}

مئوية محمود العالم.. أحد زارعي بذرة التسامح بالثقافة العربية

سليمان بختي سليمان بختي 8 مايو 2022
استعادات مئوية محمود العالم.. أحد زارعي بذرة التسامح بالثقافة العربية
محمود أمين العالم (1922 ـ 2009)

محمود أمين العالم (1922 ـ 2009) باحث وناقد وأكاديمي، ومن أركان مؤسسي التيار اليساري في مصر، ورائد الواقعية الإشتراكية في الأدب. ولا تزال تتصادى إلى الآن عبارة "إلا محمود أمين العالم"، التي قالها عميد الأدب العربي، طه حسين، مستثنيًا العالم من الكتاب الجدد الذين يكتبون أكثر مما يقرؤون، وما يكتبونه لا يدل على ثقافة واسعة وعميقة.
احتفت بمئوية ولادته الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر الشهر الماضي، وتوقفت عند مساهماته في تجديد الفكر العربي، وفي تجلياته النظرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعند مشروعه المرتكز على الفكر الماركسي المرن والمنفتح بعيدًا عن كل جمود.
ولد في حارة الكحكيين في حي الدرب الأحمر في القاهرة، وبدأ دراسته الأولى في كنف الشيخ السعدني في مدخل حارة السكري، ثم في المدرسة الرضوانية الأولية في حي القرية، ومدرسة النحاسين الابتدائية في حي الجمالية، ومنها إلى مدرسة الإسماعيلية الثانوية الأهلية في حي السيدة زينب، ليتخرج بشهادة الثانوية من مدرسة الحلمية الثانوية في حي القلعة. نشأ في عائلة أزهرية، فوالده وكيل الجمعية الشرعية في الحي. وذات مرة، وفي لقاء تلفزيوني، قال العالم: "أنا ابن الشيخ أواصل طريق أبي بوسائل العصر". حفظ القرآن، وكان يفخر بذلك في لقاءاته، مؤكدًا أنه لا تعارض مطلقًا بين الدين والاشتراكية. فالدين له نظرة شاملة واسعة لكينونة الإنسان، أما الإشتراكية فهي أدوات الإنسان لتحقيق العدالة. انتسب في شبابه إلى الحزب الشيوعي المصري، متأثرًا بأستاذيه عبد الرحمن بدوي، وعثمان أمين. درس الفلسفة في جامعة فؤاد الأول (القاهرة)، وتخرج فيها بدرجة الماجستير، وعنوان رسالته "فلسفة المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة ودلالتها الفلسفية". نال جائزة الشيخ مصطفى عبد الرازق، وعين مدرسًا مساعدًا في جامعة فؤاد الأول. سجل العالم بحثًا للدكتوراة بعنوان "الضرورة في العلوم الإنسانية"، إلا انه فصل لأسباب سياسية من القسم عام 1954، بسبب انتمائه السياسي للحركة الشيوعية. عمل مدرسًا خصوصيًا في المنطق والفلسفة، ثم التحق بمجلة "روز اليوسف" كاتبًا افتتاحيتها السياسية، ومقالات في النقد الأدبي، كما عمل محررًا أدبيًا في مجلة "المصور". اعتقل العالم مرار في عهدي الرئيسين جمال عبد الناصر، وأنور السادات. عقب الوحدة المصرية السورية، كتب مقالًا عنها في "الرسالة الجديدة" بعنوان "ميلاد المواطن العربي"، وهذا المقال أشعل الخلاف بينه وبين عبد الناصر. ورغم تأييده للوحدة، فقد انتقدها بأنها "وحدة إندماجية لا تراعي الخصوصيات المحلية لكل بلد"، فاتهم بأنه ضد الوحدة، واعتقل، وحوكم في الإسكندرية. ومن المفارقات الطريفة التي رواها العالم عن أيام المعتقل ما أسماه "مسجد الشيوعيين"، إذ تجمع الشيوعيون المصريون في المعتقل، وصلوا وراء المفكر محمد عمارة، وكان لا يزال شيوعيًا. وروى أيضًا عن السجان الغليظ الذي كان يصرخ في وجهه "يا مسجون اكسر الصخرة بالفأس. الصخرة سبعة أبواب. حدد مكان الباب وأضرب". ثم يلوح بالسوط على جسده. ولكن الأغرب أن هذا السجان كان يأتي إلى زنزانة السجين كي يعلمه أبجديات القراءة والكتابة. وحين سألوه: كيف ذلك؟ أجاب: "الأمر بسيط، فكل منا يؤدي واجبه. أنا أحبه وأشفق عليه وأشعر بالمسؤولية تجاهه، هو ضحية التغييب والجهل. كنت أتعلم منه بالنهار كيف أفتت الصخر، وأعلمه في الليل كيف يفتت أسوار العتمة من حوله". خرج من المعتقل بمناسبة بناء السد العالي، وتصالح مع عبد الناصر، الذي أسند إليه العديد من المناصب.




