقة النبي". وأصدر "مذكرات ثروت عكاشة"، وفاخر بإنجازاته: دار الأوبرا، ونوادي الثقافة، والأعمق إحياء هوية مصر الحضارية، والنظر إلى مستقبل الثقافة في بلاده، باعتبارها أفقًا إنسانيًا حضاريًا.

كان ثروت عكاشة فارسًا مثقفًا ومخلصًا لوطنه وثقافة بلاده وآثارها. وعمل على إغناء ثقافة شعب بلاده، وفتح نوافذ على العالم عن طريق الفن والموسيقى والنحت والآثار والمعمار. وكان يردد دائمًا "العين تسمع والأذن ترى". أطلق عليه بعض النقاد لقب "مارشال الثقافة". حاز العديد من الجوائز والأوسمة، منها: وسام الفنون والأدب الفرنسي 1960، ووسام حقوق الشرف الفرنسي 1968، وجائزة الدولة التقديرية في الفنون 1987، وجائزة مبارك في الفنون 2002. ولكن ما يسجل له في مئويته حقًا أنه وضع خريطة ثقافية لمصر يُحتذى بها، وجعل الناس تحب الوطن من خلال ثقافته وفنونه وتاريخه. وأخيرًا، جعل من الثقافة سلوكًا حضاريًا. وكان الضابط والأديب والسفير والوزير والأكاديمي، وكان وردة في عروة الفارس النبيل، وعزة مصر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.