}

مئوية فرح أنطون.. داعية التسامح الديني والاجتماعي ونبذ التعصب

سليمان بختي سليمان بختي 23 يناير 2022
استعادات مئوية فرح أنطون.. داعية التسامح الديني والاجتماعي ونبذ التعصب
فرح أنطون (1874 ـ 1922)



فرح أنطون (1874 ـ 1922) رائد تنويري كبير تصادف هذه السنة مئوية وفاته. هو علم من أعلام النهضة العربية، صحافي وروائي ومسرحي وكاتب سياسي واجتماعي. واحد من أبرز المثقفين اللبنانيين الكبار في الدولة العثمانية. وأول من أنشأ مجلة تقتصر على الأدب، وهي مجلة "الجامعة"، وأول من كتب مسرحية اجتماعية هي "مصر القديمة ومصر الجديدة"، وأول من عرف الثقافة العربية بكارل ماركس من دون أن يقلل ذلك من حماسته لابن رشد. وأول من شارك في أهم مناظرة دينية مدنية بينه وبين الإمام محمد عبده في بداية القرن الماضي، واستطاع انتزاع إعجاب الإمام وتقديره له بعد المناظرة التي انطلقت من اتهامات جائرة. وفي رأي هشام شرابي، هو أول كاتب مسيحي مشرقي يدعو علنًا إلى تفسير عقلاني علمي للقرآن، مستشهدًا بابن رشد قائلًا: "إن هذه السور القرآنية التي تبدو مخالفة للإثبات والمنطق يجب أن تؤول". اعتبره ألبرت حوراني في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة" بأنه طليعة العلمانيين العرب مع شبلي شميل. أما الناقد مارون عبود فكتب عنه، وعلى طريقته: "اشتراكي محموم، حرارته دائمًا فوق الأربعين، وهو أبو النهضة الفكرية الحديثة في المشرق العربي".
ولد فرح بن أنطون بن إلياس في طرابلس، ودرس في دير كفتين في الكورة. والده كان يعمل في تجارة الأخشاب. سافر الى الإسكندرية في مصر في عام 1897 هربًا من الاضطهاد العثماني، وعمل في الصحافة والأدب، وأسس مجلة "الجامعة"، وتولى تحرير "صدى الأهرام" لستة أشهر. وأنشأ لشقيقته روز أنطون حداد مجلة "السيدات"، وكان يكتب فيها بأسماء مستعارة. هاجر الى نيويورك عام 1907، وأصدر مجلة "الجامعة"، ثم عاد إلى مصر ثانية متابعًا إصدار "الجامعة"، التي توقفت في عددها الأخير عام 1910. تأثر بالفكر الأوروبي، وخصوصًا أفكار المصلحين، مثل أرنست رينان (1883 ـ 1892)، وجول سيمون، وروسو، وفولتير، ومونتسكيو. وكان داعية للتسامح الديني والاجتماعي عند المسيحيين والمسلمين. كما تأثر بأفكار فلاسفة عرب ومسلمين، مثل ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام. وآمن بالاشتراكية عادًا أنها تحمل الخلاص للإنسانية. بعد توقف صدور "الجامعة"، استمر عمل فرح أنطون في الصحافة، يحرر في "الجريدة"، و"المحروسة"، و"اللواء"، و"البلاغ المصري"، و"مصر الفتاة"، و"الوطن". كان يطالب بجلاء الإنكليز عن مصر، ويكتب مدافعًا عن وطنه لبنان وبلاد الشام. بعد الحرب العالمية الأولى، ازداد التضييق على الصحافة، فتوقف عن الكتابة فيها، وتحول إلى العمل في المسرح مع سلامة حجازي، وإسكندر فرح. وبعد قيام ثورة 1919 في مصر، تألف حزب الوفد، فدخل فيه، وعاد الى ميدان الصحافة من جديد. كان فرح أنطون يعمل بجد الى درجة الإجهاد، حتى تدهورت صحته، ورغم ذلك لم يتوقف. ورفض أوامر الأطباء، وتوسل شقيقته روزا وصهره نقولا حداد، وكان يقول: "لا أرتاح وفي عرق ينبض، ولا أطمح في الحياة يومًا واحدًا إلا لأرى هذا الوطن العزيز حرًا". ذات يوم، أعيد من إدارة جريدة "الأهالي" محمولًا إلى البيت، إثر إغماء أصابه، وبقي بعد ذلك طريح الفراش لمدة خمسين يومًا، إلى أن وافاه الأجل صباح يوم الأحد 3 تموز/ يوليو 1922 وهو في الثامنة والأربعين من عمره، حيث دفن في القاهرة.
من أبرز أعماله: "ابن رشد وفلسفته"، و"الحب حتى الموت"، و"الدين والعلم والمال"، و"الوحش الوحش الوحش"، و"أورشليم الجديدة"، و"مريم قبل التوبة". أما ترجماته فهي: "الكوخ الهندي"، و"بول وفرجيني"، و"أتالا"، و"ابن الشعب"، و"نهضة الأسد"، و"تاريخ المسيح"، و"تاريخ الرسل"، وغيرها.