فعين رئيسًا لمجلس إدارة هيئة الكتاب، ثم رئيسًا لمجلس إدارة مؤسسة المسرح، ورئيسًا لتحرير "أخبار اليوم"، الذي رحل عنها بسبب مقال انتقد فيه الاتحاد الاشتراكي. ظل العالم يناضل من داخل مؤسسات الدولة بين 1954 و1970 محاولًا دفعها في اتجاه الديمقراطية. في 15 مايو/ أيار 1971، استدعي للتحقيق في عهد أنور السادات أمام المدعي العام الاشتراكي بتهمة الخيانة العظمى، وأودع في سجن القلعة. مثل أمام المحقق متهمًا، فإذا به يتهم السادات شخصيًا باتهامات شتى، ثم استعد لمواجهة حبل المشنقة، إلا أنه فوجئ بباب يفتح ليخرج منه مستقلًا سيارة أجرة إلى بيته. لم يهدأ محمود أمين العالم، ولم يستكين، رغم إخلاء سبيله، إذ أنه توجه إلى المحكمة ليشهد لأجل قضية رفاقه في السجن شاهدًا لمصلحتهم. ولكنه عندما ذهب إلى عمله في اليوم التالي وجد نفسه محالًا إلى التحقيق بتهمة التغيب عن العمل، ثم مفصولًا بأمر سيادي. أجبر على الهجرة إلى فرنسا بمساعدة المستشرق الفرنسي جاك بيرك، وعمل مدرسًا في جامعات فرنسية، وظل هناك 10 سنوات، حيث درّس الفكر العربي المعاصر في جامعة باريس. كما درَّس في جامعة عدن في اليمن. وكان عضوًا زميلًا في كلية سانت أنطوني لجامعة أوكسفورد في إنكلترا. وأسس في باريس مجلة "اليسار العربي"، كما أسس جبهة وطنية مناضلة ضد التسويات السلمية التي قام بها الرئيس السادات. عاد إلى مصر في الثمانينيات، وقام بتأسيس مجلة "قضايا فكرية"، واختير مقررًا للجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، لكن قانون العيب حرمه من ممارسة الحقوق السياسية، وصودرت أملاكه.
ترك العالم مؤلفات مهمة، منها: "الإنسان موقف"، و"معارك فكرية"، و"فلسفة المصادفة"، و"هربرت ماركيوز أو فلسفة الطريق المسدود"، و"الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي"، و"مفاهيم وقضايا إشكالية"، و"الفكر العربي بين الخصوصية والكونية" و"مواقف نقدية من التراث"، و"الإبداع أو الدلالة"، و"من نقد الحاضر إلى إبداع المستقبل"، "الثقافة والثورة"، و"تأملات في عالم نجيب محفوظ"، و"الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر"، و"الماركسيون العرب"، و"الوحدة العربية"، و"البحث عن أوروبا"، و"توفيق الحكيم مفكرًا وفنانًا"، و"أربعون عامًا من النقد التطبيقي"، و ثلاثية الرفض والهزيمة.. دراسة في أدب صنع الله إبراهيم"، وديوان شعر بعنوان "أغنية الإنسان" 1970، و"ألوان من القصة المصرية"، بالإضافة إلى عشرات الدراسات والمقالات والمحاضرات في مجلات ودوريات مصرية وعربية وأجنبية.




أصر العالم على أن العمل المسؤول هو المدرسة الحقيقية للنقد المسؤول. وجسد في أفكاره وموقفه تطابقًا شفافًا. وظل قادرًا على تقبل الآخر المختلف، وعلى الانفتاح والتسامح مع ألد خصومه. ولبث وفيًا في التعبير عن أشواق المصريين للتغيير. حتى أن الناقدة ماجدة رفاعة الطهطاوي عدت أن لمحمود أمين العالم مصداقية عالية حتى بين من اختلف معهم فكريًا. ولا تزال كلماته عن فترة السجن في زمن عبد الناصر ترن: "كنت حزينًا بسبب استبداد جمال عبد الناصر، ولكن لأنني لم أشارك عبد الناصر في الإنجازات التي كان يحققها لأمته. وأي إنجاز يتحقق في ظل استبداد وطغيان الظلم. وكيف لا تكفر الأمة بطواغيتها وعندها يتولد لديها تردد وضياع وفقدان لأي مشروع إصلاحي".
يبقى محمود أمين العالم علامة فارقة في الفكر اليساري النقدي العربي، وفي رؤيته للثقافة، وفي إسهامه في زرع وعي مغاير من خلال كتابات نقدية رصينة وعميقة.
توفي محمود أمين العالم يوم 11 يناير/ كانون الثاني 2009، إثر أزمة قلبية، وأهدت أسرته مكتبته إلى دار الكتب المصرية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.