عكست ثقافته انحيازه للإنسان والعقل، وأراد نشر النظريات العلمية والفلسفية والاجتماعية التي هزت الغرب علَّ الشرق ينتفض ويخطو نحو التحرر الفكري والرقي الإجتماعي والعلمي. أثارت كتابات فرح أنطون بجرأتها وأفكارها التنويرية الداعية إلى التسامح ونبذ التعصب واحترام عقول الناس ردة فعل بعض الكتاب السلفيين، ورجال الدين المسلمين والمسيحيين، الذين انتقدوه واتهموه بالإلحاد. كل حياته كانت معارك مستمرة لأجل الحرية، ودفاعًا عن العقل والعلم. وكانت مقالاته تغلي من فرط هجومها على الظلم والطغيان والاستبداد، ما تسبب في إغلاق كل جريدة كتب فيها. وكانت سلطات الاحتلال تتعقب الصحف التي يكتب فيها وتغلقها، حتى اشتهر عنه بأن مقالًا واحدًا منه يكفي لإغلاق أي جريدة. أغلقت بسببه صحيفة "مصر الفتاة"، و"الأهالي"، و"المحروسة"، وغيرها. يروي صهره نقولا الحداد كيف أن أحد رجال الاحتلال تحدث معه لإقناع فرح أفندي بالهدوء، فرد في كبرياء "نحن محاربون، وإذا أقفلت الصحف نكتب كتبًا وكراريس، ونؤلف روايات تمثيلية عن سكان جزر الواق الواق، والشعب ذكي ويفهم". ورغم ذلك أصابه اليأس أكثر من مرة فكتب: "الناس لاهون بمعدهم وخزائنهم وأنانيتهم فلا تحدثهم عن شيء آخر".




كان همه نقل التفكير بعيدًا عن الغيبيات، والتركيز على الواقع العملي. وكيف نضحي بالحقيقة القديمة غير المثبتة لأجل حقيقة شرعية جديدة. وميز بين ذهنية الناس وذهنية النخبة. ورفض قبول العزاء الذي يقدمه الدين. في رأي بعض النقاد أن عمله الأهم هو "الجامعة"، بمجلداتها السبعة التي وقفت في اٌقل من سنتين، إلى جانب أهم مجلتين في العالم العربي "الهلال"، و"المقتطف". وعلى غلاف المجلة الصادر في 15 آذار/ مارس 1899، كتب شعارها على الصفحة الأولى: الله والوطن الاتحاد والارتقاء. كما زينها بكلمة لجان جاك روسو: "يكون الرجال كما يريد النساء، فإذا أردتم أن يكونوا عظماء وفضلاء فعلموا النساء ما هي العظمة والفضيلة"، وزينها بكلمة ثانية لجول سيمون يقول فيها: "ليست وظيفة المدرسة مقصورة على تعليم العلم فقط، فإن بث الفضيلة والإقدام من أخص وظائف المدرسة".
شارك فرح أنطون في كل المعارك الفكرية التي شهدتها مصر في زمانه، وكان له أكثر من اتجاه وخصوم وأنصار. وكل ذلك عزز في نفسه الثقة والجرأة وعزة النفس. كان رائدًا، والرائد لا يكذب أهله. وكان سليل التحدي والاستجابة لآمال أمته ومجتمعه. صدر من أعماله الكثيرة مختارات نشرتها دار صادر في الخمسينيات، ثم قدمتها كاملة دار الطليعة في مجلدين، وهي اليوم مفقودة، أو ناقصة. والأمل في مئويته هذه السنة أن تنشر هذه الأعمال كاملة مع آراء وشروحات، ذلك أن تكريم الكاتب يكون في نشر أعماله.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.